در حال بارگذاری ...
صادق خادمی
صادق خادمی

شهود الفعل المنبسط وحضرة الأرواح

شهود الفعل المنبسط


ما شهدَهُ الإنسانُ النّورانيُّ حتّى الآنَ هو صفاتُ الذّاتِ الإلهيّةِ، التي هي لا نهائيّةٌ، غيرُ محدودةٍ، وعينُ الذّاتِ الإلهيّةِ. ولكنَّ الذَّاتَ الرَّبوبيَّةَ تتميَّزُ بصفاتٍ فعليَّةٍ لا نهائيَّةٍ، وهي المصدرُ الذي تتجلَّى منهُ الظَّواهرُ الفعليَّةُ.

ينقسمُ الظّهورُ الفعليُّ إلى مرحلتَينِ: الظّهورُ المطلقُ المنبسطُ، والظّهورُ المقيّدُ. وهنا نتحدّثُ عن الظّهورِ الفعليِّ المنبسطِ وتفصيلِهِ الاسميّ.

الظّهورُ الفعليُّ المنبسطُ، وهو تعيّنٌ عقليٌّ، يُعدُّ الوجهَ الخلقيَّ للولايةِ الإلهيّةِ، ويُسمّى أحديّةً ساريّةً ربّانيّةً. أمّا الشّأنُ الحقّيُّ للولايةِ فهو مظهرٌ مندمجٌ للتّعيّنِ الأحديِّ. يتميّزُ هذا الظّهورُ بأنّهُ يحملُ مقامَ جمعِ الجمعِ الخلقيِّ، وهو مظهرٌ خلقيٌّ لجميعِ كمالاتِ أحديّةِ الحقِّ سبحانه وواحديّتِهِ، فيُفيضُ هذه الكمالاتِ في جميعِ الحضراتِ الخلقيّةِ، من الجبروتِ إلى الناسوتِ، بنزولٍ وتحويلٍ؛ فيجمعُ بينَ وحدةِ الأحديّةِ وكمالاتِ الواحديّةِ. فهو فيضٌ ربّانيٌّ يتجلّى في كثراتِ النّاسوتِ المتغيّرةِ.

سريانُ الفيضِ المنبسطِ هو مرافقةُ هذا الفيضِ للظّواهرِ من حيثُ هي ظواهرُ، بحيثُ يتوقّفُ ظهورُها ودوامُها على هذه المرافقةِ. وفي هذا الاعتبارِ، لا زيغَ ولا انحرافَ في الظّواهرِ، بل كلُّها متساويةٌ في الشّرفِ والقيمةِ، وإنّما التّفاضلُ في تقدّمِ بعضِ الظّواهرِ في هذه المرافقةِ.

بما أنّ كلَّ ما يتعيّنُ فإنّ محدوديّتَهُ في مظهرِهِ وسطحِهِ وفي ذاتِ تعيّنِهِ، وبلحاظِ الباطنِ، فإنّ الوحدةَ والصّرافةَ والبساطةَ ثابتةٌ، فكثرةُ الخلقِ أمرٌ انبساطيٌّ، صرفُ ظهورٍ وتجلٍّ، ووجهٌ إلهيٌّ متعالٍ، لا استقلالَ لهُ ولا وجودٌ منفصلٌ. وبناءً عليهِ، فلا حاجةَ إلى رابطٍ بين الوحدةِ والكثرةِ، إذ الوجودُ عينُ الوحدةِ. والعشقُ والحبُّ ظهورٌ يتجلّى في تجلٍّ واحدٍ شاملٍ، وفي فعلٍ ظهوريٍّ منبسطٍ لا نهائيٍّ للذّاتِ الحقّةِ، مستغرقٌ في عشقٍ ووحدةٍ مشاعيّةٍ بين المظاهرِ. وهي الوحدةُ العُليا التي لا ذاتيّةَ استقلاليّةَ لها في طولِ الوجودِ ولا عرضِهِ. وهذا الوجهُ هو أسمى الأسماءِ الذّاتيّةِ للحقِّ سبحانه، وظهورُهُ الواحدُ المنبسطُ يتميَّزُ عن الذّاتِ الخاليةِ من التّعيّنِ بقيدِ السريانِ والعموميّةِ والشمولِ. فيسري في جميعِ التّعيّناتِ ووجوهِ الفعلِ الإلهيِّ، وكلُّ ظهورٍ وتجلٍّ فعليٍّ هو آثارُ وأحكامُ مقامِ التّفصيلِ وسريانِ هذا الظّهورِ.

المرادُ من السريانِ هو الظّهورُ والتّجلّي الخلقيُّ الفعليُّ. وهذا الظّهورُ والتّعيّنُ يرافقُ في كلِّ مرتبةٍ تعيّنًا وظهورًا خاصًّا، فلا تتجافى الذّاتُ الحقّةُ عن تعيّنِها بحسبِ ربطِها بالظّهورِ الفعليِّ المنبسطِ. فالذّاتُ الحقّةُ، بحسبِ ارتباطِها بالظّهورِ الفعليِّ المنبسطِ ووجهِها الاطلاقيِّ الخلقيِّ، تسري في جميعِ الظّهوراتِ وسائرِ الوجوهِ الخلقيّةِ. والظّهورُ المنبسطُ، بما هو تعيّنٌ أعلى للحقِّ سبحانه في مقامِ الفعلِ، صرفٌ وتامٌّ وبسيطٌ، متمتّعٌ بجميعِ المظاهرِ الفعليّةِ. ولذلكَ، فإنّ الجلاءَ الأعلى هو أثرُ كلِّ الذّاتِ المقدّسةِ، وأثرُ الذّاتِ المستقلّةِ كلُّهُ أثرُ الذّاتِ، وبما أنّ الذّاتَ الصّرفةَ هي صِرفُ الوجودِ، فإنّ أثرَها الخلقيَّ الكاملَ هو أيضًا صرفٌ وتامُّ الظّهورِ. يشهدُ الإنسانُ الإلهيُّ هذا الظّهورَ البسطيَّ في ذاتِهِ، ويُدركُهُ عيانًا؛ ظهورًا متمتّعًا بكلِّ تجلٍّ ومظهرٍ.

مبدأُ النّظامِ المشاعيِّ المتداخلِ هو خلقٌ أحديٌّ وظهورٌ منبسطٌ وجمعيٌّ، يربطُ الكلَّ ببعضِهِ ارتباطًا جمعيًّا، ومع أنّ كلَّ مظهرٍ وظاهرٍ موكّلٌ بعملٍ ومسؤولٌ عن وظيفةٍ وحكمٍ بحكمِ الحقِّ سبحانه، فلا يمكنُ في هذا الكلِّ أن يُرى مظهرٌ منفصلٌ أو معزولٌ أو مجرّدٌ من الوحدةِ بصورةٍ تحليليّةٍ. والحقُّ سبحانه، في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ وفي جميعِ المظاهرِ، متجلٍّ بصورةٍ جمعيّةٍ مشاعيّةٍ في عشقٍ ووحدةٍ، فعّالٌ لما يريدُ.

مشاهدةُ هذه الوحدةِ، التي تجمعُ ذاتًا وظهورًا في حضورٍ واحدٍ ومجلسِ ذاتٍ ومحضرِ ذاتٍ وظهورٍ واحدٍ وذاتٍ واحدةٍ، حيثُ لا شيءَ سوى لقاءِ الذّاتِ وحضورِها، هي أعلى مراتبِ الشّهودِ والمعرفةِ الفعليّةِ والخلقيّةِ للإنسانِ الصّافي، المتّصفِ بالاقتدارِ والتّمكينِ وجمعِ الجمعِ. والإنسانُ الإلهيُّ إنّما هو إلهيٌّ لأنّهُ، بامتنانِ الحقِّ وموهبتِهِ، متمتّعٌ بهذا اللقاءِ والشّهودِ الصّافي.

يشهدُ الإنسانُ الإلهيُّ، باقتدارِهِ وهمّتِهِ وتمكينِهِ وطمأنينتِهِ وإيمانِهِ الشّهوديِّ الامتنانيِّ وعشقِهِ، حضورَ الحقِّ سبحانه عيانًا، فلا يرى سوى الحقِّ من خلالِ مظهرِهِ المنبسطِ الأحديِّ، دونَ توسطِ قربٍ أو بُعدٍ، ولا مؤثّرَ سواهُ، مع أنّ كلَّ مظهرٍ وظاهرٍ لهُ وجهٌ إلهيٌّ، ولا شيءَ يضمحلُّ أو يستهلكُ هنا. ففي هذا الجمعِ الجمعيِّ، كلُّ شيءٍ لهُ وجهٌ إلهيٌّ وعينيّةٌ، وكلُّ شيءٍ، سواءٌ الوجودُ أو الحقُّ أو الظّهورُ، حسنٌ في محلِّهِ.

لا يُفقَدُ الوجهُ الإلهيُّ للظّهورِ في أيِّ موضعٍ؛ أي إنّ الظّهورَ، بحكمِ ضرورةٍ أزليّةٍ، ليسَ سوى وجهِ الحقِّ سبحانه وتجلّيهِ الإلهيِّ، بحيثُ لا يمكنُ أن يدّعيَ وحدةً مستقلّةً. والمعرفةُ في هذا التّعيّنِ هي مصداقُ العلمِ العناييِّ والظّهورِ المنبسطِ، الذي يحوي جميعَ الظّهوراتِ المتأخّرةِ بصورةٍ بسيطةٍ، ولهُ سِمةٌ فاعليّةٌ بالنّسبةِ إلى ظهورِها. وبعبارةٍ أخرى، إنْ كانَ الظّهورُ المنبسطُ هو التّجلّي الحادثِ للحقِّ سبحانه، فإنّ الظّواهرَ الأخرى هي تجلّياتٌ حادثةٌ لهذا الظّهورِ المنبسطِ في ذاتِ الظّهورِ الحقّيِّ الواحدِ، دونَ أن يكونَ لهُ استقلالٌ في هذه الوساطةِ، فوساطتُهُ إنّما هي بوجهٍ إلهيٍّ. إنّهُ فيضٌ إلهيٌّ واحدٌ منبسطٌ ومطلقٌ، يحملُ تعيّناتٍ لا تُحصى بعشقٍ وسخاءٍ، وكثرةُ تعيّناتِهِ لا تجعلُهُ متعدّدًا أو مكرّرًا.

يتجلّى الحقُّ سبحانه في تجلٍّ وتعيّنٍ ذاتيٍّ واحدٍ، فيُظهرُ الظّهورَ المنبسطَ وجميعَ الظّواهرِ المظهرةِ منهُ ظهورًا خلقيًّا. وظهورُ الحقِّ سبحانه متّسمٌ بوحدةٍ لا تقبلُ التّثنيةَ، فهو في تجلّيهِ يتفرّدُ بالأحديّةِ. هذا التّجلّي الواحدُ السّاري يمنحُ جميعَ الظّهوراتِ الخلقيّةِ تعيّنًا ووجهًا ظهوريًّا ومرتبةً وترتيبًا، فتكونُ كيفيّةُ تعيّنِ الخلقِ تابعةً لفاعليّةِ هذا التّعيّنِ ومُظهرهِ.

تتجلّى الفاعليّةُ في إيجادِ الظّواهرِ المادّيّةِ والمثاليّةِ والملكوتيّةِ والرّوحيّةِ والجبروتيّةِ والمجردةِ بحقيقةٍ إلهيّةٍ ساريّةٍ. فالظّواهرُ الأخرى لوازمُ عينيّةٌ ونسبٌ للظّهورِ والتّعيّنِ المنبسطِ، لا بمعنى اللّزومِ الماهويِّ أو الذّهنيِّ. هذا اللّزومُ العينيُّ يقتضي تشخّصًا لازمًا في عينِ ذلك الظّهورِ الواحدِ، لا في كلّيّتِهِ. ومن ثمّ، فإنّ الظّواهرَ اللّازمةَ هي مظاهرُ شخصيّةٌ خارجيّةٌ، وهي ذاتُها علمٌ، لا وسائطُ كاشفةٌ عن ظواهرَ عينيّةٍ.

يظهرُ الخلقُ الإلهيُّ بحقيقةٍ ساريّةٍ، ويُدارُ على يدِ معيّةٍ قيّوميّةٍ من الحقِّ سبحانه، ويرتقي في سيرِهِ الصّعوديِّ. فهذه الحقيقةُ السّاريّةُ تتّصفُ بسِمةٍ فاعليّةٍ لإيجادِ الخلقِ في سيرهِ التحويليِّ النّزوليِّ. وهاتان الصّفتانِ، أو يدا الفعلِ الإلهيِّ، هما المظهّرةُ والحافظةُ للخلقِ، فلا تتركُ ظاهرًا في أيِّ موضعٍ وحيدًا.

جهةُ إظهارِ الظّواهرِ واحدةٌ مع جهةِ العلمِ بها في الظّهورِ المنبسطِ. وبناءً عليهِ، فإنّ ظهورَ كلِّ ظاهرٍ بالنّسبةِ إلى الظّهورِ المنبسطِ هو عينُ المعرفةِ بهِ. ومن هذا المنطلقِ، فإنّ كلَّ ظاهرٍ يشهدُ الأحديّةَ الرّبانيّةَ السّاريّةَ والظّهورَ المنبسطَ، ينالُ شهودَ حضرةِ الحقِّ سبحانه، ويرى وجهَهُ في كلِّ مكانٍ. هذا الشّهودُ، الذي هو في السّيرِ النّزوليِّ موهبةٌ حقّيّةٌ من جنسِ العلمِ والمعرفةِ، يُمنحُ في السّيرِ الصّعوديِّ في السّفرِ الثّالثِ ومقامِ الولايةِ الكلّيّةِ للمصطفينَ من عبادِ اللهِ.

يمكنُ أن تُشيرَ الرّوايةُ التّاليةُ إلى هذه المرتبةِ من العلمِ والمعرفةِ: روى أبو الصّامتِ، قال: سمعتُ أبا عبدِ اللهِ عليه السّلام يقولُ: «إنّ من حديثِنا ما لا يحتملُهُ ملَكٌ مقرّبٌ، ولا نبيٌّ مرسلٌ، ولا عبدٌ مؤمنٌ.» قلتُ: فمن يحتملُهُ؟ قال: «نحنُ نحتملُهُ.» فهؤلاءِ المذكورونَ، من أرواحٍ وملائكةٍ مقرّبينَ ومرسلينَ ومؤمنينَ، لمّا لم يمتلكوا التّعيّنَ المنبسطَ، فهم محرومونَ من علمِهِ، وأهلُ البيتِ عليهم السّلام هم من يتحمّلونَهُ.

يمكنُ أن تُعدَّ تعابيرُ «أمِّ الكتابِ» و«الكتابِ المبينِ» و«المشيّةِ»، التي تُفسَّرُ بعلمِ الحقِّ الفعليِّ ومخزنِ المعرفةِ الخلقيّةِ، تمثيلاتٍ لهذا الشّهودِ. يقولُ القرآنُ الكريمُ: {حم ۝ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ۝ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ۝ وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} {الزخرف: ١-٤}. فـ«الكتابُ» هو كلُّ شيءٍ متّسقٌ بمنطقٍ صحيحٍ، ومن ثمّ لازمٌ وضروريٌّ. وتعبيرُ «حكيمٌ» يُبيّنُ الطّابعَ الجمعيِّ والإجماليِّ لهذه المرتبةِ من مصدرِ المعرفةِ القرآنيّةِ. ويؤكّدُ ذلكَ قولهُ تعالى: {الر ۝ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} {هود: ١}. فحروفُ «حم» و«الر» قد تُشيرُ إلى ظواهرَ معنويّةٍ ومظهريّةٍ عجيبةٍ متمتّعةٍ بالتّعيّنِ المنبسطِ، وقد عُرّفتْ بحكمِ قولِهِم: «الأمثالُ فيما يجوزُ وفيما لا يجوزُ واحدٌ».

يُوصَفُ تعيّنُ {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} في آيةٍ أخرى بقولهِ تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} {الأنعام: ٥٩}. وهذا التّعيّنُ، إلى جانبِ لقبِ «الكتابِ المبينِ»، متّصفٌ أيضًا بلقبِ «إمامٍ مبينٍ»، كما في قولهِ تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} {يس: ١٢}. وقد وردَ في الرّوايةِ أنّ مصداقَ هذه الآيةِ الشّريفةِ هو أميرُ المؤمنينَ عليه السّلام، حيثُ روى أبو الجارودِ عن أبي جعفرٍ محمدِ بنِ عليٍّ الباقرِ عليه السّلام، عن أبيهِ عن جدّهِ، قال: «لمّا نزلتْ هذهِ الآيةُ على رسولِ اللهِ: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}، قامَ أبو بكرٍ وعمرُ من مجلسهما فقالا: يا رسولَ اللهِ، هو التّوراةُ؟ قال: لا. قالا: فهو الإنجيلُ؟ قال: لا. قالا: فهو القرآنُ؟ قال: لا. فأقبلَ أميرُ المؤمنينَ فقالَ رسولُ اللهِ: هو هذا، إنّهُ الإمامُ الذي أحصى اللهُ تباركَ وتعالى فيهِ علمَ كلِّ شيءٍ.»

كذلكَ يمكنُ أن تكونَ الرّوايةُ التّاليةُ عن الإمامِ الحسنِ العسكريِّ عليه السّلام ناظرةً إلى التّعيّنِ المنبسطِ الفعليِّ، الذي هو وسيطٌ لتدبيرِ الحقِّ سبحانه في الخلقِ: «قلوبُنا أوعيةٌ لمشيّةِ اللهِ، فإذا شاءَ شئنا، واللهُ يقولُ: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}» {الإنسان: ٣٠}. فاللهُ، لا ريبَ، عليمٌ حكيمٌ.

إنّ أوّلَ روحٍ خلقيٍّ هو عقلٌ منبسطٌ كلّيٌّ شاملٌ، يُعدُّ الظّهورَ الأعلى، وهو تجلٍّ لاسمِ «اللهِ» الوصفيِّ. وهو شاملٌ بمعنى أنّهُ لا يقابلُ شيئًا، ولا نظيرَ لهُ ولا مقابلَ، بل هو متفرّدٌ حاضرٌ في صميمِ كلِّ ظاهرٍ وباطنِ كلِّ تجلٍّ، دونَ أن يأخذَ تعيّنَها. هذا الرّوحُ المنبسطُ الكلّيُّ هو أوّلُ تعيّنٍ فعليٍّ، ومظهرٌ مجرّدٌ بسيطٌ شاملٌ مطلقٌ، يحوي جميعَ كمالاتِ عوالمِ الأرواحِ والمثالِ والنّاسوتِ بصورةٍ جمعيّةٍ وبسيطةٍ فعليّةٍ. والظّهوراتُ والمظاهرُ الفعليّةُ الأخرى تتجلّى بواسطتِهِ، وتقعُ تحتَ تدبيرِهِ. ففي هذا العالمِ، تتجلّى النّعمُ كلُّها بوحدةٍ وجمعيّةٍ وكلّيّةٍ وإرسالٍ. وكلُّ اسمٍ من هذه الأسماءِ هو مظهرٌ أحديٌّ للجمعِ الإلهيِّ. والرّوحُ المنبسطُ الكلّيُّ ظهورٌ متميّزٌ أعلى، متمتّعٌ بمقامِ الجمعيّةِ الخلقيّةِ الحقّيّةِ، وكمالِ الرّبوبيّةِ، ووصولٍ إلى ذاتِ الحقِّ سبحانه، ومعرفةٍ بهويّتِهِ الذّاتيّةِ. وقد عُبّرَ عن هذا الرّوحِ الكلّيِّ المنبسطِ بـ«العقلِ الأوّلِ»، وأوّليّتُهُ بالنّسبةِ إلى مظهرِ التّعيّنِ الأحديِّ ومقامِ الخاتميّةِ – الذي سيأتي ذكرُهُ لاحقًا – لا تحملُ جمعيّةَ جمعِ الجمعِ.

وقد استدلَّ صدرُ الدّينِ الشّيرازيُّ على حشرِ العقلِ الصّرفِ إلى اللهِ سبحانه، وفنائِهِ من التّعيّنِ الخلقيِّ، وبقائِهِ ببقاءِ اللهِ، بقولهِ: إنّهُ لمّا لم يكنْ بينَ العقلِ والحقِّ سبحانه حجابٌ، فلا بدَّ أن يتجلّى الحقُّ على الرّوحِ العقليِّ تجلّيًا صريحًا هو عينُ ذاتِهِ، إذ لا جهةٌ ولا صفةٌ زائدةٌ ولا اعتبارٌ زائدٌ على الحقِّ سبحانه. فذاتُ العقلِ وحقيقتُهُ كمرآةٍ صافيةٍ يُشاهدُ فيها وجهُ الحقِّ، أي مثالهُ. وفي ذاتِ العقلِ لا شيءَ سوى وجهِ الحقِّ وتجلّيهِ، فلا يظهرُ فيها شيئانِ: تعيّنُ العقلِ وتجلّي الحقِّ عليهِ، إذ يستحيلُ تكرارُ تعيّنَينِ في شيءٍ واحدٍ، كما يستحيلُ أن يظهرَ من الحقِّ سبحانه بوجهٍ واحدٍ وجهانِ. ولذا قالَ العارفونَ: إنّ الحقَّ لا يتجلّى بوجهٍ واحدٍ مرّتَينِ. ومن هنا يُعلمُ أنّ تعيّنَ العقلِ عينيًّا هو تجلّي الحقِّ بوجهِ ذاتِهِ عليهِ، ووجهُ ذاتِ الحقِّ هو نفسُ ذاتِهِ لا شيءٌ زائدٌ عليها، وهذا هو المطلوبُ.

حضرت الأرواح ومراتب الظهور المقيد


قد ذكرنا أنَّ الظهورَ الخلقيَّ ينقسمُ إلى مرحلتَينِ: الظهورُ المطلقُ المنبسطُ، والظهورُ المقيّدُ. وقد تقدّمَ تفصيلُ أحكامِ الظهورِ المنبسطِ الاسميّةِ.

أوّلُ مراتبِ الظهوراتِ الفعليّةِ المقيّدةِ هي الأرواحُ، وتُعرَّفُ بأنّها عالمُ التجرّدِ الكلّيِّ والاقتدارِ الإلهيِّ، حيثُ تتجلّى العقولُ مفارقةً للمادّةِ. ومن مراتبِ الظهورِ الفعليِّ المقيّدِ أيضًا: الملكوتُ، وهو عالمُ اللطافةِ والنفاذِ القلبيِّ؛ والمثالُ، وهو عالمُ الصورِ المجرّدةِ جزئيًّا؛ والناسوتُ، وهو عالمُ الأجسامِ والمادّةِ. وبناءً عليهِ، تنحصرُ عوالمُ الخلقِ الكلّيّةُ في أربعِ حضراتٍ: حضرةُ الأرواحِ أو العقولِ والمجرداتِ وعالمِ المعاني، وحضرةُ الملكوتِ أو القلوبِ، وحضرةُ المثالِ أو النفوسِ، وحضرةُ الناسوتِ أو الطباعِ والأجسادِ.

بينَ حضرةِ الأرواحِ وحضرةِ المثالِ تقعُ حضرةُ الملكوتِ، وهي تتوسّطُ بينهما لاتّصالِها بالمعاني الروحيّةِ. وينقسمُ عالمُ المثالِ إلى قسمَينِ: عالمُ المثالِ المنفصلِ النّزوليِّ العلميِّ المتعلّقِ بالمعرفةِ، وعالمُ المثالِ المنفصلِ الصّعوديِّ العمليِّ المتّصلِ بالأعمالِ والبرزخِ المعاديِّ. ويمتازُ المثالُ الناسوتيُّ بقدرتِهِ على التفاعلِ مع المثالِ الصّعوديِّ البرزخيِّ في تجربةٍ حيّةٍ.

شهودُ فعلِ الحقِّ سبحانه، بحسبِ الأسماءِ والصفاتِ الفعليّةِ، هو علمُ الحقِّ الفعليُّ. ولا يُطلقُ اسمٌ من الأسماءِ الفعليّةِ على ذاتِ الحقِّ سبحانه، ولا يُشهدُ إلا بحسبِ مظهرِهِ الفعليِّ الخلقيِّ. ومن هذه الخاصيّةِ يُعبَّرُ بتوقيفيّةِ الأسماءِ الإلهيّةِ.

تتولّى الأسماءُ الفعليّةُ تدبيرَ الظواهرِ الفعليّةِ، وهي خاضعةٌ لتدبيرِ الأسماءِ الذاتيّةِ. وقد بُيِّنَ في القرآنِ الكريمِ أنَّ كلَّ ظهورٍ يرتبطُ بأسماءٍ تتناسبُ مع مظهرِهِ، حتى في مقامِ التشريعِ.

حضرةُ الأرواحِ عالمٌ كلّيٌّ يضمُّ عوالمَ لا نهائيّةً تحتوي ظواهرَ ومدبّراتٍ وأسبابًا روحيّةً كثيرةً، كلُّها مفارقةٌ للمادّةِ والصورةِ والشكلِ، مجرّدةٌ بلا وجهٍ مادّيٍّ. ويتمثّلُ حضورُ العقلِ المجرّدِ في الملكوتِ والناسوتِ بصورةِ الإشرافِ والتسلّطِ.

يتحقّقُ التّعيّنُ الروحيُّ في عالمِ الجبروتِ والعقولِ. والروحُ، لنعومتِها ولطافتِها، تُطلقُ على الظواهرِ المجرّدةِ كليًّا، ذاتِ الاقتدارِ والنورانيّةِ، التي تتميّزُ بالخفّةِ وسرعةِ الحركةِ والشفافيّةِ والصفاءِ، شبيهةٌ بالريحِ في سرعتِها وخفتِها. وعلى النقيضِ من الأجسامِ الماديّةِ الثقيلةِ، تُشبَّهُ النساءُ بالريحانِ لنعومتِهنَّ وخفتِهنَّ وبُعدِهنَّ عن الخشونةِ والقسوةِ.

في عالمِ الفعلِ، كلُّ ظهورٍ فعليٌّ تامٌّ، لا ينتظرُ كمالًا ولا يتوقّعُهُ. ونظامُ القوّةِ والفعلِ الفلسفيُّ لا ينسجمُ مع نظريّةِ الظهورِ العينيِّ، إذْ يفترضُ وجودَ استعدادٍ وقوّةٍ، بينما مقامُ الفعلِ خالٍ من القوّةِ والاستعدادِ الذي يُسبقُ الفعليّةَ. فالنظامُ العينيُّ للظهورِ والبطونِ، والظاهرِ والباطنِ، يقومُ على الفعليّةِ الصرفةِ والحضورِ المحضِ، فلا يتخلّلُهُ عدمٌ أو نقصٌ أو انقطاعٌ. وكلُّ ظهورٍ، بحسبِ جمعِ ظاهرِهِ وباطنِهِ، في فعليّةٍ صرفةٍ وحضورٍ محضٍ، لا يفقدُهُ في أيِّ زمانٍ أو مكانٍ، ولا يقبلُ العدمَ. والظهورُ عينُ الارتباطِ بالوجودِ، لكنَّ هذا الارتباطَ الضروريَّ يمنحُ الظهورَ غنىً وبيْنَةً، لا افتقارًا أو حاجةً. فالظواهرُ هي آثارٌ وأحكامٌ وأسماءٌ وصفاتٌ وتجلّياتٌ ومظاهرُ الوجودِ. ولهذا يمتلكُ الظهورُ القدرةَ على قطعِ الطمعِ الكلّيِّ، ودفعِ التوقّعِ والحاجةِ، والشعورِ بالغنى التامِّ. ومن هذا المنطلقِ، لا تتركُ نظريّةُ الوجودِ والظهورِ مجالًا لتصوّرِ نظامِ العلّةِ والمعلولِ أو الفقرِ الذاتيِّ أو الإمكانِ.

التّعيّنُ الروحيُّ الجبروتيُّ هو عالمُ الاقتدارِ والثباتِ والعشقِ الصافي والرفعةِ والهيبةِ والعظمةِ وقدرةِ الحقِّ سبحانه على النفاذِ في الخلقِ وتكوينِهِ بصورةٍ غالبةٍ. فالتّعيّنُ الروحيُّ المجرّدُ يتحقّقُ فعليًّا، حيًّا، بنهايةِ العشقِ والوحدةِ. وقد أعطى الحقُّ سبحانه للظواهرِ الروحيّةِ قدرةَ التدبيرِ والفتحِ والنفاذِ والشقِّ –أي النفاذِ القويِّ والتفريقِ في مقامِ الخلقِ– في قالبِ الفعلِ، بحيثُ يغلبُ الجلالُ عليها ويطغى، بينما يظلُّ اللطفُ مغلوبًا. ويستمدُّ اقتدارُ هذا العالمِ وثباتُهُ من وحدتِهِ واندماجِهِ وقربِهِ من الحقِّ سبحانه وغلبةِ الحقيّةِ عليهِ. وليسَ للظواهرِ الروحيّةِ مقصدٌ سوى التشبّهِ بالحقِّ سبحانه والحشرِ معهُ.

تنقسمُ الظواهرُ الروحيّةُ إلى ظهوراتٍ جماليّةٍ كروبيّةٍ تُسمَّى الأرواحَ العاليةَ، وظهوراتٍ جلاليّةٍ تحملُ حيرةَ الحقِّ، وهي الأرواحُ المقرّبةُ المهيمنةُ، المستغرقةُ في هيامِ الحقِّ وحبِّهِ وعشقِهِ الصافي. وهاتان المجموعتانِ متساويتانِ في المرتبةِ تمامَ التساوي، لا طوليّةَ بينهما البتّةَ، فكلتاهما متجلّيتانِ مباشرةً من الحقِّ سبحانه، مستقلّتانِ في ظهورِهما عن بعضِهما، دونَ توسطِ إحداهما للأخرى. وهذا التساوي يُبرزُ وحدةَ المصدرِ الإلهيِّ في تنوّعِ التجلّياتِ.

في التّعيّنِ الروحيِّ، يُشهدُ اقتدارُ الحقِّ سبحانه، وأنَّهُ سببُ جميعِ الأفعالِ، وأنَّ أيَّ مظهرٍ لا يملكُ ذاتًا مستقلّةً ولا يستطيعُ ادّعاءَ التأثيرِ أو الكمالِ أمامَ الحقِّ. فالحقُّ سبحانه يُزهرُ كلَّ شيءٍ في هذا العالمِ بفتحِ اقتدارِ ذاتِهِ في مقامِ الفعلِ، فيُظهرُهُ ويُبرزُهُ. وتظلُّ الظواهرُ الروحيّةُ في هذا العالمِ في حالةِ حيرةٍ وهيامٍ بسببِ اقتدارِ الحقِّ، وما تراهُ غالبًا هو قوّتُهُ وهيمنتُهُ. وفي النظامِ المشاعيِّ المتداخلِ للخلقِ، قد يرفعُ الحقُّ الضعيفَ الخاملَ، ويُذلُّ العزيزَ القويَّ، فيُظهرُ تنوّعَ تدبيرِهِ.

الجبروتُ والاقتدارُ والرفعةُ أمورٌ نسبيّةٌ تتجلّى في كلِّ ظاهرٍ بحسبِ طبيعتِهِ وبصفةٍ خاصّةٍ. والجبروتُ العقليُّ، كجريانِ الماءِ، يتحرّكُ في مدارٍ طبيعيٍّ، ويتدبّرُ بحسبِ اقتضاءِ كلِّ ظاهرٍ. وعلى الرغمِ من نعومتِهِ، فإنَّ وجهَ الاقتدارِ والفتحِ والنفاذِ والاختراقِ هو الغالبُ عليهِ. ويمتلكُ الروحُ حركةً وتدبيرًا لا يتوقّفانِ على المادّةِ أو النفسِ، فيكونُ مستقلًّا وثابتًا في ذاتِهِ. ومع ذلكَ، يتحوّلُ الروحُ إلى الملكوتِ أو المثالِ عند التدبيرِ في العوالمِ الدنيا، فيكتسبُ وجهًا ملكوتيًّا أو تمثّلًا مثاليًّا.

حضرةُ الأرواحِ مفعمةٌ بالعشقِ والعلمِ والأمانِ والقدرةِ، وهذا ما يمنحُها السّلامَ والطمأنينةَ. ويشتترك عالمُ الجبروتِ مع عالمِ الملكوتِ في أصلِ العصمةِ والصفاءِ وبُعدِ ظواهرِهِما عن التعدّي والتجاوزِ. لكنَّ الجبروتَ، مقارنةً بالملكوتِ، عالمٌ أصفى، مستغرقٌ في النورانيّةِ والعشقِ والعلمِ والوحدةِ بدرجةٍ أعلى، ويغلبُ عليهِ اقتدارُ الحقِّ بمظهرِهِ الجلاليِّ.

في هذين العالمَينِ الخلقيَّينِ، لا تزاحمَ ولا تعارضَ ولا تنازعَ ولا استهلاكَ ولا اصطكاكَ. فكلُّ مظهرٍ وظاهرٍ لهُ دولةٌ محدّدةٌ، يعلمُ من أيِّ سلطانٍ ينتفعُ، وعلى أيِّ ظواهرَ يتسلّطُ، وأيَّ مظهرٍ يجبُ أن يطيعَهُ ويعتبرَهُ سلطانَهُ. وتتمتّعُ ظواهرُ هذين العالمَينِ بحياةٍ تتناسبُ مع طبيعتِهما، بلا إرادةٍ أو اختيارٍ مستقلٍّ، بل تتحرّكُ على مدارِ ربِّها وسرشتِها المقدّرةِ، لتُظهرَ قدرتَها الخاصّةَ في إطارٍ حقّيٍّ. وليستْ هذه الظواهرُ واحدةً عدديّةً، بل هي أرواحٌ شاملةٌ تتكاثرُ وتنتشرُ بزيادةٍ إبداعيّةٍ، فتظهرُ وتتجلّى بلا حصرٍ، متحوّلةً إلى تعيّناتٍ وتنزّلاتٍ وتمثّلاتٍ وتجسّداتٍ، وبأنواعٍ من الإرفاقِ والإمدادِ.

اللوح المحفوظ

ذكرَ القرآنُ الكريمُ {لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} {البروج: ٢٢}. وهذا اللوحُ تعيّنٌ وظهورٌ من العلمِ والأمانِ، قد يكونُ ظاهرًا من الظواهرِ الروحيّةِ. وشهودُ هذا اللوحِ بكمالهِ يتضمّنُ إدراكَ الأنبياءِ أصحابِ الأرواحِ، والإحاطةَ بالملائكةِ والأرواحِ المقرّبةِ. واللوحُ المحفوظُ، بالنسبةِ إلى القلمِ الأعلى الذي هو روحٌ مستقلٌّ، لهُ جنبةُ القابليّةِ، وبنسبةٍ إلى الظواهرِ والمظاهرِ المتأخّرةِ، فهو محلُّ القضاءِ والحكمِ، ولهُ صفةُ الفاعليّةِ. ويشهدُ على ذلكَ الحديثُ الآتي: روى سفيانُ الثوريُّ، قال: قلتُ للصادقِ عليه السلام: «يا ابنَ رسولِ اللهِ، ما معنى قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ {الم} و{ق} و{ن}؟» فقال: «… وأمّا {ن} فهو نهرٌ في الجنّةِ، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: اجمدْ فجمدَ فصارَ مدادًا، ثمّ قالَ عزَّ وجلَّ للقلمِ: اكتبْ، فسطرَ القلمُ في اللوحِ المحفوظِ ما كانَ وما هو كائنٌ إلى يومِ القيامةِ. فالمدادُ مدادٌ من نورٍ، والقلمُ قلمٌ من نورٍ، واللوحُ لوحٌ من نورٍ.» قال سفيانُ: فقلتُ لهُ: «يا ابنَ رسولِ اللهِ، بيّنْ لي أمرَ اللوحِ والقلمِ والمدادِ فضلَ بيانٍ، وعلّمني ممّا علّمكَ اللهُ.» فقال: «يا ابنَ سعيدٍ، لولا أنّكَ أهلٌ للجوابِ ما أجبتُكَ. فَنونٌ ملَكٌ يُؤدّي إلى القلمِ وهو ملَكٌ، والقلمُ يُؤدّي إلى اللوحِ وهو ملَكٌ، واللوحُ يُؤدّي إلى إسرافيلَ، وإسرافيلُ يُؤدّي إلى ميكائيلَ، وميكائيلُ يُؤدّي إلى جبرائيلَ، وجبرائيلُ يُؤدّي إلى الأنبياءِ والرسلِ.» ثمّ قالَ لي: «قمْ يا سفيانُ، فلا آمنُ عليكَ.»

في شهودِ اللوحِ المحفوظِ، تُدركُ مواقعُ الظواهرِ في عالمِ الأرواحِ، وسعتُها، ومقدارُ معرفتِها بحضرةِ الحقِّ سبحانه، وآثارُهُ وأحكامُهُ الباطنيّةُ والظاهريّةُ. ويقولُ القرآنُ الكريمُ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ ۝ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} {البروج: ٢١-٢٢}. وعن أميرِ المؤمنينَ عليه السلام، في روايةٍ نورانيّةٍ: «أنا صاحبُ اللوحِ المحفوظِ، ألهمني اللهُ عزَّ وجلَّ علمَ ما فيهِ.»

وتشملُ هذه المرتبةُ مقامَ الروحِ في روايةِ أبي بصيرٍ، حيثُ قال: سألتُ أبا عبدِ اللهِ عليه السلام عن قولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} {الإسراء: ٨٥}، فقال: «خَلْقٌ أعظمُ من جبرائيلَ وميكائيلَ، كانَ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله، وهو مع الأئمّةِ، وهو من الملكوتِ.»

وعن الأرواحِ التي ترتقي مع الإنسانِ الإلهيِّ إلى مقامِ الأرواحِ، ولا سيّما الروحُ القدسُ، وردَ في روايةٍ عن جابرٍ عن أبي جعفرٍ عليه السلام، قال: سألتُهُ عن علمِ العالمِ؟ فقالَ: «يا جابرُ، إنَّ في الأنبياءِ والأوصياءِ خمسةَ أرواحٍ: روحَ القدسِ، وروحَ الإيمانِ، وروحَ الحياةِ، وروحَ القوّةِ، وروحَ الشهوةِ. فبروحِ القدسِ، يا جابرُ، عرفوا ما تحتَ العرشِ إلى ما تحتَ الثرى.» ثمّ قال: «يا جابرُ، إنَّ هذه الأربعةَ أرواحٍ يُصيبُها الحدثانِ: اللهوُ واللعبُ، إلا روحَ القدسِ فإنّها لا تلهو ولا تلعبُ.»

ويرتقي المحبّونَ إلى غيبِ الملكوتِ بإذنٍ وعنايةِ روحِ القدسِ. وفي روايةٍ أخرى، قال الإمامُ الرضا عليه السلام: «إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أيّدَنا بروحٍ منهُ مقدّسةٍ مطهّرةٍ، ليستْ بملَكٍ، لم تكنْ مع أحدٍ ممّن مضى إلا مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله، وهي مع الأئمّةِ منّا، تُسدّدُهم وتُوفّقُهم، وهي عمودٌ من نورٍ بينَنا وبينَ اللهِ عزَّ وجلَّ.»

وقال الإمامُ الحسنُ العسكريُّ عليه السلام: «وروحُ القدسِ في جنانِ الصاقورةِ ذاقَ من حدائقِنا البَاكورةَ.» أي إنَّ روحَ القدسِ، في جنّاتِ السماءِ الثالثةِ، تذوّقَ نوبرَ ثمارِ حدائقِنا.

الظهور الملكوتي

صحيحٌ أنَّ لكلِّ ظهورٍ وجهًا جبروتيًّا وملكوتيًّا، لكنَّ الظواهرَ الروحيّةَ تُمثّلُ اقتدارَ الحقِّ القاهرِ بصورةٍ خاصّةٍ ومتميّزةٍ، بينما تتميّزُ الظواهرُ الملكوتيّةُ بلطافتِها وملاحتِها وقدرتِها الفريدةِ على التدبيرِ، فهي، كما يُقالُ، تُحقّقُ أهدافَها بنعومةٍ كالماءِ. والملكوتُ عالمُ الثباتِ، لا اختيارَ فيهِ ولا حريّةَ مستقلّةَ، بل هو ظهورُ مُلكِ الحقِّ وسلطانِهِ ونفوذِهِ الغالبِ على القلوبِ وأصحابِها. ويُعدُّ الملكوتُ، مقارنةً بالناسوتِ والمثالِ، عالمًا أعلى، يتمتّعُ بقدرٍ أوفرَ من اقتدارِ الحقِّ بمظهرِ اللطفِ والنعومةِ. فالملكوتُ هو مظهرُ اقتدارِ الحقِّ القويِّ الرفيعِ.

الأفعالُ الملكوتيّةُ الصّعوديّةُ تتحقّقُ بإرادةِ الحقِّ سبحانه، وتتناسبُ مع الأعمالِ والتدبيرِ المشاعيِّ الناسوتيِّ، ولا نفوذَ لظهورٍ خارجَ هذا المقدّرِ.

الظهور المثالي

شهودُ حضرةِ المثالِ والنفوسِ هو شهودُ الظهورِ المثاليِّ للحقِّ سبحانه في مقامِ الخلقِ، وهو المرتبةُ الثالثةُ من الظهورِ الفعليِّ المقيّدِ.

المظاهرُ المثاليّةُ، وإنْ كانتْ متّسمةً بعوارضِ المادّةِ، فإنَّ أحكامَ نوعٍ من التجرّدِ تغلبُ على نفوسِها المستقلّةِ، ولهذا تتمتّعُ بالثباتِ. ولا يتناقضُ الثباتُ مع امتلاكِ الحركةِ.

المظاهرُ المثاليّةُ النورانيّةُ حيّةٌ، وتمتلكُ مراتبَ لا نهائيّةً. وفي الظهورِ المثاليِّ، سواءٌ النّزوليُّ أو الصّعوديُّ، لا اختيارَ ولا حريّةَ مستقلّةَ، فلا نفوذَ للنفسِ الأمّارةِ ولا للشياطينِ ولا للظالمينَ المستبدّينَ في هذا السّاحةِ، ولا تجاوزَ ولا ظلمَ فيها.

في البرزخِ المنفصلِ، ولا سيّما البرزخِ الصّعوديِّ المعاديِّ، يمكنُ مشاهدةُ أعمالِ كلِّ ظاهرٍ بصورةٍ جمعيّةٍ وعيانيّةٍ، مع إدراكِ زمانِها ومكانِها الخاصِّ، وجميعِ خصائصِها التي تميّزُها عن غيرِها، بنيّةِ الفاعلِ وقصدِهِ، ونتائجِها المشاعيّةِ وآثارِها الفعليّةِ.

الحركةُ الوجوديّةُ تحفظُ كلَّ عملٍ مع جميعِ عواملِهِ ومكوّناتِهِ، وترفعُهُ إلى مرتبةٍ أعلى، فتُدرجُ المرتبةَ الدنيا كليًّا في المرتبةِ العليا الجامعةِ. وتتضمّنُ هذه الصّعوديّةُ قبضًا في مقابلِ البسطِ، فتطوي أحكامَ الظاهرِ وأحوالَهُ، وتجمعُ الماضي والحاضرَ والمستقبلَ، والمكانَ وكلَّ مكانٍ، بصورةٍ واضحةٍ، بحيثُ في القبضِ الصّعوديِّ يصبحُ الحاضرُ أبدًا، والأبدُ حاضرًا، والمكانُ كلَّ مكانٍ، وكلُّ مكانٍ هو المكانُ. وتقابلُ الناسوتِ مع الحضراتِ الصّعوديّةِ من نوعِ تقابلِ البسطِ والقبضِ. ولا سيّما مع نظريّةِ الظهورِ والبطونِ، فإنَّ مظهرَ اسمٍ من أسماءِ اللهِ قد يكونُ مظهرًا باطنيًّا لأسماءٍ أخرى، وغلبةُ ظهورِ اسمٍ أو أكثرَ تكونُ في الخصائصِ الظاهريّةِ للمظهرِ فحسبْ.

حسبَ نظريّةِ الظهورِ والبطونِ، تظلُّ جميعُ مراتبِ الظواهرِ في فعليّةٍ تامّةٍ، قابلةٍ للرؤيةِ والحضورِ في كلِّ آنٍ ومكانٍ، إذا أمكنَ إدراكُ باطنِها مع ظاهرِها بصورةٍ جمعيّةٍ.

يُعدُّ المثالُ البرزخيُّ عالمًا متميّزًا عن المثالِ الناسوتيِّ. وقلّما يستطيعُ أحدٌ الدخولَ إلى عالمِ المثالِ البرزخيِّ وراءَ الناسوتِ، أو الارتقاءَ إلى ما هو أعلى منهُ، أي إلى الملكوتِ.

آیا این نوشته برایتان مفید بود؟

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *