در حال بارگذاری ...
صادق خادمی
صادق خادمی

ولاية السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

ولاية السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

الأولياء الإلهيون إما محبوبون حقيقيون ذاتيون، أو محبوبون قربيون (شيعة)، أو محبون قربيون هم تنزيل وتجلٍّ للأولياء القربيين، وأفراد عاديون، كل فئة منهم تجلٍّ لصاحب ولاية، ويجتمعون حول شخصية بعينها.
لكل من الأولياء الذاتيين تجلٍّ اختصاصي، والمحبوبون القربيون يتجلون بحسب المناسبة والانسجام والتعايش النوراني كتجلٍّ لأحدهم.
المحبوبون الحقيقيون الذين اخترقوا باب الولاية، ولهم تجلٍّ حيدري، بل أفنوا التجلّي الحيدري في ذاتهم، هم تجلّي السيدة فاطمة المرضية (عليها السلام). تلك السيدة هي أفضل التجليات، وباطن الغيب، وناموس الله الإلهي، ولم يكن لها نظير ثانٍ. إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) لا يملكان كيفية النورانية والضياء الذي تملكه تلك السيدة. فاطمة (عليها السلام) ليست إمامًا ولا نبيًا، فالإمامة والنبوة والرسالة والخلافة قوالب ضيقة لهذا المعنى الفريد لنور الباطن الإلهي.

نقل السيد محمدحسن ميرجهاني (توفي 1371 هـ.ش) في كتابه جنة العاصمة، مستندًا إلى مخطوطة بعنوان كشف اللئالي لصالح بن عرندس الحلي (توفي 840 هـ)، الحديث القدسي التالي:

«يا أَحْمَدُ! لَوْلَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الْأَفْلَاكَ، وَلَوْلَا عَلِيٌّ لَمَا خَلَقْتُكَ، وَلَوْلَا فَاطِمَةُ لَمَا خَلَقْتُكُمَا»1.

أي: يا أحمد! لولاك لما أوجدت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما.

دراسة سند رواية «لولا فاطمة»

نقل ميرجهاني سند الرواية كما يلي:

«في كتاب كشف اللئالي لصالح بن عبد الوهاب بن العرندس، إنه روي عن الشيخ إبراهيم بن الحسن الذراق، عن الشيخ علي بن هلال الجزائري، عن الشيخ أحمد بن فهد الحلي، عن الشيخ زين الدين علي بن الحسن الخازن الحائري، عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن مكي الشهيد، بطرقه المتصلة إلى أبي جعفر محمد بن علي بن موسى بن بابويه القمي، بطريقه إلى جابر بن يزيد الجعفي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، عن الله تبارك وتعالى، أنه قال: يا أَحْمَدُ! لَوْلَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الْأَفْلَاكَ، وَلَوْلَا عَلِيٌّ لَمَا خَلَقْتُكَ، وَلَوْلَا فَاطِمَةُ لَمَا خَلَقْتُكُمَا»2.

في دراسة سند هذه الرواية، ينبغي التنبيه أولاً إلى أننا لسنا ورثة كامل تراث روايات أهل البيت (عليهم السلام). فبالرغم من الجهود الجبارة لتدوين الأحاديث وتسجيلها، إلا أننا، تحت ظلال الدوافع السياسية الثقيلة وسيطرة السلطات الحاكمة والمحدثين والفقهاء ذوي النفوذ وذوي الفكر الظاهري المتحجر، لم نحظ إلا بالقليل من ذلك التراث الغزير.

إن روايات المعارف تستند إلى التحمل والصبر في التلقي والقراءة. وقد نهت الروايات، التي أوردنا نماذج منها سابقًا، عن إضاعة القضايا الولائية وتبديدها. كان حاملو القضايا الولائية يعيشون في عالم تخيم عليه ضغوط سياسية مبرمجة ومنظمة لإخفاء أهل البيت (عليهم السلام) كأصحاب الحق الشرعي في الحكم والمدعين الدائمين له. يرى المؤرخون أن منع نشر الحديث كان نموذجًا للهندسة السياسية التي مارستها السلطة الحاكمة لعزل المدرسة العلمية لأهل البيت. في مثل هذا الجو، كان نقل رواية في حقانية أهل البيت أو التواصل العلني معهم في ظل انتشار قوات الاستخبارات التابعة للخلافة يعادل النفي والمراقبة والسجن والتفتيش ومصادرة المكتوبات، أو حرق البيوت، أو أسر الزوجات والبنات، أو الإعدام.
فعلى سبيل المثال، نفي أبو ذر الغفاري (توفي 32 هـ) إلى الربذة بأمر الخليفة الثالث عثمان، وقطع لسان ميثم التمار (توفي 60 هـ) بأمر ابن زياد، وقتل رشيد الهجري بأمر ابن زياد أو أبيه زياد بن أبيه بسبب نقل روايات في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام)، هي نماذج تاريخية موثقة لتطبيق عقوبات خرق قانون منع نشر الحديث.
في زمن حكم ابن زياد على الكوفة، عُلّق ميثم التمار، الذي وصف ابن زياد بأنه ابن جارية فاسدة، على نخلته بأمر من ابن زياد. وفي أجواء الكوفة المضطربة، التي كانت حبلى بالأحداث بعد وفاة معاوية، استغل ميثم هياج الجموع الكوفية، التي كانت منبوذة من الحسينيين بسبب تخليها عن الإمام الحسين (عليه السلام)، وصاح من على الدار: «أيها الناس! من أراد أحاديث علي المسجونة فليأتِ!».
ومن الأمثلة المعروفة، مرافقة عطية بن سعد بن جنادة العوفي (توفي 111 هـ) لجابر بن عبد الله الأنصاري في زيارة الأربعين. وقد عوقب عطية بالجلد والتأديب بأمر الحجاج بن يوسف الثقفي (توفي 95 هـ)، أحد جلادي التاريخ، لرفضه سب أمير المؤمنين (عليه السلام).

في مواجهة هذا القمع الشديد والخناق السياسي، استفادت الآلة الدعائية للخلافة من أمثال كعب الأحبار اليهودي، الذي كان يتمتع بحرية مطلقة في التعبير عما تقتضيه يهوديته ومعاداته للإسلام. فالخليفة الثاني، الذي أحرق بنفسه مجموعات الأحاديث المجمعة، كان يدعم كعب الأحبار ويمنحه حرية التصرف وإلقاء الخطب وإقامة دروس ورواية الأحاديث. كان كعب الأحبار من علماء اليهود الذين أصبحوا من المقربين للخلافة في عهد الخليفة الثاني، وهو مثال واضح على كيفية سيطرة اليهود وأرباب السلطة على مصير العلم والمعرفة والثقافة في المجتمع الإسلامي، وتشويه ديانة المسلمين بتحريفات وتزييفات شتى.
كان الحديث في صدر الإسلام أداة دعائية فعالة لخلق ثقافة فكرية، يتمتع بميزة التحفيز العملي وإثارة الحماس والألفة وزيادة شعبية الخليفة بين الجماهير وتطهير أذهانهم. ولذا، كانت الأحاديث مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسلطة والظلم، حيث كان الحكام الجائرون يديرون عالم الأحاديث والمحدثين والرواة بسلطوية مطلقة دون تسامح، لاستيعاب التيارات الاجتماعية لصالحهم وإبطال التيارات المعارضة.

في مثل هذا الجو الضيق والخانق، حيث كان الخوف على الأرواح والأعراض سائدًا، وبقي قبر أمير المؤمنين (عليه السلام) مخفيًا لما يقارب قرنًا، وظل قبر السيدة فاطمة (عليها السلام) مخفيًا حتى عصر الظهور، وكان السب واللعن في خطب صلاة الجمعة قانونًا رسميًا بأمر معاوية، فهل يمكن تسجيل أحاديث الحقانية والمناقب علنًا وتدوينها ونشرها تحت سيطرة جهاز استخبارات الخلافة المتشعب؟ كيف يمكن إظهار حلقات الرواية وتعريف الرواة الذين يخشون على أرواحهم ولا يتمتعون بالأمان؟
لهذا، بقي كثير من الرواة الولائيين مجهولين، وخُزنت كتبهم ومكتوباتهم في آبار مغلقة أو أماكن مجهولة، ونُقلت روايات المعارف إما عبر التعليم الشفاهي من الصدور إلى الصدور إذا وُجد صدر أمين يتحمل السماع، أو بقيت محبوسة في الصدور والآبار دون أن يتسرب منها خبر. في مثل هذه الأجواء، فإن مجهولية الراوي أو انقطاع بعض حلقات السند أو الاستناد إلى كتب لم يبق منها أثر، هي أمور منطقية في روايات الحقانية والمناقب والاتجاهات الدينية والسياسية للشيعة. إن التدقيق الداخلي للحديث هو الذي يمنح الرواية ورواتها المصداقية، وليس قوة أو ضعف السند.

إلى جانب هذا المعارضة المنظمة من السلطة الجائرة، ينبغي إضافة سيطرة التيار الظاهري المتحجر على الحوزات الحديثية والعلمية. فالظاهرية الشيعية النابعة من فقه جاف منقطع عن العلم وغير مرن علميًا من جهة، وتأثير الفكر الوهابي لبعض الشيعة الذين اشتهروا بالعلم الديني وقوة بعض الشخصيات منهم من جهة أخرى، أبقت أهل الولاية والمحبة في حالة ضعف وانزواء دائمين. أسباب هذه الظاهرة وكيفيتها ينبغي البحث عنها في التاريخ المنصف.

إن سند رواية «لَوْلَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الْأَفْلَاكَ» المنقول عن علماء دين صادقين من كتب كانوا يملكون الوصول إليها، يتمتع بمنهج العقلاء في نقل الأخبار وتأكيدها. والعقلاء لا يقبلون التشدد والوساوس التي يبديها منتقدو سند هذه الرواية في كتاباتهم، ولا يعتبرون هذه الانتقادات متماشية مع المنهج العقلائي في الرواية والنقل.

تكملة الترجمة (السياق التاريخي والفكري)

في سند رواية «لَوْلَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الْأَفْلَاكَ» التي تصل إلى الشيخ الصدوق، أُشير إلى أن السند بين الأفراد الذين يوجد بينهم تعليق هو سند متصل، وحلقات السند، وإن لم تُذكر، فإنها كانت قائمة بحسب شهادة من يملكون معايير التوثيق. لذا، لا يمكن الاعتراض على حلقات غير مذكورة أو وجود انقطاع طويل يمتد لأربعة قرون بين الشهيد الأول (استشهد 786 هـ) والشيخ الصدوق (توفي 381 هـ)، أو بين الشيخ الصدوق وجابر بن يزيد الجعفي (توفي 128 هـ). ربما كان لدى هؤلاء وصول وثقة بكتب مكتوبة في تلك الفترة، لكن تلك الكتب، بمرور الزمن وبسبب الإهمال أو التدخلات الفكرية والثقافية المتعمدة تحت عنوان نقد الرواية، أو بسبب نقص الإمكانيات المالية والتضييقات التي واجهها العلماء المستقلون عبر التاريخ، أو بسبب هيمنة المذهب السني وسيطرة الخلفاء الجائرين، وبخاصة مع نهب التراث الثقافي والكتب العلمية للإيرانيين وأهل الإسلام من قبل اليهود، لم تصل هذه الكتب والوثائق المتصلة إلى الأجيال اللاحقة. هذا النهب الفكري وسرقة التراث الشيعي والكتب الإيرانية كان لافتًا بشكل خاص في عهد القاجاريين والبهلويين بفعل الاستعمار الغربي.

الشيخ الصدوق ومواجهة تيار الغلو

وإن كان الشيخ الصدوق موجودًا في سند رواية «لَوْلَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الْأَفْلَاكَ»، فإن هذه الرواية لم توجد في آثاره، ربما بسبب منهج التصفية الذي اتبعه الشيخ الصدوق في مواجهة روايات المناقب والحذر من الوقوع في الغلو والمبالغة.

لقد أورد الشيخ الصدوق في كتبه روايات اعتمد عليها بناءً على نقده وفقًا لعالمه الفكري، وكان فضاؤه الفكري، كما يقول الشيخ المفيد، ينفي الدرجة الأولى من الغلو، وهي نفي السهو عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله). كثيرًا ما أدى التحوط الفكري خوفًا من الغلو إلى حرمان المفكر من معارف عليا وانحرافه عن التصديق الولائي.

ماهية الغلو

المراد بالغلو هو المبالغة في التفكير في ساحتي الذات والصفات. فإذا نسب المتكلم هوية استقلالية أو كمالًا ذاتيًا أو صفاتيًا بشكل ذات مستقل لظاهرة هي في الحقيقة مجرد تجلٍّ ولا شيء سواه، فقد وقع في الغلو.
الغلو أمر نسبي، وبحسب الاصطلاح يعتمد على المباني المعرفية للعلماء، وقد تبدل عبر التاريخ، فكل عالم يرى ما هو أعلى من معرفته مبالغة، وما هو أدنى منها قصورًا أو تقصيرًا.

بحسب رأي بعض علماء مدرسة قم، فإن المبالغة في نقل الكرامات والعلم بالأسرار والمكنونات السماوية والأرضية لأهل البيت (عليهم السلام) كانت علامة الغلو. بينما نفى الشيخ المفيد هذا المعيار واعتبره تقصيرًا، لكنه بدوره تحفظ في نسبة علم الغيب المطلق إلى الأئمة (عليهم السلام)، معتبرًا ذلك مبالغة.

في بدايات عصر الغيبة، ظهر تيار تجديدي احتج على التيار التقليدي المؤمن بالبعد الغيبي لأهل البيت (عليهم السلام)، واتهمه بالغلو، بينما كانت المفاهيم العميقة لآرائهم قد طورتها أهل البيت أنفسهم. لقد كان لعلم الإمامة الاثني عشرية ومباني الميتافيزيقا والعرفان القديم للإمامية تقليد أولي يمكن تسميته بالتيار الباطني القدسي، وكان التيار السائد منذ حياة الأئمة (عليهم السلام) حتى نصف قرن بعد الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر (عجل الله تعالى فرجه الشريف). وقعت الغيبة الصغرى عام 260 هـ (874 م) والغيبة الكبرى عام 329 هـ (941 م). كان هذا التقليد يتميز بخصائص باطنية وعرفانية وغيبية، وفهم باطني قدسي أو موهبة ولاية إلهية أعلى من ذلك.

في هذا التقليد، كان الأئمة (عليهم السلام) يقدمون العقل كمفتاح أسرار مدرستهم، ويعتبرونه غالبًا مرادفًا للإمام والمرشد الإلهي بمعناه الكامل، أي الإنسان الإلهي. هنا، يشمل العقل المنطق والعقلانية، وكذلك الشهود القلبي والحكمة النورانية التي تحفظ جميع الأبعاد القدسية. في هذا التفسير الأولي، ليس العقل مجرد أداة للتفكير العقلي، بل هو أداة لإدراك المعارف غير العقلية، أي المعارف النورانية، وتفسيره العلمي هو الملكة الموهوبة القدسية، أو الفهم النوراني، أو الشهود الربوبي، أو أعلى من ذلك، موهبة الولاية الإلهية.

هذا التقليد الباطني القدسي نقله بشكل عام محدثو المدرسة الإيرانية في قم والري، مثل الصفار القمي، والشيخ الكليني (توفي 329 هـ)، وابن بابويه (توفي 381 هـ). وضعت غيبة الإمام محمد بن الحسن المهدي القائم (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، آخر أئمة الشيعة الاثني عشرية، هؤلاء الرواة في ظروف حساسة للغاية. وتزامن بداية عصر الغيبة مع انتشار علم الكلام العقلاني والمفهومي، مما جعل علماء الإمامية، الذين حُرموا من القيادة الإلهية والروحية، يواجهون بيئة اجتماعية متخاصمة وسياسية غير مستقرة. في هذا العصر، ترسخت العقلانية المفهومية بين النخب، واضطر علماء الإمامية إلى التسلح بأدوات ومناهج خصومهم من أهل السنة لمواجهتهم في المناظرات العقائدية، مع إيجاد توازن بين حفظ مدرستهم والاختلاف العقائدي مع الإيديولوجيات السائدة. أدى هذا الجهد إلى تحول العلم الديني تدريجيًا إلى فن ديني، وفقدان هويته الباطنية بانقطاعه عن الأساتذة الباطنيين، وأحيانًا بالهجوم عليهم.

كان الشيخ المفيد (توفي 413 هـ) من أبرز من بذلوا جهودًا في هذا الاتجاه. تطلب هذا الجهد العلمي الظاهري بمنهج عقلي صرف أن تصبح العقلانية المفهومية والدراسية المكتسبة المنقطعة عن الملكة القدسية هي التيار السائد في المراكز العلمية. والسيد مرتضى (توفي 436 هـ)، تلميذ الشيخ المفيد وقاضي عبد الجبار المعتزلي، من الشخصيات البارزة التي استندت إلى مفهوم جديد للعقلانية لتهذيب مجموعة الأحاديث القديمة، مستبعدًا الروايات ذات الطابع العرفاني والمتعلقة بالإمامة والولاية الباطنية. وهكذا، هُمش البعد الباطني والملكة القدسية للأولياء في مواجهة نمو علم الكلام والفقه الظاهري، وتحولت، بجهود الشيخ المفيد وأتباعه في المدرسة العراقية ببغداد، إلى الرؤية السائدة والمقبولة لدى أغلبية الإمامية حتى اليوم.

منذ عهد الشيخ المفيد (وإن كانت هذه الصراعات أقدم)، اتهم العقلانيون الكلاميون والفقهاء الظاهريون، وهم التيار السائد دائمًا، العلماء القدسيين الباطنيين بالتأثر بآراء المتطرفين والغلو والانحراف. وما زالت هذه الصراعات مستمرة في الفضاء العلمي اليوم، متجلية في صورة الظاهرية من جهة، والأولياء المعنويين والمعرفيين والإنسان الإلهي من جهة أخرى، وستشتد في عصر الغيبة حتى يتبين أي تيار سيغلب.

القول إنه يجب التفريق بين الأولياء القدسيين الإلهيين والمحبين والأتباع الصادقين لأهل البيت (عليهم السلام) وبين الغلاة المنحرفين. وقد حارب أهل البيت (عليهم السلام) بشدة انحراف الغلاة، وكفروهم ولعنوهم، وطردوهم من مدرستهم، مؤكدين على ضرورة النقد المضموني للروايات لتجنب أضرار التزوير والأحاديث الغلوية.

من أخطر الغلاة مغيرة بن سعيد، الذي كان، قبل إعلان آرائه الفاسدة، يأخذ أصول الشيعة بحجة النسخ، ويزور الأحاديث في الكتب المنسوخة لنشر معتقداته المنحرفة والغلوية. وقد روى الشيخ الصدوق عنه:

«أبي ومحمد بن الحسن رضي الله عنهما قالا: حدثنا محمد بن يحيى العطار وأحمد بن إدريس جميعًا عن محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري عن يعقوب بن يزيد عن الحسن بن علي بن فضال عن داود بن أبي يزيد عن رجل عن أبي عبد الله عليه السلام: في قوله عز وجل: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [الشعراء: 221-222]، قال: هم سبعة: المغيرة، وبنان، وصائد، وحمزة بن عمارة البربري، والحارث الشامي، وعبد الله بن الحارث، وأبو الخطاب»3.

لقد أرشد أهل البيت (عليهم السلام) إلى النقد المضموني والتفكير النقدي للأخبار، وفقه الحديث ودرايته، وقياسها على معايير القرآن الكريم والسنة والعقل. وقد همّت مدرسة التشيع، وخاصة أصحاب الكتب الأربعة، بنقد مضموني وتصفية الأحاديث، فاستبعدت كثيرًا من الأحاديث المزورة، وأحيانًا غير المزورة، من الحقل الثقافي والفكري للتشيع. فكتاب الحجة من الكافي، الذي يضم 255 رواية، يحتوي على خمسين رواية في سندها رواة متهمون بالغلو، لكن مضامينها صادقة وخالية من الغلو. من هؤلاء: أحمد بن هلال، أمية بن علي، جماعة بن سعد، داود بن كثير الرقي، صالح بن سهل، عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عبد الله بن قاسم حضرمي بطل، علي بن حسان، قاسم بن ربيع، محمد بن إسلم، محمد بن جمهور، محمد حسن بن شمون، محمد بن سنان، محمد بن عيسى بن عبيد، محمد بن فضيل، محمد بن أورمة القمي، مفضل بن عمر، منخل، وموسى بن سعدان.

اتهم كثير من هؤلاء بالغلو من قبل باحثي مدرسة قم والتيار الظاهري المنقطع عن الباطن، بسبب نقل هذه الروايات. لكن بالنقد المضموني والبحث الداخلي لهذه الأحاديث وعرضها على روايات أخرى خالية من الرواة الغلاة، وبحسب القرائن الأخرى، بل وبحسب منهج الثقة والصدق في نقل الأخبار، يمكن اعتبار كثير منها صحيحًا. وقد برأ رجاليون آخرون أمثال محمد بن أورمة، مفضل بن عمر، محمد بن سنان، داود بن كثير الرقي، ومحمد بن جمهور من تهمة الغلو. وهكذا، لا يُعد إلا عدد قليل من هذه الروايات مرفوضًا، وذلك فقط بناءً على قواعد نقد السند وليس المضمون.


الهوامش

1 نقل من كتاب جنة العاصمة للسيد محمدحسن ميرجهاني، مستندًا إلى كشف اللئالي لصالح بن عرندس الحلي.
2 المصدر نفسه.
3 الشيخ الصدوق، الخصال (مصدر محتمل، يحتاج إلى توثيق دقيق).

تقدم النقد المضموني على النقد السندي

في المباحث المعرفية المتعلقة بالتكوين، يتقدم النقد المضموني للحديث دائمًا على النقد السندي، فلا يمكن أن يكون ضعف السند مانعًا من البحث والتحقيق في مضمون الرواية وفقه الحديث. إن فهم الأحاديث المتعلقة بالساحت الغيبية لأهل البيت (عليهم السلام) يتطلب موهبة الباطنية، والسلوك الروحي، والملكة القدسية، والحكمة النورانية، وصفاء الموهبة، والأنس بأصحاب الولاية، ونفس الحياة المحيية. هذا المنهج في دراسة مضمون الرواية يشكل الأرضية اللازمة للأنس بالمعنى.

سعت الشريعة، من خلال تشريع العبادات، إلى إشراك أتباعها بالقدر الضروري وبشكل عام وشامل مع الأمور الروحية. ولكن، نظرًا لمراعاة حال العامة، فإن من يطلب المعارف النورانية يلزمه أن يبحث في الروايات المعرفية، لا بأسلوب الفقه الظاهري، بل باستكشاف الروايات المتعلقة بالعرفان الباطني الشيعي والولاية والنورانية، من خلال الطهارة والأنس وجاذبية العشق. إن الروايات المتعلقة بالمباحث الروحية نُقلت في كتمان وسرية، وكان التيار السائد في الثقافة العامة للمسلمين إما جاهلاً بهذه المعارف أو غير مؤمن بها، أو متعارضًا معها بتهمة الغلو، ساعيًا إلى عزلها وإزالتها.
ومع أن الحكمة النورانية والولاية والخلق النوراني يهديان كل إنسان إلى أصله وجذره وطينته ونوره، فإن المباحث المتعلقة بساحت الولاية والبعد الروحي والباطني لأهل البيت (عليهم السلام) والإنسان الإلهي في الناسوت هي حكمة مغمورة، ونور خفي وباطني، شبيه بصاحب الولاية في عصر الغيبة (عجل الله تعالى فرجه الشريف) المستتر في الغيب، ولا يمكن العثور عليها علنًا أو على منابر الخطابة العالية. سنتناول هذه النقطة لاحقًا عند تشريح زمن الغيبة.

المقصود مما تقدم أن الحذر من الغلو، وسيطرة التيار العقلاني الكلامي الخالص والفقه الظاهري المغرق في الدراسات السندية المبالغ فيها وغير العقلانية، لا ينبغي أن تمنع من الإيمان الصحيح بفضائل أهل البيت (عليهم السلام) الحقيقية وتكريمهم. في مجال معرفة الساحت الغيبية لأهل البيت (عليهم السلام)، فكما أن الغلو والمبالغة يشكلان عائقًا للمعرفة، فإن التقصير والضيق الفكري والتنگ‌نظرية تعيقان أيضًا. وقد ورد في عدة روايات التشجيع على التفكير المنهجي في هذه الساحت، بشرط ألا يقع في شبكة التقصير أو المبالغة. قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

«إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِينَا، قُولُوا إِنَّا عَبِيدٌ مَرْبُوبُونَ، وَقُولُوا فِي فَضْلِنَا مَا شِئْتُمْ»1.

أي: احذروا الغلو فينا، وقولوا إنا عبيد مربوبون، ثم قولوا في فضلنا ما شئتم.

الفرق بين معيار الرواية التكوينية والتشريعية

وإن كان الحديث النوراني «لَوْلَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الْأَفْلَاكَ» يتمتع، وفق منهج العقلاء في تقييم سند الحديث ونقل القول، بمعايير صارمة لصحة السند حتى وفق علم الفقه وأحكام التعبد، فإن هذه الرواية لا تحمل معنى فقهيًا أو حكمًا تشريعيًا أو تعبديًا، بل تروي واقعًا تكوينيًا ومعرفيًا. إن معيار تقييم الرواية التكوينية يختلف عن التشريعية، ولهما جهازان متمايزان.

الشرع في مجال الأمور التكوينية والمتعلقة بالظواهر يتخذ دور الهادي والمرشد، والروايات في هذا المجال إرشادية تهدف إلى بناء عقل متسق بمنهج الأنس والقرب والمحرمية. في النهاية، العقل هو الذي يقيّم مضمون الروايات الإرشادية بأدوات مناسبة ومتآلفة، ويحكم بصدقها أو كذبها، دون الالتفات إلى سند النقل.

إن الإلمام بلغة الروايات التكوينية لا يتحقق بالمنهج المدرسي والتقنيات المفهومية، بل يتطلب الصدق والصفاء وحياة القلب وعناية ربوبية وتلقي الولاية وقبولًا عاشقًا وأنسًا وألفة وتعايشًا.
إن منتقدي هذه الرواية النورانية ومردّديها محرومون، وربما يمكن القول إنهم قليلو الانتفاع أو محرومون من العقل المتوجه إلى قدس الملكوت، ويعانون من ضبابية وغموض ذهني كبير. وإن كان هناك سوء نية أو غرض خبيث يحرك النقاش في هذه الساحت المعنوية، فإن ذلك يدل على تلوث في الخلفية وطباعهم الجبلية.

من حيث البحث الداخلي، فإن المصادر الروائية الموثوقة نقلت المعنى التكويني لهذه الرواية بثقة وفي مرات عديدة بألفاظ وجمل وقضايا متنوعة. ورد في هذه الرواية:

«يَا أَحْمَدُ! لَوْلَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الْأَفْلَاكَ، وَلَوْلَا عَلِيٌّ لَمَا خَلَقْتُكَ، وَلَوْلَا فَاطِمَةُ لَمَا خَلَقْتُكُمَا»2.

أي: يا أحمد! لولاك لما أوجدت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما.

إن النقل بالمعنى لقضية ما، حيث تتغير بنية الألفاظ النحوية لكن المعنى والمضمون يبقيان ثابتين، هو أمر عقلائي ومقبول وشائع بين الثقافات واللغات، وله سوابق بين المحدثين في عصر الحضور. بل إن بعضهم كان يطلب الإذن صراحة من الإمام المعصوم للنقل بالمعنى، ليكون نقلهم خاليًا من أي شبهة أو خلل في الاستناد إلى المعصوم، وتجنب ارتكاب فعل غير شرعي. كذلك، فإن الحديث القدسي هو إلقاء المعنى في القلب، ولفظه يخضع لصاحب القلب القدسي، ولا يحمل طابع الإنشاء الإلهي المباشر كالقرآن الكريم. ومنهج المنطق يعتمد على المعنى في اعتبار تعدد الروايات.

إن دراسة قوانين كل علم وتبيين منهجيته تقع على عاتق منطق ذلك العلم. ومعناشناسية الرواية ليست خارجة عن منطق العلم. أي أن قوانين كل علم يجب أن تتبع قوانين المنطق. في المنطق، يُقال إن القضية أو الرواية تعبر عن مضمون ذهني لواقع معنوي. فالجملتان: «باعت دار النشر الإنسان الإلهي كتاب المعرفة والإنسان الإلهي لكم» و«اشتريتم كتاب المعرفة والإنسان الإلهي من دار النشر الإنسان الإلهي»، مختلفتان لغويًا، لكنهما من الناحية المنطقية تحملان مضمونًا خبريًا واحدًا، وبما أنهما تنقلان معنى وخبرًا واحدًا، فهما قضية واحدة، وليس قضيتين.

لذا، عندما يُنقل معنى رواية جنة العاصمة في مصادر روائية موثوقة، وكلها تتمتع بوحدة المعنى، تُعتبر جميعها قضية روائية واحدة، وليست عدة قضايا معنوية. وتكون أسانيد الروايات الموثوقة لهذه الروايات موثوقة لهذه الرواية أيضًا، والنسبة التي تُعطى في تلك الروايات للأولياء الإلهيين ولله تعالى تُعطى لهذه الرواية أيضًا. هذه النسبة، من الناحية المنطقية التي تبحث في وحدة المعنى بين الجمل المختلفة وتستخلص منها قضية واحدة، ليست كاذبة.

في ساحت القضايا التكوينية، حيث يُراعى المعنى الذهني وليس اختلاف تعابير الروايات، لا يُعتد بالرواة من حيث كونهم رواة، بل القضية الذهنية ومضمون الرواية هما الأهم. ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام):

«انْظُرْ إِلَى مَا قِيلَ وَلَا تَنْظُرْ إِلَى مَنْ قَالَ»3.

أي: انظر إلى الرواية والقول، لا إلى القائل والراوي.

موضوع هذه الرواية هو قضية منطقية تعبر عن معنى صادق، وتعدد الرواة أو كون الخبر واحدًا أو مستفيضًا أو متواترًا، واختلاف التعابير والجمل، لا يؤثر في مضمونها ومعناها الصادق.
إن نقل المعنى ومضمون الخبر دون التمسك بحفظ الألفاظ والتعابير المستخدمة هو منهج عقلائي مؤيد من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) ومقبول لدى الرواة الشيعة، ما لم يؤد إلى اختلاف في المعنى. وقد حلل الشيخ الطوسي استخدام هذا المنهج بين المحدثين. لذا، فإن نقل رواية مستندة إلى معصوم مع تغيير الألفاظ والتعابير دون تغيير المعنى لا يعد كذبًا على المعصوم، ولا يندرج تحت الآيات الكريمة التي تواجه بشدة، مثل:

«وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» [هود: 18]4.

أي: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا، أولئك يُعرضون على ربهم، ويقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين.

وكذلك الآية:

«فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ» [الأنعام: 144]5.

أي: فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا ليضل الناس بغير علم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين.
موضوع هذه الآية هو النقل الجاهل وغير المتخصص للرواية ونسبة حكم أو رأي شخصي إلى الله.

نقل معنى الروايات لا يخرج القضية الخبرية من كونها قضية، ولا يجعلها متعددة. فمع وحدة المعنى الذهني، لا تُحدث نسبة جديدة، بل تؤكد النسبة السابقة.
إن المعنى الذهني لـ«وَلَوْلَا فَاطِمَةُ لَمَا خَلَقْتُكُمَا»، وهي قضية منطقية، ورد في آيات من القرآن الكريم خاصة بالسيدة الزهراء (عليها السلام) وفي روايات كثيرة. وهذه الدلالة النصية تجعل هذه الرواية، المتسقة مع العالم المعنوي للقرآن الكريم، في غنى عن دراسة السند. منطقيًا، كل هذه الآيات والروايات تشكل قضية واحدة.

إن كثيرًا من الاعتراضات التي يثيرها الظاهريون المتعصبون للفظ والمتشددون في السند، بنظرة منقطعة عن العالم المعنوي المنسجم للروايات وبعزلة عن(عليهم السلام) عن رؤية الله تعالى، في نقدهم ورفضهم لهذه الرواية، تعود إلى ضعفهم في المنطق، وبالتالي إلى شلل فكري في النقاشات العقلية.

جزء من الروايات التي يمكن أن تشكل منظومة معنوية ودعمًا لغويًا لهذه الرواية ورد في الكتب الروائية التي تنقل التراث المعنوي والباطني للشيعة.
إذا كان القارئ الكريم قد تأنس مع الروايات التي نقلناها حتى الآن، فإنه سيجد معنى رواية «وَلَوْلَا فَاطِمَةُ لَمَا خَلَقْتُكُمَا» مقبولًا وممتعًا. هذه الرواية تجيب عن سؤال أساسي: لماذا وُجدت الكائنات والمادة والساحات ما فوق المادية، التي لا حدود ولا نهاية لها، لتوفير حياة لا نهائية للظواهر؟ في عالم متشابك ومشاع هكذا، هل يمكن للعلم أن يرى غاية لهذا النظام، وأن يجد من صمت الذرات صخب سبب الوجود؟
تتحدث هذه الرواية عن تقاطع الشخصيات الولائية التي تمتلك ختم النبوة والولاية، محورها السيدة الزهراء (عليها السلام)، وتصور وجود العالم والكائنات بكلمة «الأفلاك» بقوة تربطها بالماوراء المتصل، وتعيد تمثيل النظام المشاع للخلق. هذا يبرز الموقع الفريد والضروري للسيدة الزهراء (عليها السلام)، بحيث إن افتراض غيابها يجعل أي إمكانية للخلق في أي مكان وزمان ممكن أمرًا مستحيلًا.
كما ورد في رواية الخلق النوراني بترتيب وتسلسل خاص، فإن المعصومين (عليهم السلام) هم نور يُستمد منه نور وسطوع وسائر الظواهر. أهل البيت (عليهم السلام) هم الفصل النوراني لظواهر الوجود، وكل الموجودات والعوالم تتجلى من نورهم. المقصود بالفصل هنا ليس الفصل الماهوي، بل الفصل الوجودي بمعنى التعين والشخصية. هذه الضرورة الأزلية والأبدية تحمل سرًا في عشق الله تعالى.
إن التعبير بـ«الغثاء» (الخس والخاشاك الجاف والميت) في بعض الروايات عن الظواهر التي لا تقبل الولاية وترفض كمال الولاية والاعتراف بعشق الله تعالى، ولا تسعى إلى المعرفة الولائية والقرب المناسب، أو تحيك المؤامرات والعداء ضد الإمام الحق والولي الإلهي، ينبع من الغيرة الإلهية لهذا العشق اللانهائي. في رواية كميل، التي وردت سابقًا، وُصفت هذه الظواهر بقوله:

«وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ»6.

أي: وحشرات ضعيفة تابعة لكل صوت، تميل مع كل ريح، لم تستضئ بنور العلم، ولم تلجأ إلى ركن وثيق.

الخس والخاشاك الميت أو الحشرات الضعيفة الضالة والحقيرة ليست هدف الخلق، وفي دورات وأطوار الوجود لها حركة أفقية بلا هدف ولا نهاية، ما لم تنضم إلى قافلة الحركة العمودية، أي إلى الاعتقاد الصادق والإيمان الحق، أو إلى إنكارها. ورد في الرواية:

«حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ سَيْفِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شِمْرٍ عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ رَجُلَانِ عَالِمٌ وَمُتَعَلِّمٌ وَسَائِرُ النَّاسِ غُثَاءٌ فَنَحْنُ الْعُلَمَاءُ وَشِيعَتُنَا الْمُتَعَلِّمُونَ وَسَائِرُ النَّاسِ غُثَاءٌ»7.

قال الإمام الصادق (عليه السلام): الناس نوعان: عالم ومتعلم، وسائر الناس غثاء يذهبون حيث يذهب التيار. نحن العلماء، وشيعتنا المتعلمون، وسائر الناس غثاء طافٍ على الماء.

الحصر في المعارف المفهومية التي لا تؤدي إلى الإيمان والاعتقاد، ومجرد العلم المفهومي دون حتى تقليد أهل المعرفة والاعتقاد التقليدي، يحبس الحركة في مسار أفقي، ولا يمنح هؤلاء حركة عمودية أو عمقًا، ويبقون في حيرة ذاتية لا مفر منها، مرتكزين على مركز ثقيل مادي.

حقيقة الخلق كله إنما وجدت لتجلي مُظهر حقيقة العشق ومَظهر هذا العشق الإلهي. العشق لا يملك تفسيرًا معنويًا دقيقًا، ويبقى في الكمون والباطن، في ساحت لاهوتية لا تقبل الحوار. ناهيك عن أن الظهور في هذه الساحت يحمل خاصية البداهة والمباشرة والاستغناء عن التفسير النابع من الحيرة والعشق النقي. في مبحث الولاية، الأهم هو استحقاق رضا الأولياء الإلهيين لأي تفسير يعني التدني وخفض الأفق المعنوي اللانهائي.

تحدثنا عن العشق سابقًا. لكن ما يتعلق بهذه الرواية هو أن العشق في مرتبة الفعل والوصف هو محبة ظاهرية مكتسبة ومادية، وآثاره وعلاماته قابلة للدراسة العلمية، والعقل الحسابي والمنطقي يفترض لها تناسبًا وتوازنًا وتفاعلًا بين العاشق والمعشوق، ويمنعها من الوقوع في التطرف. أما العشق الذاتي فليس ماديًا ولا جسمانيًا ولا يعتمد على الهرمونات المفرزة من القلب والدماغ المرتبطة بالعشق الجسدي، بل يستقر في القلب الباطني عبر مسار الوحدة، وهو أمر وهبي وعطائي لا علامة ولا بيان له. العقل الحسابي وغير المتفتح لا يملك القدرة على تحمل أو تحليل أو تفكيك هذا العشق. في العشق الذاتي، تنتفي الأفعال والأسماء والصفات والحسابات والاهتمام بالظواهر، ولا يكون لصاحب هذا العشق حديث مع أحد، إذ يشتعل في صدره نار لا تُفسر، يعلمها فقط من وصل إلى صدر المحترق الملتهب.
السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في مثل هذا العشق، حيث قيل في فضلها:

«نَحْنُ حُجَجُ اللَّهِ عَلَى الْخَلَائِقِ وَأُمُّنَا فَاطِمَةُ حُجَّةُ اللَّهِ عَلَيْنَا»8.

أي: نحن حجج الله على الخلائق، وأمنا فاطمة حجة الله علينا.

إن النور القدسي للسيدة الزهراء (عليها السلام) هو باطن الولاية الكلية الختمية والخاصة والشخصية لأمير المؤمنين (عليه السلام) وسائر المعصومين (عليهم السلام). وولاية الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) هي تجلٍّ ختمي لولاية أمير المؤمنين (عليه السلام). والباقون في الولاية هم تابعون وتجليات لأحد المعصومين (عليهم السلام) أو أتباعهم إذا امتلكوا موهبة الولاية، وإلا فهم أبناء الطبيعة والناسوت، ولا يكونون إلا خسًا وخاشاكًا ميتًا جافًا، يسيرون أفقيًا محبوسين في المادة، ما لم يصلوا إلى المودة ويتعلقوا بمحبة الولاية.

العشق في ساحت ختم الولاية خالٍ من السير الخلقي وكل اسم ورسم وتعين، ومَظهر الذات خالٍ من التعين، يسير في الذات. والسير في الذات ليس إلا فناءً وترك التعين وكسر التعين والوصول، ولا إدراك له. الحديث القدسي «وَلَوْلَا فَاطِمَةُ لَمَا خَلَقْتُكُمَا» هو حامل سر العشق والوحدة مع مقام الذات بلا تعين، ولا مجال فيه للغيبة أو التباعد.

في الفراز التالي، تكون السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) محور وحدة آل الكساء الخمسة (عليهم السلام) ومدار أهل البيت (عليهم السلام):

«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى فَاطِمَةَ وَأَبِيهَا وَبَعْلِهَا وَبَنِيهَا وَالسِّرِّ الْمُسْتَوْدَعِ فِيهَا»9.

أي: اللهم صلّ على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها.

في ساحت العشق والوحدة، لا فرق بين الأول والآخر، والروايات الشرطية الثلاث في الحديث القدسي «وَلَوْلَا فَاطِمَةُ لَمَا خَلَقْتُكُمَا» تُغرق في وحدة معنوية، وتُعطي لكل من الأولياء الإلهيين الثلاثة مرتبة نهائية وختمية. والله العاشق، الذي هو شخصي وكلي السعي ومطلق، قد عبر عن مكانة هؤلاء الشخصيات الثلاث الكلية السعي النورانية المطلقة، مظاهر ومعشوقيه، بخطاب مباشر وبأقل الألفاظ إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأن الوحدة والختمية والعشق أمر كيفي وتشكيكي. والرواية تبين هذا التشكيك الكيفي والوحدة بجمال مبهر وفي أعذب العبارات العاشقة.
إن الرواية هي ميدان العشق النقي ولعبة العشق الأصيل في ذروة لاهوت العشق ووحدة الذات. في هذه الوحدة، كل واحد هو واحد، ليس عدديًا يقبل الاثنين، بل واحد أوحد لا يتعدد ولا يقبل التعدد. والثلاثة في وحدة، لا تخالف بينهم، بل هم في ذروة التعايش بكلية السعي والإطلاق في وحدة. هذه الوحدة والكلية السعي والإطلاقية تشمل جميع الأفلاك وظواهر الوجود بانبساط، وتخلق نظامًا مشاعًا ومتشابكًا بين الإنسان الإلهي وسائر ظواهر الوجود. يقول الله في هذا النظام المشاع: يا محبوبي! أنتم وحدكم!

هذا العشق الإلهي يمنح الظهور للجماعة، بل لكمالها، ولا يتجلى دون الطبيعة والكائنات والأفلاك والكون والناسوت. هذا العشق هو الأصل في كل الكون والناسوت والساحات ما فوق الطبيعة، والناجون والأذكياء والموفقون والمنتصرون هم من يؤمنون بهذا السير المحبوبي والعشق الإلهي، ويوفقون سيرهم مع السير العمودي لهذا السير الإلهي ومع الصراط المستقيم لهم، ولا يصابون بحيرة السير الأفقي، ولا يصبحون غثاءً أو خسًا وخاشاكًا ميتًا أو حشرة ضالة حقيرة.
وما أقل هؤلاء السعداء الناجين الذين يرتبطون بهذا العهد والميثاق ولبّيك، ساعين إلى التوافق مع المعارف الولائية المتسقة والتعايش في الحياة الإلهية، ولا يصبحون في أزمة غيبة معرفة حقائق الولاية أفقيين، مختارين ذاتيًا أو ساقطين على بطونهم أو ظهورهم، فيحلون محل الضابط العمودي والماورائي بملاحظات العقل الحسابي المحدود ومعايير الكفاية التجريبية، في حالة عجز وتحدٍ.


الهوامش

1 المصدر: نهج البلاغة، الخطبة 127 (محتمل، يحتاج إلى توثيق دقيق).
2 نقل من كتاب جنة العاصمة للسيد محمدحسن ميرجهاني، مستندًا إلى كشف اللئالي لصالح بن عرندس الحلي.
3 المصدر: نهج البلاغة، الحكمة 459 (محتمل، يحتاج إلى توثيق دقيق).
4 القرآن الكريم، سورة هود، الآية 18.
5 القرآن الكريم، سورة الأنعام، الآية 144.
6 المصدر: نهج البلاغة، الخطبة 147 (رواية كميل، محتملة).
7 المصدر: الكافي، كتاب الحجة (محتمل، يحتاج إلى توثيق دقيق).
8 المصدر: تفسير البرهان (محتمل، يحتاج إلى توثيق دقيق).
9 المصدر: مصباح المتهجد (محتمل، يحتاج إلى توثيق دقيق).

لَوْلَاكَ

في الرواية: «يَا أَحْمَدُ! لَوْلَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الْأَفْلَاكَ، وَلَوْلَا عَلِيٌّ لَمَا خَلَقْتُكَ، وَلَوْلَا فَاطِمَةُ لَمَا خَلَقْتُكُمَا»1. إن أداة الشرط غير الجازمة «لَوْلَا» وردت متصلة بضمير المخاطب، لا باسم ظاهر أو ضمير منفصل. وكل من أداة «لَوْلَا» والضمائر في اللغة والأدب العربيين من الكلمات كثيرة الاستعمال. وفي المنطق، تُستخدم القضايا العلمية بشكل شرطي وتُبنى على الشرط. إن كثرة استعمال «لَوْلَا» والضمير، استنادًا إلى قاعدة تغليب الأصوات الأخف على الأثقل، جعلت الاستعمال العرفي لهما معًا متسقًا مع قواعد النحو اللغوي.

وقد وردت شواهد هذا الاستعمال في كتب الأدب، مثل «شرح الكافية الشافية» لابن مالك، ولا مجال للطعن فيه. وفي أهم المصادر الشيعية والسنية، وردت الرواية الموثوقة التالية بلفظ «لَوْلَاكَ»، منقولة عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله):

«يَا عَلِيُّ لَوْلَاكَ لَمَا عُرِفَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدِي»2.

أي: يا علي، لولاك لما عُرف المؤمنون بعدي (فأنت فصل الخطاب ومعيار الإيمان).

هذه الرواية وردت في كتاب «صحيفة الرضا»، وهو من الكتب الموثوقة ومن الأصول الأربعمائة الأولى ومن المصادر المهمة لكتب الشيخ الصدوق. وقد روى هذا الكتاب أحمد بن عامر الطائي عن الإمام الرضا (عليه السلام).

الْأَفْلَاك

أما كلمة «الْأَفْلَاك» في الحديث القدسي: «يَا أَحْمَدُ! لَوْلَاكَ لَمَا خَلَقْتُ الْأَفْلَاكَ»3، فهي جمع «فَلَك»، وتعني السفينة أو القارب الطافي على الماء. هذا التعبير اللطيف يشير إلى طفو الظواهر وسيولة الذرّات وكونها مدارية، فلا تتوقف في مكان، بل هي في حركة دائمة وسير لا نهائي ومنتظم، إما أفقي أو عمودي.

يُطلق «فَلَك» على السفينة الكبيرة التي تملك دفتها وتتحكم بحركتها، وعلى القارب الصغير الذي يخضع لأمواج الحوادث وينقلب لكنه لا يستقر في مكان. وفقًا لنظام الوجود المشاع وظواهره، إذا اعتُبرت الكائنات والكون والمجرات والناسوت والعوالم ما فوق الطبيعية ككلّ واحد، فإن أي ظاهرة تُختار في الكون كعيّنة للدراسة تكون محورًا ومدارًا. ومن هذه النقطة يمكن الولوج إلى موضوع الوجود وظواهره وفق مبدأ التعايش والأنس، وتقديم تفسير دقيق لواقعها.

وهكذا، إذا اتسع أفق ظهور الإنسان إلى ما لا نهائي وأصبح مطلقًا، فلن يخرج شيء عن ساحة قواه المعرفية، ولن يقع في الظلمة. يصبح كل شيء في نظام متشابك معرفي، قابل للإدراك والتفسير. الإنسان الإلهي، الذي يحيط بجميع الظواهر في مدى إدراكه، يكون عالمًا بالظواهر المادية والناسوتية، ولا يمكن أن يجهل صفاتها وآثارها أو أن يفتقر إلى القدرة على هدايتها وتسخيرها.

هذه الرواية، بتسليطها الضوء على علاقة الإنسان الإلهي بالأفلاك (المدارات = الطوافي)، كعيّنة مختارة، تعبر عن رؤية مطلقة للوجود وجميع ظواهره، ولا تقتصر على الأفلاك (الطوافي) التي كانت، في زمن صدور الرواية، تُعدّ أكثر الظواهر طفوًا في إدراك الناس. الأفلاك، بمعنى الأجرام السماوية والمجرات، هي أيضًا طافية ومدارية وفي حركة دائمة، ولهذا سُمّيت أفلاكًا أي طوافي. وقد ورد في القرآن الكريم تعبير عن هذا الطفو:

«وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ» [هود: 7]4.

أي: هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملًا، ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين.

طفو ظاهرة العرش (أي على الأقل كل عالم الناسوت) على الماء («وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ») هو مثال على الطفو. لا توجد ظاهرة تمتلك السيولة والطفو مثل الماء، فهو طافٍ بنفسه والعرش طافٍ عليه، ولا ظاهرة مستقرة في مكان، بل هي في خلق جديد دائمًا وآنيًا:

«أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ» [ق: 15]5.

أي: أفعيينا بالخلق الأول، بل هم في لبس من خلق جديد.

إن سيولة الظواهر تمنحها قابلية التحوّل والتغيّر. وكل ما يملك قابلية التحوّل يصبح قابلًا للتسخير والتدخل والتصرف. وقد ورد في روايات عديدة اختيار ظواهر أخرى كعيّنات للدراسة. منها رواية نقلها الشيخ الصدوق:

«يَا عَلِيُّ لَوْلَا نَحْنُ مَا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ، وَلَا حَوَّاءَ، وَلَا الْجَنَّةَ، وَلَا النَّارَ، وَلَا السَّمَاءَ، وَلَا الْأَرْضَ»6.

أي: يا علي، لولا نحن ما خلق الله آدم ولا حواء ولا الجنة ولا النار ولا السماء ولا الأرض.

من خلال هذه العيّنات، يمكن استنباط جميع المعايير والخصائص للواقع الكلي وجوهره وعناصره ومركز ثقله، وهو الوجود الذي يقوم على العشق والحركة والطفو اللا نهائي والوحدة المطلقة والسعي التشكيكي المبني على الحركة الوجودية.

في هذا الطفو والسيولة غير المحدودة للظواهر، يكمن الأمن والطمأنينة في التسليم والسير العمودي نحو الارتقاء عبر التجرّد المستمر من التعيّنات وتحقيق الفناء في ظلّ الروح الحيّة القوية. الفانون في محبة الإنسان الإلهي يجدون سيرًا محبوبيًا وعشقيًا يقوم على التعايش والتآلف والتزامن المداري، ويبلغون سفينة النجاة الولائية، فيصلون إلى الأمن والطمأنينة والسكينة الأبدية.

إذا أُطلقت تسمية الأفلاك على الظواهر، فقد أُطلقت في روايات عديدة تسمية «السفينة» على أهل البيت (عليهم السلام) أنفسهم. السفينة تُطلق على كل متحرك يمتلك بنية تنظيمية، يزيل الفضلات والزوائد أو الخس والخاشاك الضالة أو المزعجة والميتة، ويحافظ على الجوهر واللبّ، ويشقّ الطريق. وقد نقل الخوارزمي في مناقبه:

«عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي كَمَثَلِ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ»7.

أي: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق.

المولوي، وإن كان عالمًا سنيًا يسير في المنظومة الاعتقادية لأهل السنة، ومع شغفه بشمس، فقد ألهمه الأفق المعنوي لهذه الرواية فأبدع في شعره، موضحًا مصير الأتباع وعاقبة الأخسّاء الفاقدين للدليل والموجه، ومعبرًا عن سيولة الروح وطفوها:

في ظلّ الروح الحيّة أنتَ مأوى،
في سفينةٍ نائمٌ تسير في الدرب.
اتبع نبيّ عصرك ولا تعتمد
على فنونك وأهوائك الخاصة.
وإن كنتَ ليثًا، فالدرب بلا دليل
يجعلك ذليلًا في ضلالك وانحطاطك.
فلا تسِر إلا بأجنحة الشيخ،
لترى عون جيوشه ومدده.
أفرغ لبّك من إنكار الرفيق،
ليجد الريحان من جنّة الرفيق.
انسحب إلى السفينة وسرْ طافيًا،
نحو معشوق الروح، روح الروح.

وفي دعاء منسوب إلى الإمام الصادق (عليه السلام) ورد:

«اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ… عِصْمَةٌ لِمَنِ اعْتَصَمَ بِهِمْ وَإِجَارَةٌ لِمَنِ اسْتَجَارَ بِهِمْ وَالْكَهْفُ الْحَصِينُ وَالْفُلْكُ الْجَارِيَةُ فِي اللُّجَجِ الْغَامِرَةِ وَالرَّاغِبُ عَنْهُمْ مَارِقٌ وَالْمُتَأَخِّرُ عَنْهُمْ زَاهِقٌ وَاللَّازِمُ لَهُمْ لَاحِقٌ»8.

أي: اللهم صلّ على محمد وآله، عصمة لمن اعتصم بهم، وإجارة لمن استجار بهم، والكهف الحصين والسفينة الجارية في اللجج الغامرة، والراغب عنهم مارق، والمتأخر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق.

لَوْلَا عَلِيٌّ

أما الفراز الثاني من الرواية، وهو: «وَلَوْلَا عَلِيٌّ لَمَا خَلَقْتُكَ»، فهو تعبير فصيح وتفسير مناسب للآية الكريمة المتعلقة بإكمال الدين:

«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» [المائدة: 3]9.

أي: اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا.

القرآن الكريم هو وحي الله وكلامه ومراده القدسي الإلهي. وحي القرآن اكتمل بعد عشرين عامًا، وانتهت نبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، لكن هذه الآية الكريمة تقول: إنه وإن اكتمل الوحي، فإن دينكم يعاني من نقص ولا يتمتع بالكمال. الإسلام اكتمل بالوحي، لكنه لا يكتمل إلا بالولاية. إن مراد الله وغايته تتحقق بأمير المؤمنين (عليه السلام).

في المنطق، تكون القضية والتصديق النظري كاملًا إذا كان مدعومًا بالبرهان والاستنتاج. ويكون النظام كاملًا إذا استطاعت قواعده أن تشمل جميع الاستنتاجات دون استثناء، ولا يوجد ما ينقضها. تتحقق القضية إذا أجابت عن سؤالين: هل يمكن لنحو القضية وبرهانها أن يثبت صدقها (دلالتها ومعناها)؟ وهل يمكن لصدقها (معناها) أن يؤدي إلى برهانها (صورتها)؟ فإذا تحقق ذلك، تكون القضية كاملة. الكمال يميز بين الصورة والنحو والمعناشناسية.

في آية إكمال الدين، النعمة هي الولاية، وهناك تمييز بين النبوة كصورة وظاهر الولاية، وبين الولاية نفسها كمعنى وباطن النبوة. النبوة لا تكتمل ولا تكون إلهية ومستندة إلى الله ومعصومة إلا إذا كانت متمتعة بالولاية، وأصبحت الولاية لغة معنوية للنبوة والوحي وحتى التوحيد الإلهي. الدين الإسلامي لا يكتمل ولا يصبح نعمة ولا مبهجًا إلا إذا كانت الولاية، بوصفها العقل النوراني والقلب القدسي وروح المعرفة، هي المبيّنة للمعارف والمتحدثة باسمها. الولاية هي المصباح وهدى الدين، وسفينة نجاته، وصراطه المستقيم إلى الله. النبوة والوحي بمفردهما كشجرة بلا ثمر، لا تؤتي أكلها. النبوة هي البرهان، والولاية هي الاستنتاج والثمرة والنتيجة. يصل الدين إلى كماله وإلهيته وتوحيده بختم النبوة وختم الولاية، فلا يُنقض ويُقبل منه كل عمل. فراز «وَلَوْلَا عَلِيٌّ لَمَا خَلَقْتُكَ» يعبر عن هذا المعنى القرآني واكتمال الدين.

كمال الولاية

الخلق والوجود والظهور ووحي القرآن الكريم ونبوة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) لا تتسق ولا تكتمل ولا تحمل معنى دون الولاية، التي هي المربية والعقل الناطق للوحي. كمال الدين يكمن في الوحي والنبوة والتوحيد، واكتماله في الولاية. من كان له دين ولكنه لم يوفق إلى موهبة الولاية، فهو كالغثاء والخس والخاشاك الجاف الميت والحشرة الضالة السيئة الطبع، فيهلك. الولاية محصورة في أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، ومن لا يقبلها لا يملك سيرًا ارتقائيًا ولا يوفق إلى القرب الإلهي، ويبقى محبوسًا في سير أفقي. وردت رواية في كتاب «بصائر الدرجات» الموثوق والقديم، الذي يروي أحاديث باب الولاية ومعرفة الخلق النوراني ونورانية الأئمة المعصومين (عليهم السلام) مع ذكر جميع الأسانيد، وهو من المصادر المهمة للعرفان الباطني والولائي الشيعي. مؤلف الكتاب، محمد بن الحسن الصفار (توفي 290هـ)، من أصحاب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ومن محدثي قم، وقد جمع هذا الكتاب في زمن خناق بني العباس، موهبًا إياه لأهل الولاية في عصر الغيبة. وفيه:

«عَنْ أَبِي بَصِيرٍ: حَجَجْتُ مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (ع)، فَلَمَّا كُنَّا فِي الطَّوَافِ قُلْتُ لَهُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ يَا بْنَ رَسُولِ اللَّهِ، يَغْفِرُ اللَّهُ لِهَذَا الْخَلْقِ؟ فَقَالَ: يَا أَبَا بَصِيرٍ، إِنَّ أَكْثَرَ مَنْ تَرَى قِرَدَةٌ وَخَنَازِيرُ. قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَرِنِيهِمْ؟ قَالَ: فَتَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ ثُمَّ أَمَرَّ يَدَهُ عَلَى بَصَرِي فَرَأَيْتُهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ! فَهَالَنِي ذَلِكَ، ثُمَّ أَمَرَّ يَدَهُ عَلَى بَصَرِي فَرَأَيْتُهُمْ كَمَا كَانُوا»10.

قال أبو بصير: حججت مع أبي عبد الله (عليه السلام)، فلما كنا في الطواف قلت له: جعلت فداك يا بن رسول الله، أيغفر الله لهذا الخلق؟ فقال: يا أبا بصير، إن أكثر من ترى قردة وخنازير. قلت: أرنيهم؟ فتكلم بكلمات ثم أمرّ يده على بصري فرأيتهم قردة وخنازير! فهالني ذلك، ثم أمرّ يده على بصري فرأيتهم كما كانوا.

الصدق والتحقق والاستنتاج والكمال والنبوة والخلافة والعصمة والتوحيد والعبودية الحقيقية تكمن في الولاية:

«هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ» [الكهف: 44]11.

أي: هنالك الولاية لله الحق.

صعوبة الكمال ومرافقة الجماعة وإقبال العامة قد سلبا نعمة الولاية، فأبقتها غريبة وفي غيبة. الدين بلا ولاية حقيقية ليس نعمة، ولا يحمل لذة، ولا يجلب السعادة والبهجة للناس، ولا يجدونه ممتعًا ولا صحيًا ولا موصلًا إلى السعادة. العلوم الإنسانية والعقل المفهومي، حتى لو امتلكت الوحي الإلهي أو النصوص الروائية الصحيحة وجعلتها كتبًا دراسية، لا تصل إلى الصدق والتسق والكمال دون الولاية والتوجيه الولائي الحي. النبوة والولاية في ساحة العشق والوحدة متطابقتان، فمن النبوة يمكن الوصول إلى الولاية، ومن الولاية يمكن استنباط النبوة. هذا هو معنى الكمال والنعمة واللذة والسعادة. وقد أُكدت هذه الوحدة والكمال في فراز «وَأَنْفُسَنَا» من آية المباهلة التي سبق ذكرها.

ليس الوحي الإلهي والنبوة فحسب، بل التوحيد والإيمان بالله الواحد لا يتحقق ولا يتفسر ولا يصل إلى الاستنتاج والكمال ولا يجيب عن أسئلة الناس دون الولاية. وقد روى إسحاق بن راهويه في حديث شريف سلسلة الذهب:

«لَمَّا وَافَى أَبُو الْحَسَنِ الرِّضَا (ع) بِنَيْسَابُورَ وَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا إِلَى الْمَأْمُونِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ، فَقَالُوا لَهُ: يَا بْنَ رَسُولِ اللَّهِ، تَرْحَلُ عَنَّا وَلَا تُحَدِّثُنَا بِحَدِيثٍ فَنَسْتَفِيدَهُ مِنْكَ؟! وَكَانَ قَدْ قَعَدَ فِي الْعُمَارِيَّةِ، فَأَطْلَعَ رَأْسَهُ وَقَالَ: سَمِعْتُ أَبِي مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي مُحَمَّدَ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي الْحُسَيْنَ بْنَ عَلِيٍّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (ص) يَقُولُ: سَمِعْتُ جَبْرَئِيلَ يَقُولُ: سَمِعْتُ اللَّهَ جَلَّ جَلَالُهُ يَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) حِصْنِي، فَمَنْ دَخَلَ حِصْنِي أَمِنَ مِنْ عَذَابِي. قَالَ: فَلَمَّا مَرَّتِ الرَّاحِلَةُ نَادَانَا: بِشُرُوطِهَا، وَأَنَا مِنْ شُرُوطِهَا»12.

أي: لما وصل أبو الحسن الرضا (عليه السلام) إلى نيسابور وأراد الخروج منها إلى المأمون، اجتمع إليه أصحاب الحديث، فقالوا: يا بن رسول الله، ترحل عنا ولا تحدثنا بحديث نستفيده منك؟! وكان قد جلس في العمارية، فأطلع رأسه وقال: سمعت أبي موسى بن جعفر يقول: سمعت أبي جعفر بن محمد يقول: سمعت أبي محمد بن علي يقول: سمعت أبي علي بن الحسين يقول: سمعت أبي الحسين بن علي يقول: سمعت أبي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: سمعت جبرئيل يقول: سمعت الله جل جلاله يقول: (لا إله إلا الله) حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي. قال: فلما مرت الراحلة نادانا: بشروطها، وأنا من شروطها.

هذا الحديث القدسي، المعروف بحديث الحصن، يبين خارطة الطريق والسير الارتقائي والعمودي والباطني للإنسان. وقد شكّل محتواه المعرفي العالي أساسًا للتربية الدينية في إيران، حتى إن حضور الإمام الرضا (عليه السلام) العلمي والثقافي وبركة مرقده الشريف، بعد قرنين من سيطرة ظلم الخلفاء الأمويين والعباسيين وصمت محبي أهل البيت، جعل مكتب أهل البيت الخطاب الغالب للإيرانيين، وفقدت السنة والخلافة هيمنتها الثقافية والدينية. نور ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، وهم أهل الذكر الحقيقيون والمجيبون لكل الحاجات الفكرية والفطرية والمعرفية، أضاء أرواح الإيرانيين، وأدخلهم إلى عوالم النور بالمعرفة الولائية والقرآنية والتوحيدية، وفتح لهم أبواب ملكوت السماوات، وأنقذهم من الخس والخاشاك الميت والظلمة في السير الأفقي.


الهوامش

1 نقل من كتاب جنة العاصمة للسيد محمدحسن ميرجهاني، مستندًا إلى كشف اللئالي لصالح بن عرندس الحلي.
2 المصدر: صحيفة الرضا (محتمل، يحتاج إلى توثيق دقيق).
3 نقل من كتاب جنة العاصمة للسيد محمدحسن ميرجهاني، مستندًا إلى كشف اللئالي لصالح بن عرندس الحلي.
4 القرآن الكريم، سورة هود، الآية 7.
5 القرآن الكريم، سورة ق، الآية 15.
6 المصدر: كتاب الشيخ الصدوق (محتمل، يحتاج إلى توثيق دقيق).
7 المصدر: مناقب الخوارزمي (محتمل، يحتاج إلى توثيق دقيق).
8 المصدر: مصباح المتهجد (محتمل، يحتاج إلى توثيق دقيق).
9 القرآن الكريم، سورة المائدة، الآية 3.
10 المصدر: بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار (محتمل، يحتاج إلى توثيق دقيق).
11 القرآن الكريم، سورة الكهف، الآية 44.
12 المصدر: حديث سلسلة الذهب، منقول عن إسحاق بن راهويه (محتمل، يحتاج إلى توثيق دقيق).

معرفة الوحي وتوجيه الولاية

قلنا إن الوحي إنباء، وهو عين الإخبار عن الواقع. والتعايش مع الوحي الإنبائي يُفضي إلى اكتساب المعرفة، والتمتع بالولاية، والانسجام معها، مما يجعل الوحي ناطقًا، شفافًا، ومبينًا.

المعرفة هي إدراك الحقيقة، على خلاف المعلومات والمعارف التي تخضع لسلطان الدهر، فهي في سياق المعرفة ليست منتجةً للعلم ولا متلقيةً له بما يؤدي إلى تحصيل العلم الحقيقي.

المعرفة الفلسفية وثباتها

إن المعرفة التي يسعى إليها الفكر الفلسفي الإسلامي، ويدّعي تحصيلها، هي معرفة مؤسسة على أساس متين، بحيث لا تكون مقرونة بالجزم فحسب، بل تكون منزّهة عن احتمال الخلاف منطقيًا. هذه المعرفة لا تقبل التشكيك، ولا تنحدر إلى النسبية، ولا يطالها تردد الشكاك، وهي منزهة عن الجهل المركب، وتتمتع بالانسجام والكمال. إن المعرفة تتطلب توجيهًا منطقيًا دقيقًا يضمن تشكيكها، وهذا التوجيه يُسمى “التوجيه العالي”. فالمعرفة هي التصديق بالمعنى الأخص، أي التصديق الجازم المطابق للواقع الثابت، أو التصديق الجازم المطابق للواقع الذي لا يقبل التشكيك، أو بعبارة أدق: التصديق الجازم المطابق للواقع ومنزّه عن التشكيك منطقيًا.

قيمة الاستناد الديني للمعقولات الراسخة

إذا عُرّفت المعرفة بأنها الاعتقاد الصادق الموجه، فإن توجيهها ينبغي أن يُبنى على معارف أساسية بدیهیة وذاتية التوجيه، وأن يشكل مع المعارف الثانوية وغير الأساسية وغير الذاتية بناءً متماسكًا ونظامًا لا يقبل الخلل. ومعايير تقييم صدق أو كذب كل من هذين النوعين من القضايا تتعلق بالعالم وساحته، ويجب أن تكون هذه المعايير متعايشة مع تلك الساحات، وإلا أفضت إلى المغالطة والخداع والكذب ونقص الكمال.

سبق أن قلنا إن هذه المعرفة لا تنبثق من الإدراك الحسي، ولا من المفاهيم العقلية التي لا تتجاوز الواقعيات، ولا تملك إدراكًا للحقيقة من الناحية المفهومية والذهنية، وإلا فإن الحقيقة المطلقة ستكون محصورة بقيود متنوعة، فتصبح أصغر بكثير مما هي عليه ومما ينبغي أن تكون. إن العلماء المتمحضين في المفاهيم والتجربة يعيشون مع علوم نسبية وتقديرية، وفي أحسن الأحوال مع يقين يحتمل الخلاف. هؤلاء لا يستطيعون الادعاء بأنهم على الحق المطلق، وأن الحق ليس إلا عندهم، وأنه ليس عند غيرهم. إن هذا التزمت في ساحة المادة والنفس الأمارة يؤدي حتماً إلى التناقض وصراع الحق والباطل، حيث يرى كل فريق نفسه الحق الكامل وغيره الباطل، فيفقد القدرة على قبول الآخر والتآلف والانسجام، بل يُنتج التقابل والتعدي. حتى الاستناد إلى البرهان العقلي في ساحة المادة والنفس يُنتج واقعية نسبية ظاهريًا. والأدلة الشرعية هي بحكم الشرع ذاته ظاهرية، ولا يُضمن تمثيلها للواقع، ولا يمكن مع نظام الاجتهاد الديني الادعاء بالمعرفة الكاملة لعلم الله والدين الإلهي النقي الخالي من الخطأ والتناقض. فالإنسان في مقام الاجتهاد الديني، خاصة إذا لم يتجاوز المفاهيم ولم يصل إلى العقل والملكة القدسية، يكون جائز الخطأ، ويحتمل وقوعه في الخطأ، ولا يمكن بناء تعصب جامد وخالٍ من المرونة على أساسه. والاجتهاد الديني لا يستطيع الادعاء باستحالة الخطأ في الاستنباط الديني، وأن ما توصل إليه هو معرفة منزّهة عن التشكيك بشكل مطلق. علاوة على ذلك، فإن الاجتهاد الخالي من الملكة القدسية يفتقر إلى مشروعية الاجتهاد ومصداقيته العلمية، وليس اجتهادًا دينيًا، بل هو – إذا استند إلى مبادئ دينية وامتثل لمنهجية الدراسات الدينية – مجرد تحقيقات وتحليلات فنية ومفهومية خالية من الحكمة النورانية والاتصال بالحق، ولا يمكن أن تُنسب إلى الله أو تُعتبر علمًا دينيًا.

الإنسان الطبيعي والاجتهاد

الإنسان الطبيعي المادي، إذا لم يكن له مرشد ومعلم إلهي، سيبدد الذهب في سبيل المطلي، ويضيع فرصة الناسوت المحدودة والفريدة في نار الحرمان والفناء. والاجتهاد لا يمكن أن يعتمد على الاكتساب المحض ومجرد المفاهيم والمعقولات والمعلومات المكتشفة، ففي هذه الحالة – كما بُيّن في هذا الكتاب – لا يكون علمًا بشريًا ولا تصديقًا ولا حكمًا ولا قضاءً، فكيف يمكن أن يكون علمًا دينيًا وشرعيًا منسوبًا إلى الله؟ بل هو مجرد مهارة بشرية منقطعة عن الله، قد تكون ملوثة بالأوهام والمغالطات الأساسية.

الاجتهاد المحروم من الحكمة

إن الاجتهاد المحروم من الحكمة والعقل النوراني يفتقر إلى المنطق المادي والمعنوي الذي يشرف باطنيًا على عالم المعنى والواقع. هذا المنطق لا يملكه إلا الحكيم والفرزانه المؤيد بالملكة القدسية والعقل النوراني، القادر على الوصول إلى عالم المعنى، فيستدل على القضايا المحتوائية بمنهج شبكي وبمساعدة العقل الجماعي، ويربط بين مقامي الثبوت والإثبات، ويفتح مسارًا يقينيًا أو مطمئنًا، ويضمن صحة المحتويات المنتجة. ففي هذا النظام يُميّز السره من الناسره، لا في شبكة المفاهيم والمعقولات الذهنية المحضة والمتعلقة بظواهر المعاني، التي هي فعل ميكانيكي ومفهومي، وليست إنتاجًا حكميًا وعينيًا. لذا فإن المنطق المادي والاجتهاد الفقهي والديني يقومان على الولاية ويستمدان قوتهما من الملكة القدسية، وإلا فليسا منطقًا ولا اجتهادًا معتبرًا.

عوائق الاجتهاد الكسبي

إن ما يُسمى بفن الاجتهاد الديني يشكل طبقة سميكة فوق الاجتهاد العلمي والديني الربوبي، وقد يكون طريقًا مضللاً للشريعة والحقيقة، ويُنشئ طبقة مؤسسية واجتماعية ومفروضة تحول دين الله الحق إلى أنواع من الزخارف والمغالطات، وتؤدي إلى تحديات علمية وانتقادات عامة.

الوعي هو سبيل النمو والتطور، والعلوم المفروضة والاجتهادات الفنية الخاطئة التي تؤدي إلى إخفاء الحقائق والبينات والهداية الإلهية الواضحة، خاصة إذا اقترنت بالاستبداد الديني ومنع الوعي، تشكل أسوأ أنواع الخيانة للناس، وتمنع أمة من الصحة والنمو، وأمة ودولة من الريادة. يقول الله تعالى في شأن هؤلاء العائقين:

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ

[البقرة: 159]

إن الذين يكتمون البينات والهدى بعد أن بيناها للناس في الكتاب، أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. إن الله هو الشاكي الخاص لهؤلاء العائقين الدينيين، الذين يُطردون ويُبعدون عمليًا من رحمة الله ومن جميع الذين مُنعوا بسببهم من الخير والوعي والبينات والهداية الإلهية بأبشع أنواع الظلم. هؤلاء الظالمون المصرون عن عمد وعلم على ظلمهم يصبحون كفارًا ويُصابون بعذاب الخلود في الجحيم.

هوامش:
  1. الآيات القرآنية مأخوذة من القرآن الكريم.
  2. الروايات الواردة تحتاج إلى توثيق إضافي من مصادر مثل نهج البلاغة والكافي.

الولاية: معرفة الحق الموجهة والكاملة

المعرفة هي معرفة ذاتية التوجيه، بل هي معرفة موجهة بالحق لذات الولي الإلهي. فالحق، بمعنى المعرفة والتوجيه العالي، هو بذاته ضروري في كل مقام، لا يطرقه خطأ أو شك، ولا ينفصل عن الحق أبدًا، بل إن الحق والمعرفة والتوجيه العالي تدور حول محوره، متمتعة بالكمال والتمام. وهذا الإنسان الإلهي، المحبوب لذات الحق تعالى، هو من يحمل الحق والحقيقة بسير من الحق إلى الناسوت، بسير تنزيلي تحويلي، وبحياة ربوبية وأحدية. إن السير المحبوبي الذاتي هو سير من مقام الذات الخالية من التعين، سير أزلي وأبدي، لا يسبقه الحق تعالى ولا يعقبه، بحيث لا يُتصور أن يكون في مرتبة خالية من الحق، بل هو مصاحب له، متمتع بسريان تنزيلي، ومعية صعودية، وقيومية، وتمامية. هذه الحقانية، أو بعبارة فلسفية، هذه المعرفة المنزهة عن الشك، والوهم، والتخيل، والتصديقات الظنية، والجهل المركب، والتقليد الأعمى الذي يتلاشى بالتشكيك، هي معرفة منسجمة، متماسكة، متمتعة بالتمام، لا تقبل النقض في أي مقام، وهي متعلقة بساحة الإنسان المحبوب الإلهي، ومرتبطة بهذا الفاعل الإلهي المتأمل، لا بالإنسان الطبيعي العادي ذي العقل المفهومي المادي، الذي لا يتجاوز في نهايته العلم الحسي والمعقول الحسابي. فلاكتساب المعرفة، لا بد من قلب يتسلّم ويتفانى في الإنسان الإلهي، الذي هو الولي المختار من الله.

الإنسان الإلهي: الكمال والاطلاق

الإنسان الإلهي هو إنسان كامل وتام، قد تجاوز مراتب الأسماء والصفات والتجليات المختصة بها، ووصل إلى مقام الإطلاق، فلم يعد مقيدًا بالأسماء والصفات وخصائصها، بل بلغ ساحة التجلي الذاتي، غير محصور بعالم أو حضرت أو مرتبة، ويظهر في كل مظهر يشاء، منزّه عن كل القيود، بل حيثما كان هو، فهم معه. قلب الإنسان الإلهي هو عين قلب الحق تعالى، الذي ظهر من البيّنة إلى التعين الأول، وفيه تتلاشى سائر التعينات وتفنى.

ومن جهة أخرى، فإن عين رؤية الحق هي اعتقاد كل فرد، وتجلي الحق تعالى على كل قلب يتم بحسب شخصيته الأزلية وعلمه الإلهي وعينه الثابتة. فإذا رأى قلبٌ الحق تعالى مطلقًا فوق الإطلاق والتقييد، فإن الحق تعالى يستضيفه إلى ذاته المباركة بصورة الإطلاق وكسر التعينات. فالعين المتأملة والعارفة لا ترى إلا ما تعتقده وتؤمن به، والحق تعالى لا يتجلى إلا بحد اعتقاد الفاعل العارف، فإن لم يعده مطلقًا، فإن الفاعل الرائي العارف ينكر الحق تعالى في رؤيته إذا تجلى بتعين أو شخصية مغايرة لاعتقاده، ولا يوفي بحق عبوديته في جميع التعينات والتجليات المتنوعة، فلا هو يدور على مدار الحق تعالى، ولا يمكن أن يكون الحق تعالى على مداره الضيق المحدود.

دعاء الإمام الصادق ومنهجية المعرفة التنزيلية

علّم الإمام الصادق (ع) زرارة دعاءً يمثل أسلوب حياة المحبوب الإلهي، ومنهجية المعرفة التنزيلية المتمتعة بالوحي الإلهي، التي تحمل في باطنها الولاية الوهبية. فالمحبوبية الإلهية والمعرفة التنزيلية كلاهما إنشاء إلهي مباشر، خالٍ من شوائب التعينات والأسباب والوسائط، ولهذا فهما في قوس التنزيل وقوس الصعود منزّهان عن الخطأ والخلل واحتمال الخلاف، وهما عين الصدق والعصمة ونسخة أصل كل المعارف والحقائق، بحيث تُقاس تمتّع الحقيقة بالميزان والعدل والصحة والاستقامة بمعرفة الحق الموجهة له. فالإنسان الإلهي، في صورة المحبوبية الذاتية، متمتع بذات الحق تعالى وبمعرفة عليا، أي أصل الحقيقة، التي هي معيار معرفة الحق. وإلا لما طُلبت هذه المعرفة في دعاء الغيبة الشريف، الذي جاء فيه:

قال أبو عبد الله (ع): يا زرارة! إن أدركت ذلك الزمان فالزم هذا الدعاء: اللهم عرفني نفسك فإنك إن لم تعرفني نفسك لم أعرف نبيك، اللهم عرفني رسولك فإنك إن لم تعرفني رسولك لم أعرف حجتك، اللهم عرفني حجتك فإنك إن لم تعرفني حجتك ضللت عن ديني.

[رواية منقولة عن الإمام الصادق (ع)]

في هذا الدعاء يُطلب: اللهم عرفني كل الحقيقة، فإن كل الحقيقة هي ذات الحق تعالى البسيطة، وقد أُريد هذا المعنى بلفظ «نفسك»، وهذا الاستعمال منسجم مع ثقافة القرآن الكريم. يقول الله تعالى:

كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ

[الأنعام: 12]

فالضمير المتصل في تعبير «نفسه» جعل النفس خالية من القيد والحيثية والإشارة والعنوان والاسم والصفة. فالله حقيقة لا نهائية، له ذات، بل الذات خاصة به، ونفس الذات هي ذاته، وله صفات ذاتية وفعلية لا نهائية، كل اسم وصفة وفعل منها لا نهائي وبلا حدود، وفعله وإن كان له نفس، فهي نفس ظهورية، لا نفس الذات، والذات أمر بيّن، وإن كان كل ظهور متمتعًا بصفة البيّنة واللا نهائية.

معرفة الحق ومنهجية الرؤية

كل معرفة تتطلب أولاً معرفة الله. ومعرفة الظواهر تكون عبر مسارها الحقي، أي مسار المحبوبية الإلهية المتمتعة بالسير من الذات إلى الناسوت. فالمحبوبية الذاتية ذات التمامية الولائية ترى الله قبل رؤية الأشياء، وأثناء تأملها، وبعد رؤيتها، بل هي في كل حال حاضرة.

لقد افتخر الأئمة الشيعة بهذه الآية مرات عديدة، واحتجوا بها كدليل على حقانيتهم وعصمتهم. فالعصمة الحقيقية تتحقق بكسر التعينات والوصول إلى مقام الذات الخالية من الاسم والرسم.

تمامية المعرفة في سؤال الجاثليق

سبق أن تحدثنا عن الجاثليق في سياق الآية الشريفة. والجاثليق هو لقب رئيس الأساقفة المسيحيين، وهو زعيم كبير الكنيسة. وقد نقل سلمان الفارسي، في رواية طويلة، أسئلة الجاثليق في ذلك الزمان مكتوبة. وخبر الجاثليق هو أحد النصوص المتبقية من سلمان. كان الجاثليق عالمًا متمرسًا وملمًا بالإنجيل واللاهوت المسيحي، وقد جاء بعد استشهاد النبي (ص) مع مائة من المسيحيين ممثلاً عن ملك الروم إلى المدينة ليسأل خليفة المسلمين أسئلة، فإن أجاب بصحة وثبتت حقانية الإسلام، اعتنق الإسلام. لكن أبا بكر عجز في مسجد النبي، بحضور عدد من المسلمين، عن الإجابة على أسئلته، فاعتبر الجاثليق دينهم بلا أساس وخاليًا من الدليل، لعدم تمتعه بتمامية المعرفة والتوجيه. ظن الحاضرون أن الإسلام قد هُزم في هذا الجدل. فسارع سلمان إلى أمير المؤمنين (ع)، العارف الأعلى والمتوجه بالحقيقة الإلهية، وأخبره بالواقعة، وقال إن ممثلاً من الروم جاء يتكلم بمعنى وبرهان، وطلب منه الحضور إلى المسجد لإدراك الدين العام وأفكار الحاضرين. فأُرشد الجاثليق إلى أمير المؤمنين (ع) ليسأله أسئلته. وكان من بين أسئلته: هل عرفت الله بمحمد، ففي هذه الحال لا يكون الله متمتعًا بالكمال والتمام، أم عرفت محمدًا بالله ونفوذ ولايته، ففي هذه الحال كلاهما متمتع بالكمال والتمام؛ الله بذاته، ومحمد (ص) بسبب ولايته المظهرية التي هي باطن نبوته، وقد تحدثنا عن كيفيتها سابقًا. وفي رواية عن هذا الحدث:

محمد بن إبراهيم بن إسحاق الفارسي عن أحمد بن محمد بن سعيد النسوي عن أحمد بن محمد بن عبد الله الصغدي بمرو عن محمد بن يعقوب الحكم العسكري وأخيه معاذ بن يعقوب عن محمد بن سنان الحنظلي عن عبد الله بن عاصم عن عبد الرحمن بن قيس عن ابن هاشم الرماني عن زاذان عن سلمان الفارسي رضي الله عنه في حديث طويل يذكر فيه قدوم الجاثليق المدينة مع مائة من النصارى وما سأل عنه أبا بكر فلم يجبه ثم أرشد إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) فسأله عن مسائل فأجابه عنها وكان فيما سأله أن قال له أخبرني عرفت الله بمحمد أم عرفت محمدًا بالله؟ فقال علي بن أبي طالب (ع): ما عرفت الله عز وجل بمحمد ولكن عرفت محمدًا بالله عز وجل حين خلقه وأحدث فيه الحدود من طول وعرض فعرفت أنه مدبر مصنوع باستدلال وإلهام منه وإرادة كما ألهم الملائكة طاعته وعرفهم نفسه بلا شبيه ولا كيف.

[رواية منقولة]

جاء رئيس الأساقفة المسيحي مع مائة من المسيحيين إلى المدينة، وسأل أبا بكر أسئلة، فعجز الخليفة عن الإجابة. فأُرشد إلى أمير المؤمنين (ع)، فسأله مسائل وتلقى إجاباته. ومنها قال: أخبرني، هل عرفت الله بمحمد، أم محمدًا بالله؟ فقال أمير المؤمنين (ع): ما عرفت الله بمحمد، ولكن عرفت محمدًا بالله عز وجل، حين رأيت أن الله خلقه وأحدث فيه حدودًا من طول وعرض، فعرفت بالاستدلال والإلهام والإرادة من الله أنه مدبر مصنوع، كما ألهم الله الملائكة طاعته وعرفهم نفسه بلا شبيه ولا كيفية.

هذه الرواية طويلة جدًا، وأسئلة الجاثليق كثيرة، وقد اقتطعنا منها جزءًا يناسب المقام.

معرفة الذات الإلهية

معرفة ذات الله ومعرفة كل الأشياء به ممكنة، وإلا لما تحدث عنها القرآن الكريم وهذه الروايات. وهذه المعرفة نصيب الإنسان الإلهي المحبوب الذي له رؤية وعشق حقيقي. أما غيرهم فيعرفون الحق تعالى والمسائل الربوبية عبر تعليم المحبوبين وفي نظامهم التعليمي، في مرتبة أدنى وبماهية مختلفة، ومعرفتهم علمية، تأملية، ومفهومية، ولا تصل إلى المعرفة. فمعرفة غير المحبوبين هي علم، وإن تمتعوا بقلب وحكمة نورانية، فإنهم يصلون إلى الصفات الإلهية على أقصى تقدير، ولا وصول إلى الذات فيها. أما المحبوبون فيطلبون معرفة لا يصحبها نبي أو إمام، بينما غير المحبوبين يطلبون علمًا يحصل لهم عبر النبي والإمام والولي الإلهي، ولا يتمتعون بالمعرفة بدون مساعدة الأولياء المحبوبين والإنسان الإلهي. فالمحبون يعرفون الله عبر النبي والإمام، لكن المحبوبون يعرفون النبي والإمام بالله، ولا يحتاجون إلى مساعدة أو وساطة.

الإنسان الولائي: مربي القرآن الكريم

إذا أراد الإنسان بلوغ أدق المعارف والآراء، فعليه أن يتحلى بمجتمع علمي وفريق دراسي متآلف، مع صيانة ومتابعة دائمة من أستاذ محبوب متمتع بمعارف هجومية، فيصبح متصفًا بجمعية العلم والعشق والصدق والقرب.

إن التلمذة المخلصة في محضر أستاذ متمتع بالقرب المحبوبي، وصاحب كمالات ومعرفة حقيقية وعشق وجودي نقي، تؤدي إلى هجوم معرفي وافر، ومعرفة غزيرة، وبحسب تعبير أمير المؤمنين (ع)، إلى علم جمّ. فالمعرفة والتفاني المحبوبي الإلهي له طور آخر، والأستاذ الحقيقي هو كل العلوم والمعلومات والآراء والصدق التام والاستقامة الكاملة. والمحبوب، بفضل عشقه الإلهي، متمتع بجمعية موهوبة، وهو نموذج بناء حقيقة العالم والكون. هو النسخة الأصل التي العالم الخارجي نسخة منها، لا أنه نسخة لا نهائية من العوالم الخارجية. لذا فهو يحمل كل المعارف الخلقية في ذاته، يمكنه أن يصل إلى قضاياها إراديًا، أو ينقل حزمة من معارفه بطريقة قلبية مضغوطة، في نظام انتقال مصداق إلى مصداق، إلى قلب آخر. فالعلم والمعرفة من خلال أستاذية عاشقة مصحوبة بصفاء باطن تتحقق بلغة بسيطة جدًا، تجعل لغة العلم مفهومة وسهلة، وتتيح، بمعيار صفاء العلاقة بين المعلم والمتعلم، تبيين أعقد المفاهيم بسهولة وتيسير نقلها ببساطة.

المحبوبية الذاتية: تجسيد العشق والوحي

المحبوب هو إنسان كامل وجمعي، قد تحقق بعشق أزلي في ما قبل الناسوت وفي مقام الذات الإلهية، ومحبوبيته هي خلق مباشر من يد الخالق، كالوحي، متمتعة بسير تنزيلي. وكما يرى المسيحيون، بعيدًا عن زخارفهم، السيد المسيح وحي الله ومعجزته، فإن المحبوبية الذاتية تملك كل الخصائص المذكورة للوحي، وهي وحي ومعجزة فعلية لله. المحبوب محبوب مباشرة لله، في خلوت وأحضان عشقه بلا واسطة. فخلقته الطبيعية خالية من الجينات الناقصة أو الملوثة، وروحه الإلهية نور نقي كله صدق وفرزانة. والمحبوب، متجاوزًا للاختيار والإرادة، يعيش كالوحي الإلهي بضرورة إلهية وبعشق ذاتي، وله حياة ربوبية.

أهم صفة للمحبوب هي عيشه الحقي والعشق، وكما قلنا سابقًا، فإن علم المحبوب ومعرفته من جنس الحق تعالى والحقيقة والعشق والأنس. لقد أكدنا في هذا الكتاب مرارًا أن العلم والعشق متلازمان. فالحرمان من معرفة المحبوب يحول الإنسان إلى كائن فاسد. حتى العلماء الكبار كابن سينا وابن عربي وملاصدرا، بسبب فقدان أستاذ محبوب متمرس، وقعوا في أخطاء كثيرة رغم نبوغهم وقدراتهم الباطنية، وألهوا جماعات كثيرة حتى اليوم، بل إلى الغد، بأخطائهم. وصوابهم هو ما استمدوه من هداية الأولياء المعصومين وأصحاب الولاية الحقيقية من القرآن الكريم والوحي الإلهي. فالخطوة الأولى للانجذاب إلى المعارف الإلهية والدخول المناسب إلى سماوات الملكوت هي أستاذية معرفية موهوبة، تجعل الوحي الصامت ناطقًا، وتفك شفراته المؤسسة من الله.

حرمان المعرفة المحبوبية وانحطاط الإنسان

إن عدم الإيمان بالمحبوبين والمختارين الربوبيين يحبس الإنسان، بحسب الماهية، في جنسه الحيواني وفصله الطيني، وبحسب الوجود، في تعينه الناسوتي، فلا يتجاوز الطبيعة والتفكير الذهني المادي. وقد تتحول شخصية الإنسان المحروم وفصله المقوم إلى النفاق والتزوير والخداع والمغالطة والكذب والباطل. ونتيجة ترويج فلسفة تقوم على الإنسان المادي والمعقول الذهني هي الحرمان من الحكمة النورانية. فالإنسان المنفصل عن المعنى والولاية يقع في دوامة لا مفر منها من العدمية وطمع المال والتلوث بظلم القوة الحيوانية والذات الحديثة الناسية، فيصبح جرثومة ميتة، تفكيره المزيف يهندس المجتمع ويتلاعب بالعقول ويصنع علمًا مفروضًا لأغراض المصالح والربحية فقط، بلا هدف آخر. فالإنسان الذاتي المستقل، بمعنى التنوير، الذي جعل ذاته أصل اليقين ومعيار الحقيقة، كالحيوان له غريزة، لكن بعقل يظنه أعقد وأرقى الأدمغة، وبعقلانية ربحية مكتسبة، محصور في إطار الطبيعة والغريزة والمعرفة المفهومية والعصبية، لكن بفرق أن غريزته وطبيعته ومعرفته المفهومية والذهنية لا حدود لمعناها، فقد حولها إلى معنى لا نهائي لمصلحته ولتسخير كل شيء، بما في ذلك حدود الشريعة وأقاليم الروحانية، فأضفى على طمعه تنوعًا لا نهائيًا وواعيًا ناسوتيًا.

الإنسان الإلهي: صراط الهداية في عصر الغيبة

إن نظرية الإنسان الإلهي، المتفوق على الإنسان المادي الحسي أو المعقول الذهني، في قامة المحبوبية الذاتية العالية، هي الصراط المستقيم للهداية، خاصة في عصر غيبة الولاية، للأفراد الباحثين عن الحقيقة والمعرفة. هذه هي منهجية العلم واكتساب المعرفة العليا والتوجيه الأسمى والحقيقة الواصلة. في عصر انزواء الدينية والولاية وخفوت العشق وتغلب العلم الطبيعي والمفهومي وقوة الصناعة النظامية، فإن فكرة الإنسان الإلهي تجلب بيانات المعجزة العلمية والخالدة للقرآن الكريم والمعرفة الدينية والبصيرة الشهودية بعشق قلة من أهل المعرفة إلى حياة ومعيشة التابعين المخلصين، ولا تقبل الانزواء المطلق. ومع ذلك، في عصر غيبة العشق والمعرفة والشهود، لا يمكن أن يكون المرء قائدًا لحركة تكاملية أو علمًا ناجحًا للإصلاح العام، إلا إذا كان الإصلاح والتنوير حكمًا إلهيًا لفرزانه نوراني. في عصر الغيبة، يجب ترك أمر الحكم لله ورب الناس، فهو يمنح من يشاء سليمانية بأيدي الناس، ويهبط من يشاء إلى طعام النمل في وقته. عصر العشق والمعرفة والشهود هو عصر حضور المعصوم (عجل الله تعالى فرجه الشريف) وحكومته الإلهية، وسنتحدث عن ذلك لاحقًا بما يتناسب مع هذا الكتاب.

المحبوبية الذاتية تجسد العشق والعلم والمعرفة في قامتها الإلهية، ومن خلال جهود العلماء الحقيقيين للدين وصيانة الدين الإلهي في ضوء الأبحاث التكاملية، تؤسس حياة طيبة لقلة من الأفراد الذين يتبعون تعاليمه بعشق وإخلاص، لا بمجرد الالتزام.

أهل البيت علیهم السلام مصداق الإنسان الإلهي

إن المصداق الخارجي والنموذج العيني للإنسان الإلهي في صورة المحبوبين الذاتيين الذين تحدثنا عنهم في هذا الكتاب هم «أهل البيت (ع)». هذا المصطلح القرآني، بمعنى عائلة النبي الكريم، ورد في آية التطهير. فقد أكد الله في هذه الآية المباركة طهارة عائلة النبي (ص) بقوله:

إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا [الأحزاب: 33]

إن إرادة الله هي إرادة تكوينية، أي ضرورية وحتمية، وقد أزالت أسباب الرجس والتلوث بإرادة جمعية وباسم جمعي (الله). وإن دلالة الفعل المضارع في «يريد» تشير إلى دفع كل أنواع الرجس باستمرار عن هذا المقام القدسي، لا مجرد رفعه، إذ لا يتسق ذلك مع هذا الاستمرار.

تؤكد الآية الشريفة أن الرجس والتلوث، حتى أقل آثاره، قد أُبعد عن أهل البيت (ع)، لا أنهم مُنعوا أو حُفظوا منه فحسب. فإرادة الله تريد أن يكون أهل بيت النبي (ص) أنقياء من كل رجس وتلوث. وتعبير «ويطهركم» بعد «ليذهب عنكم الرجس» هو تأكيد على الطهارة والنقاء بعد دفع التلوث، ومفعول مطلق «تطهيرًا» تأكيد آخر على هذه الطهارة. و«الرجس» بأل الجنس يشمل كل أنواع التلوث. لذا فإن هذا المقام القدسي للمحبوبية الذاتية يتمتع بالعصمة الموهوبة والعلم والمعرفة الصحيحة بضرورة نابعة من خلقهم وفصلهم النوراني، بحيث لا تظهر فيهم حتى الكدورات الجزئية الناسوتية، وتكون عصمتهم وطهارتهم موهبة إلهية مباشرة، أزلية وأبدية، وهم دائمًا مع الحق تعالى، والحق تعالى والحقيقة والحق معهم.

هذه العصمة الإلهية هي عشق نقي خالٍ من كل طمع، ونقاء خالص. فآية التطهير تبين العشق النقي والعلم والمعرفة الصحيحة لبعض الأفراد. وفي رواية:

عن الحسن بن موسى الخشاب عن علي بن حسان الواسطي عن عمه عبد الرحمن بن كثير قال: قلت لأبي عبد الله (ع) ما عنى الله عز وجل بقوله «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا» قال: نزلت في النبي وأمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة (ع) فلما قبض الله عز وجل نبيه كان أمير المؤمنين ثم الحسن ثم الحسين (ع) ثم وقع تأويل هذه الآية «وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله» وكان علي بن الحسين (ع) إمامًا ثم جرت في الأئمة من ولده الأوصياء (ع) فطاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله عز وجل.

[رواية منقولة]

قال عبد الرحمن بن كثير: سألت الإمام الصادق (ع) عن معنى وتطبيق آية التطهير، فقال: نزلت في النبي وأمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة (ع)، فلما قبض الله عز وجل نبيه، كان أمير المؤمنين ثم الحسن ثم الحسين (ع) ثم تحقق تأويل هذه الآية «وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض»، فكان علي بن الحسين (ع) إمامًا، ثم استمرت الإمامة في أوصياء ولده، فطاعتهم طاعة الله، ومعصيتهم معصية الله عز وجل.

وفي رواية أخرى:

عن عطاء بن يسار عن أم سلمة: في بيتي نزلت «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرًا». قالت: فأرسل رسول الله (ص) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين (ع)، فقال: هؤلاء أهل بيتي.

[رواية منقولة]

عن عطاء بن يسار عن أم سلمة: نزلت آية التطهير في بيتي. فأرسل النبي (ص) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين (ع)، وقال: هؤلاء أهل بيتي.

قال أمير المؤمنين (ع) في يوم الشورى، مستندًا إلى آية التطهير: أنشدكم الله، هل بينكم أحد نزلت فيه آية التطهير، حين جمع النبي (ص) أنا وفاطمة والحسن والحسين تحت كساء خيبري وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرًا؟ فأجاب أعضاء الشورى جميعًا: لا!

وذكر الإمام الحسن (ع)، بعد قبول الصلح، في خطبته أمام معاوية، وهو يعدد فضائل وكمالات أهل بيته، هذا الحدث التاريخي.

قال النبي (ص):

من منّ الله عليه بمعرفة أهل بيتي وولايتهم فقد جمع الله له الخير كله.

[رواية منقولة]

من منّ الله عليه بمعرفة أهل بيتي وولايتهم، فقد جمع الله له كل الخير.

وقال أمير المؤمنين (ع):

أسعد الناس من عرف فضلنا، وتقرب إلى الله بنا، وأخلص حبنا، وعمل بما إليه ندبنا، وانتهى عما عنه نهينا، فذلك منا، وهو في دار المقامة معنا.

[رواية منقولة]

أسعد الناس من عرف فضلنا، وتقرب إلى الله بنا، وأخلص حبنا، وعمل بما ندعو إليه، وانتهى عما نهينا عنه، فهو منا، وهو في دار الإقامة معنا.

القرآن الكريم والولاية

قلنا إن النبوة والوحي القرآني، مع الولاية المتمتعة بالانسجام والتكامل والتمام، تصبح ناطقة ومتكلمة. وينبغي الالتفات إلى أن حقيقة القرآن الكريم، بكل علوّه وإعجازه الربوبي، لا يمكن مساواتها بحقيقة الإنسان الكامل الجمعي والولي المحبوب الذاتي، ولا اعتبارها أعلى أو أسمى من ساحته الباطنية. فالولي المحبوب الذاتي، بعد مراتب الطبع والمثال والعقل والقلب والنورانية، يصل إلى مقام الذات الخالية من التعين، والقرآن الكريم، من حيث المرتبة، هو جزء من علم الحق تعالى، لا كله، ويصبح ناطقًا ومتكلمًا في عالم الناسوت بعقل وروح قدسي المحبوبية الذاتية، متمتعًا بعناية إلهية وقرب ربوبي وحضور دائم وأنس كامل مع تعاليم الوحي وعلمه اللدني، كما قال النبي (ص):

إني قد تركت فيكم أمرين لن تضلوا بعدي ما إن تمسكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض كهاتين وجمع بين مسبحتيه ولا أقول كهاتين وجمع بين المسبحة والوسطى فتسبق إحداهما الأخرى، فتمسكوا بهما لا تزلّوا ولا تضلوا ولا تقدموهم فتضلوا.

[رواية منقولة]

إني تارك فيكم أمرين، لن تضلوا بعدهما ما تمسكتم بهما: كتاب الله وعترتي أهل بيتي. فإن اللطيف الخبير قد عهد إلي أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض كهاتين (وأشار إلى إصبعيه السبابتين متساويتين)، ولا أقول كهاتين (وأشار إلى السبابة والوسطى)، فإنهما متساويان لا تسبق إحداهما الأخرى. فتمسكوا بهما لئلا تزلّوا أو تضلوا، ولا تقدموهما فتضلوا.

البحث الديني والعشق الإلهي

إن البحث الداخلي في الآيات والروايات لاكتشاف المعارف والحقائق، إلى جانب القرآن الكريم، يظهر أدعية وردت عن الأئمة الشيعة (ع) تحمل أسرارًا ودقائق ودلالات وصلوات بين العاشق والمعشوق. وعلى الرغم من أن الله في مقام ذاته قد جعل الرحمة والعشق ضروريين على نفسه، كما قال: «كتب على نفسه الرحمة»، فإن القرآن الكريم يحمل لغة العلم والقدرة والجلال والقهر والكبرياء والاقتدار، أكثر من لغة العشق والرحمة والمودة، لأنه موجه إلى الناس الذين ظهروا بين نسناس اقتداريين، خشنين وبسطاء الفكر، وما زال هؤلاء الناس العلميون والطامعون بالسلطة، الذين يُسمون الإنسان العقلاني والمعقول الذهني، لم يتغلبوا على أخلاقهم النسناسية.

القرآن الكريم هو دليل عمل، بل دليل حياة لهذه الأجناس. أما العشق الإلهي وظهوره في الناسوت، ومن ثم العلم والمعرفة، فهو لأقوام في المرحلة الثالثة من التكامل، لهم جهش وطور آخر، وهم أهل الحكمة النورانية، ذوو القلوب، المحوريون حول العشق، أهل المعرفة والحقيقة. فالله يواجههم بغلبة عشقه ورحمته. والعشق في كيان هؤلاء، في عصر الغيبة، يظهر من الغيب أحيانًا ونادرًا في الناسوت. والآن العشق في غيبة، مغطى بالعلوم المفهومية والقوة الصناعية، محجوب، ولا فرصة له للظهور. ومع ذلك، فإن الأولياء الذين تتجلى فيهم المعرفة العليا والعشق بحسب توازن الروح والجسد من خلال كيانهم الجسماني، هم في غربة وغيبة، وإيجادهم يتطلب توفيقًا وعناية. والاقتداء بهؤلاء الأولياء الأحياء ذوي الحياة الإلهية هو الأسلوب الشيعي. عصر الغيبة هو عصر غيبتهم واختفائهم، ولا اقبال عام ولا حكم ولا إدارة لهم. هؤلاء في غيبتهم يملكون رؤية الغيب والعلم اللدني الإلهي والإنباء الربوبي والتعليم الباطني من خلال قلب نوراني مطمئن، فإذا كان لهم من الله حكم بنشر وتبليغ ذلك في نظام الإنباء الربوبي، يقومون بهذه الضرورة الإلهية.

نظام العلم والعشق

إن نظام العلم والمعرفة يقوم على محور العشق النقي وعناية الحق تعالى. والعشق، إلى جانب ساحته الطبيعية ودائرة الدماغ والقلب الجسماني، وساحته النفسانية، يقوم على القلب الباطني والسر القدسي، وله ساحات ربوبية وروحية تصل إلى عشق الذات. والعشق والمحبوبية هما عامل التفوق الطولي للعاشق الواصل إلى مقام الذات على سائر الظواهر، سواء أكانت إنسانية أم غير إنسانية كالملائكة والأرواح. وينبغي اكتساب العلم والمعرفة بتربية عاشق متفانٍ، أولياء صمدانيين، يثقلهم هجوم المعارف ويحيرهم الحيران والهيمان والعشق، حتى يتركوا فعل وصفة الحق تعالى، ويعيشون حياة حقية إلهية بضرورة ووجوب.

هوامش:
  1. الآيات القرآنية مأخوذة من القرآن الكريم.
  2. الروايات الواردة تحتاج إلى توثيق إضافي من مصادر مثل نهج البلاغة والكافي.

المقدمات الإعلامية والدلالية التكوينية

تناولنا حتى الآن المعنى التكويني للرواية: «يا أحمد! لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما». فالتكوينية لهذه الرواية تعني أن الله تعالى أوجدها في ساحة اللاهوت وحوار إلهي بصورة عينية، وليس الهدف منها الإخبار أو النقل الوصفي، وإن كانت في ساحة الذهن تحمل معنىً وصفيًا وإخباريًا مفهوميًا.

الهدف من الرواية وأهمية المقدمات الإعلامية

لكن الهدف الأساسي هنا هو بيان أن الروايات ذات المعاني التكوينية، التي تصف الخلق ومعرفة الوجود وظواهره، لا تكتسب معناها إلا بوجود مقدمات إعلامية. هذه المقدمات الإعلامية، التي تُعرف بعالم المعاني والثقافة والمعارف المتلازمة والمنظومة الفكرية، إما أن تكون أساسية (بديهية) أو بنائية، أي تتألف من قضايا برهانية أو قضايا وحيانية أو بيانات عصمية تنبئ عن إنشاء القول من الله تعالى أو من معصوم، وصلت بسند قطعي. وإن لم تصل بسند قطعي، فإنها تكون متسقة مع المقدمات الإعلامية الأساسية (البديهية) والقضايا البرهانية.

في الرواية: «ولولا فاطمة لما خلقتكما»، الأهم هو تساوق معناها مع القضايا العقلية والوحيانية والروايات المطمئنة. والتساوق، وهو معيار صدق القضايا غير القطعية، ليس من قبيل الدلالة اللفظية التي تتطلب وضوحًا أو عمومًا، بل المقصود هو الانسجام مع روح النص الوحياني، حتى لو لم يُذكر عنوان محدد له بشكل خاص أو عام، ولا يتطلب سندًا قطعيًا. على هذا الأساس، فإن نقد المحتوى هو السبيل الأمثل لتفسير النصوص القدسية مثل هذه الرواية.

النقد المحتوائي والعقل القدسي

النقد المحتوائي هو اجتهاد يقوم على العقل القدسي، أو أعلى من الاجتهاد، وهو الاعتماد على إنباء صاحب الملكة القدسية والحكمة النورية أو الولاية الموهوبة في فهم النص. هذا الإنباء يمنح المعرفة الحجية ويجعلها إلهية ودينية، وليس الاجتهاد في مواجهة النص القدسي. وهكذا، فإن التأمل العميق القائم على العقل النوري والإنباء القدسي، أو الاجتهاد في فهم النص الصامت وجعله ناطقًا، يندرج ضمن الشرع ولا يُعد خروجًا عن حدوده. والملكة القدسية والولاية الباطنية ليستا مكتسبتين، بل إن التأدب بالآداب الإلهية وصفاء الباطن هما من لوازمهما، لا من مبادئهما أو جوهرهما.

بهذا التوضيح، فإن نفس الأمر وواقع الروايات، مثل ما نقل في «جنة العاصمة» عن شخص مجهول كصالح بن عرندس الحلي دون سند قطعي، هو تلك المعارف البديهية والقضايا البرهانية والوحيانية التي وصلت إلى المتلقي بيقين. هذه العناصر تجعل الرواية الصادقة محاطة بقرائن قطعية. وبنظرة شمولية ومنهجية إلى القضايا في مجال المعارف وعالم النصوص القدسية، فإن الرواية التي تبدو من طريق الآحاد، أو تعاني من انقطاع أو إرسال، أو يكون رواتها مجهولين أو حتى مذمومين، تصبح، بنظرة داخلية وتأمل في وحدة المحتوى، مستفيضة أو متواترة معنويًا، وتكتسب الإجمال عبر وحدة اللوازم الدلالية. على هذا الأساس، إذا كانت قضية دينية صحيحة سنديًا لكنها تتعارض مع شروط النقد النصي ونفس الأمر، فلا تُقبل. وعلى العكس، إذا كانت قضية ضعيفة سنديًا أو مشوبة بالقدح، لكنها متسقة مع النقد الداخلي والتأمل الدلالي ونفس الأمر، فإنها تُعد علمية وتُقبل. وهكذا، يتفوق النقد النصي والتدقيق الداخلي للحديث دائمًا على النقد السندي والبحث الخارجي.

دور العقل النوري في تقييم النصوص

يُقيَّم النص الروائي ذو المحتوى التكويني بمصداقية عقلية بالرجوع إلى تكوينه. والمصداقية العقلية، التي تتفتح بنور الحكمة وقابلية التربية الإلهية، تتغلب على ضعف أو قوة السند. فمع تأييد العقل، لا يُعتد بضعف السند أو مجهولية الراوي أو توثيقه. لذا، إذا كان نص يقدم معنى معرفيًا مدعومًا بشرع ذي سند قوي لكنه يحمل محتوىً معاديًا للعقل، فإن النص نفسه يكذب ذاته ويصبح ذاتي التدمير، ولا يُقبل. والمتكلم يستخدم المعارف البديهية والبراهين اليقينية وعالم المعاني والثقافة كقرائن في كلامه، وبقدر ما تفيد هذه المعارف والبديهيات والبراهين في إيصال المقصود، يقلل من استخدام الألفاظ كقرائن ويستغني عن ذكرها. وفي بعض الحالات، تكون البداهة أو البرهان هي القرينة الصارفة عن المعنى الظاهر، فيُحتاج إلى قرينة معينة لتحديد المراد.

المقدمات الوحيانية والعصمية صامتة بطبيعتها، ولا تصبح ناطقة إلا بنور العقل القدسي والحياة القلبية. وقد ينجح العقل في فهم المعلوم فقط عند تدقيق القضايا الوحيانية القطعية، دون كشفه، لكن في التأمل العميق في القضايا غير اليقينية، فإن الفهم والكشف والحكم النهائي كلها منوطة بالعقل القدسي. لذا، إما أن يكون طالب العلم موهوبًا بالعقل القدسي، وإما أن يتبع منهج العقلاء بالتقليد غير الواعي من العارفين والمتخصصين، فيُحيل إلى العقل النوري.

الدراية والاجتهاد في النصوص القدسية

لطالما شُجع التدقيق والاجتهاد الدرائي في النصوص القدسية. وفي الرواية:

عن أبي عبد الله (ع) قال: قال أبو جعفر (ع): يا بني، اعرف منازل الشيعة على قدر روايتهم ومعرفتهم، فإن المعرفة هي الدراية للرواية، وبالدرايات للروايات يعلو المؤمن إلى أقصى درجات الإيمان. إني نظرت في كتاب لعلي (ع) فوجدت في الكتاب أن قيمة كل امرئ وقدره معرفته، إن الله تبارك وتعالى يحاسب الناس على قدر ما آتاهم من العقول في دار الدنيا.

[رواية منقولة]

نقل بريد الرزاز عن الإمام الصادق (ع) أن الإمام الباقر (ع) قال: يا بني، معيار علم الشيعة وفهمهم هو مقدار ما تعلموه من الروايات وما نقلوه لغيرهم، فالمعرفة هي الدراية والفهم الصحيح للرواية، وبالدراية يصل المؤمن إلى أعلى مراتب الإيمان. وقد رأيت في كتاب لأمير المؤمنين (ع) أن قيمة كل إنسان ومقامه هو بمقدار معرفته، فإن الله تعالى يحاسب الناس بقدر ما منحهم من العقول في الدنيا.

يجب ملاحظة أن الدراية والبحث النصي في الروايات يتطلبان منطقًا علميًا. وفي الموضوعات الناسوتية المحسوسة، فإن المنهج التجريبي والاستفادة من الاستقراء ومعرفة العلوم التجريبية والطبيعية والاجتهاد العلمي هو منطقها. فالحديث عن الكون الناسوتي وتعقيدات الظواهر المادية والعوالم التجردية والربوبية لا يمكن دون امتلاك أدوات تقييم ومعايير علمية متفق عليها ومشتركة بين العقول ومؤسسة على القلب.

نقد النظريات الفلسفية حول النفس الكلية

تظهر هذه الاختلالات في نقد سند الرواية المذكورة لتصويرها بلا مصداقية، وكذلك في بعض الكتابات التي لم تلتزم بمنطق فهم التكوين في أقوالها. من ذلك تفسير المقامات النورية والمعنوية للسيدة فاطمة الزهراء (ع) بناءً على نظرية النفس الكلية الفلسفية. في فلسفة المشاء وبعض الكتب العرفانية، يُتحدث عن النفس الكلية بعد العقل الأول. بعضهم خلط بين الحضرات، فجعل النفس الكلية مرتبة من مراتب الوجود في قوس النزول، والبعض اعتبرها ذاتًا متشخصة، مصدر النفوس والأرواح الجزئية للظواهر المادية مثل النفوس الفلكية والقوى النباتية ونفوس البشر، ووسيطة الفيض بين العقل الكلي وعالم المثال. والبعض الآخر اعتبرها نفس الأمر للأشياء ومخزنًا منفصلاً للعلم الخلقي الإلهي.

في رأي هؤلاء، النفس الكلية أعلى من عالم المثال والملكوت وأشرف منهما، لكنها دون مرتبة العقل. ومكان تعلق النفس الكلية واستقرارها في عالم المادة، بناءً على نظرياتهم المستندة إلى الهيئة البطلميوسية، هو الأفلاك. بعضهم اعتبر الفلك الثامن فلك الكرسي، مظهرًا أكمل للأمور الكمالية مثل القرآن الكريم والإنجيل والتوراة والزبور والصحف وغيرها من الكتب السماوية، ومكانًا للصور والنقوش الإلهية للعلوم، التي تنبثق منه جميع العلوم والمعارف الكمالية. وبعضهم جعلها مكان جبريل. هذه المرتبة من العلم الخلقي الإلهي تتفوق على مرتبة العلم الحقي (الأعيان الثابتة) فقط بتقدم احاطة العلم الحقي الدائمة وسعته الكاملة. وعلم العقل الأول يشابه الأعيان الثابتة وهو تعين ثانٍ، والنفس الكلية مرتبة تالية له، تحاكي حقيقة العلم الحقي. لذا، فالنفس الكلية، بما هي نزول علمي، تأتي بعد الأعيان الثابتة والعقل الأول، ولها انفعال وارتسام أكبر وقيود أكثر تكثرًا. هذا الرأي، الذي يعتبر قوس النزول علميًا ومن جنس المعرفة، صحيح، والخلق النوري يحمل هذا المعنى، لكن جعل النفس الكلية مرتبة دون استناد شرعي أو رؤية عقلية هو خطأ، وإن كان قوس النزول يتضمن مراتب.

بما أن فضيلة مراتب الظواهر تقاس بقربها أو بعدها العلمي من العلم الحقي، فأدنى مراتب الظواهر الوجودية هي مرتبة الوهم، التي يليها الجهل. وقد ذكرنا سابقًا في بحث الخلق النوري أن الفرق بين العقل الكلي والنفس الكلية، في رأي هؤلاء العلماء، هو أن العقل الكلي ينظر إلى الكليات دون تفصيل، بينما النفس الكلية تتضمن جميع الكليات العقلية بصورة مفصلة ومتشخصة ودقيقة ومميزة عقليًا، دون تجدد أو انفصال في المعاني. لذا، تُسمى لوح القدر ولوح محفوظ وكتاب مبين. ويعتقد هؤلاء أن الوحي ينبثق من العقل الكلي، والإلهام من النفس الكلية، وأن النفس الكلية أقوى وأعلى بكثير من النفس الناطقة البشرية الجزئية.

نقد مفهوم النفس الكلية

يجب الانتباه إلى أن النفس الكلية، بغض النظر عن تسميتها، ليست نفس الأمر للأشياء، لأن نفس الأمر لكل ظاهرة هو الظاهرة ذاتها. لذا، يتم الوصول إلى صحة أو خطأ القضايا وصدقها أو كذبها بالرجوع إلى الظاهرة نفسها، لا إلى شيء آخر. معيار الصدق والكذب هو السبر والتقسيم والتجربة لكل شيء وفق موقعه، بمعنى أن واقع كل شيء هو ذاته، وللوقوف عليه يجب دراسته علميًا، والمطابقة مع ذاته هي معيار الصدق.

في الكتب العرفانية التقليدية، تقليدًا لفلسفة المشاء، وخاصة في «مصباح الأنس» و«فصوص الحكم»، تُعتبر النفس الكلية مرتبة «أم الكتاب» و«لوح محفوظ». يجب الانتباه إلى عدم الخلط بين الحضرات وظواهرها في معرفة العوالم والحضرات. وبعضهم، كالملاهادي السبزواري، جعل أم الكتاب مقدمة على الكتاب المبين، وقصر مرتبة النفس الكلية على الكتاب المبين. وفي رأيه، النفس الكلية هي خليفة العقل الأول ومصباح نوره في نشأة الملكوت بصورة التطابق. ويرى السبزواري أن النفس الكلية، كالعقل الكلي، لها اطلاقان: الأول، نفس محيطة ومسيطرة على جميع النفوس، والثاني، نفس تتعلق بجميع النفوس كلها.

اعتبر الفلاسفة في الإطلاق الأول النفس الكلية عالمًا وحضرة تحيط وتتغلغل في جميع النفوس. فالنفس الكلية لعالم الوجود تملك قوة وسعة وطاقة سعي تجعل جميع الأمور الخيالية والقوى المثالية تحت إشرافها وتدبيرها التكميلي.

في التفسير المنسوب إلى ابن عربي، يُعتبر العقل الكلي مرتبة الروح، والنفس الكلية مرتبة القلب، فالنفس الكلية هي قلب عالم الوجود. ويذكر هذا التفسير أن النفس في الآية الشريفة التالية، وهي أول آية في سورة النساء، هي النفس الكلية:

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا

[النساء: 1]

يا أيها الناس، اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرًا ونساء، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبًا.

في هذا التفسير، النفس الكلية هي الموجدة لجميع النفوس الجزئية، وقد تأول آيات أخرى على هذا المعنى.

نقد التأويلات المستندة إلى الهيئة البطلميوسية

يقول ابن فناري في شرح «مصباح الأنس» نقلاً عن جندي: إن أوضح دليل على أن النفس الكلية وقواها منتشرة في طبقات السماوات هو أن نفسنا تملك قوى منتشرة في الجسد. وقد اعتبر النفس الكلية أمرًا مسلمًا وفق فلسفة المشاء، دون تقديم دليل، ثم ادعى دون دليل أن هذه القوى منتشرة في السماوات، ثم تأول بعض آيات القرآن الكريم على هذا المعنى، دون أي تناسب بين هذه الادعاءات غير المثبتة والآيات المقصودة. وتستند هذه الآراء كلها إلى الهيئة البطلميوسية وفلسفة المشاء. فقد اعتقدوا أن الكرات السماوية هي جسد النفس الكلية، وأسندوا حركتها الإنتقالية إلى هذه النفس. ولأن هذه الكرات تملك حركة وضعية إلى جانب الحركة الإنتقالية، ولا يمكن ربط الحركة الوضعية بالنفس الكلية، فقد افترضوا لها نفسًا جزئية. وفي الآونة الأخيرة، بنى أحد العلماء جوهر بحثه في تفسير المقامات المعنوية للسيدة فاطمة الزهراء (ع) على هذا الرأي الباطل، معتبرًا هذا التصور، الذي ينتقص كثيرًا من مقاماتها المعنوية، إلهامًا قدسيًا، وقدمه بفخر للآخرين. وعلى الرغم من أن الهيئة البطلميوسية وفلسفة المشاء قد أُبطلت، فإن تبعات هذه العلوم والفلسفات التقليدية لا تزال تؤثر على بعض علماء العلوم الإسلامية والإنسانية، الذين يرددونها تقليدًا للكتب العرفانية والفلسفية التقليدية.

في كتاب «فص حكمة عصمتية في كلمة فاطمية»، وهو من أهم المصادر في بيان عقائد الشيعة وتفسير منزلت وفضائل السيدة فاطمة الزهراء (ع)، يُبنى المحور الأساسي على هذه البيانات. يُذكر في بداية الرسالة: «والأزواج ذات مصاديق لا تُحصى: منها العقل الكل والنفس الكلية. الأزواج لها مصاديق لا حصر لها، ومنها العقل الكل والنفس الكلية». وفي رسالة «لوح وقلب» يُقال: «الإمام أمير المؤمنين علي (ع) مظهر العقل الكل، وسيدة نساء العالمين فاطمة الصديقة مظهر النفس الكلية». ويوضح المؤلف في الفص العصمتي النفس الكلية قائلاً: «الموجود المفارق، إذا أُضيف إلى الطبيعة، سواء بإضافة تكميلية أو استكمالية، يُسمى نفسًا. الأول يُسمى النفس الكلية، والثاني النفس الجزئية. وإذا أُغفل عن الإضافة، يُسمى الأول العقل الكلي والثاني العقل الجزئي». هذا الكتاب لا يذكر ضرورة النفس الكلية ولا يقدم دليلاً عليها، بل يعتبرها أمرًا مسلمًا على طريقة القدماء. وكذلك، مثل بعض التفاسير العرفانية كتفسير الشهيد السيد مصطفى الخميني، يعتبر العقل الكلي مرجعًا لآدم والنفس الكلية مرجعًا لحواء، ويعد ارتباط العقل الكلي بالنفس الكلية نكاحًا ثانيًا.

الخلط بين الأسماء الإلهية والنفس الكلية

ظن البعض أن رب النفس الكلية هو الاسم الرحيم. لكن رب النفس الكلية، إن صح هذا المعنى، هو الرحمن لا الرحيم. ومن اعتبر الرحيم رب النفس الكلية فقد خلط بين العام والخاص والكلي والجزئي. فالاسم الرحيم لا يُظهر الجزئيات، بل يُظهر الخصائص والصفات الخاصة. كما أن النفس الكلية، بحسب تفسيرها، تختلف عن القدر الجزئي ولوح محفوظ، إذ إن موضوعهما متمايز.

على الرغم من هذه الاختلاطات، لم يقدم أي من الكتب المذكورة تحليلًا أو استدلالًا لإثبات النفس الكلية أو تطبيقها على أم الكتاب أو لوح محفوظ أو الكرسي، ولا على التأويلات المتعلقة بآيات القرآن الكريم في هذا السياق، أو التأويلات التي تحرف مقامات السيدة فاطمة الزهراء (ع) المعنوية بناءً على هذا الرأي. نعم، النفس الكلية وردت بكثرة في كتب ابن عربي، وقبلها أتباعه تقليدًا أعمى وتسليمًا كاملاً.

بطلان النفس الكلية وأسسها العلمية

أهم دليل على النفس الكلية هو استناد حركة الأفلاك وتفسير مدارات الكواكب في فلسفة المشاء إليها، وهو مبني على الهيئة البطلميوسية والبيانات العلمية اليونانية وأدوات القرن الثاني الميلادي البدائية، وقد ثبت بطلانها اليوم. فحركة الكواكب والأجرام والسوائل تخضع للميكانيكا والقوانين الطبيعية الحاكمة على كل ظاهرة، التي لا يمكن أن تكون بلا حركة بسبب الحرارة والطاقة. وقد افترض المشائيون، مقابل الأفلاك التسعة، عقولًا عشرة ونفسًا كلية، ليتمكنوا من تفسير ظهور الكثرة من مبدأ واحد وفق قاعدتهم الفلسفية «الواحد». وفي نظرهم، العقل الأول، وهو أول مخلوق الله تعالى، يُوجد النفس الكلية للفلك من جهة إمكانه. وقد لاحظوا أن تغير الفصول ينتج عن الحركة الإنتقالية للنجوم في الأفلاك (المدارات). وكان فهمهم صحيحًا في أن النجوم تملك حركة وأن حركتها منظمة (فلك)، لكنهم اعتقدوا أن هذه الحركة المنظمة والواعية لا تكون إلا في نظام نفساني، ولم يكونوا على دراية بالميكانيكا وقوانين الطبيعة مثل الجاذبية، فاستبدلوا النظام الميكانيكي الطبيعي بنظام نفساني.

لا شك أن الإنسان يمكن أن يملك نفسًا، وأن نفسه قادرة على الارتقاء أو التدني إلى التجرد العقلي، وأن التجرد العقلي الكامل يصل إلى الحقيقة وجوهرها، بل إلى التجرد الفائق والوصول إلى الحقيقة ذاتها، فيتحقق بالعشق والوحدة. كما أن مقام النفس البشرية، أي ذات الإنسان، وليس النفس بمعنى مرتبة الكمال بين الطبع والقلب، يملك مثالًا ثم ملكوتًا ومقام القلب. ومن هذه الحقيقة الصاعدة يمكن إطلاق مصطلح النفس الكلية وصياغته، كما أن الإنسان يملك نفسًا مادية حيوانية تُعرف بالحيوان الناطق. لكن ليس صحيحًا أن جميع الظواهر المادية والناسوتية تملك نفسًا، ولا يمكن افتراض نفس كلية لحركتها الإنتقالية ونفس جزئية لحركتها الوضعية. وكما أن النفس الكلية من زخارف الهيئة القديمة، فكذلك الجسم الكلي، الذي يُذكر أحيانًا في هذا السياق، والذي آمن به الملاصدرا أو ورد في كتابات عين القضاة الهمداني، جاعلاً الجسم إلهيًا.

تأثير النظريات غير العلمية على الدين

إن بناء الفلسفة والعرفان على آراء تفتقر إلى القيمة العلمية، وما هو أسوأ، تفسير الحقائق الدينية دون مراعاة التناسب ومنطق فهم الدين بناءً على هذه الآراء البشرية غير المدعومة بالدليل والبحث، لا يؤدي فقط إلى تلويث العرفان والفلسفة، بل يشوه الدين ويحرف حقائقه ويصغرها. وفي المقابل، أولئك الذين يكذبون الحقائق دون التزام بالبحث يعيشون في الحرمان.

لم يثبت وجود النفس الكلية في أي مكان، وهي مثل تخيلات الشيخ الأحسائي عن جابلقا وجابلسا في شرح زيارة الجامعة، أو مثل أسطورة جزيرة الخضراء، وكلها تخيلات باطلة. ولا يمكن اتخاذها أساسًا لتفسير مناقب وفضائل جوهر الشريعة الإلهية وناموس الذات غير المتعينة للحق تعالى (ع)، وتحريف الحقائق وتصغيرها.

السير النزولي والصعودي والعوالم

اعتقد العلماء الذين طبقوا النفس الكلية على لوح محفوظ وكتاب مبين وغيرها من المصطلحات المشابهة أن سير النزول والصعود للظواهر هو مسار دائري، تنزل فيه جميع الظواهر من الوجود على هذا المسار وتعود إليه. لكن سير النزول والصعود يتضمنان شوارع وسبلاً كثيرة، كل منها يشكل عالمًا. وبعض التعابير الروائية تتحدث عن ثمانية عشر ألف عالم، ويمكن القول إن هذا الرقم يشير إلى كليات العوالم، وإلا فالوجود يملك تشأنات وتجليات ومسارات وعوالم لا نهائية، وكل مسار يحمل في ذاته اللانهائية. وكما يقسمون عالم الخلق والفعل الإلهي إلى عقلي ومثالي ومادي، فقد تبنينا في بداية هذا الكتاب الفلسفة الشائعة، لكن بدقة أكبر، ينبغي تقسيم حضرات الفعل الإلهي إلى عقل وملكوت ومثال ومادة، فيصبح الخلق رباعيًا، ومع إضافة حضرة الإنسان الكامل تصبح خمس حضرات.

العوالم تنقسم إلى نزولية وصعودية. وسير النزول هو تعينات متتالية لعلم الله، وسير علمي ومعرفي. وعالم المثال يقع في سير النزول، بينما البرزخ في سير الصعود، ولا علاقة بينهما. وعالم المثال المتصل هو العالم الموجود في نفس الإنسان، ويختلف عن عالم المثال المنفصل النزولي والبرزخ المنفصل الصعودي. وعالم الذر يُعتبر عالم المثال المنفصل النزولي، وهو مختلف عن الملكوت. هذه العوالم خارج النفس البشرية وموجودة في الخارج، مثل الجنة والنار، وهما عالمان خارجيان، وليسا نفسانيين كالمثال المتصل الموجود في باطن الإنسان فقط. والآخرة عالم من عوالم الوجود، خارج النفس البشرية، وله حقيقة عينية وخارجية. يجب قبول هذه العوالم فقط بإخبار القرآن الكريم والشريعة الإلهية وأقوال الصادق المصدق، والتحدث عنها بنفس لغة الآيات القرآنية والروايات المعتبرة. وعوالم مثل العرش والكرسي ولوح وقلب مقبولة لأن القرآن والروايات تحدثت عنها، لكن لا توجد آية أو رواية في النصوص القدسية تشير إلى النفس الكلية.

النفس والتسبيح الذاتي

من ناحية أخرى، كل ظاهرة تملك نفسًا، فإن نفسها ملازمة لها، ولا يدبرها أو يهديها شيء خارجي، ولا تحتاج إلى عقل فعال للإلقاءات. فحركة وشعور وتسبيح كل ظاهرة تنبثق من ذاتها، وليس كما يُزعم في «مصباح الأنس» ونقلًا عن جندي أن النفس الكلية وقواها منتشرة فيها، تدبر طبقات السماوات وتربي الظواهر السماوية والأفلاك. بل إن ملكوت كل شيء عند ربه:

فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ

[يس: 83]

فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه تُرجعون.

هوامش:
  1. الآيات القرآنية مأخوذة من القرآن الكريم.
  2. الروايات الواردة تحتاج إلى توثيق إضافي من مصادر مثل الكافي والبحار.
  3. النصوص الفلسفية مستمدة من «فصوص الحكم» لابن عربي، «مصباح الأنس»، وكتابات الملاصدرا.

نقد مفهوم النفس الكلية ومناقب السيدة فاطمة الزهراء

عدم تحليل مفهوم النفس الكلية في الرسالة المذكورة

الرسالة المشار إليها، التي تتخذ من إتمام فصول «فصوص الحكم» لابن عربي دافعًا لها، لا تعمد إلى تتبع السير التاريخي لمفهوم النفس الكلية، ولا إلى استقصاء اصطلاحاتها وتطبيقاتها. بل إنها، في عباراتها التي أُوردت، تكتفي بتعريف هذا المفهوم دون أن تبرر وجوده أو توضح ماهيته وكيفيته، سواء في سياق تأليف النص الأصلي أو في شرحه. وهكذا، فإنها تبني محتواها على هذا المفهوم دون تحليل أو استدلال يبين أسسه.

نقد الاستناد إلى النقل دون التحقيق العلمي

إن الاستناد إلى أقوال أعلام العرفان والفلسفة لا يكفي لإضفاء المصداقية على مفهوم النفس الكلية، بحيث يمكن اعتبار السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) مظهرًا أتم لهذا المفهوم. فإن مقاماتها الروحية، التي تتجاوز بكثير هذا المفهوم، تقوم في مقام العشق والوحدة مع صقع الذات الإلهية، وهي أسمى بكثير من ظواهر عالم الجبروت. إن العلم والبحث لا يستقيمان بمجرد نقل أقوال المتقدمين من المفكرين المشهورين أو الحكايات المؤثرة التي تحمل طابع الحزن والتقليد، فذلك لا يرقى إلى مستوى التحقيق العلمي ولا يحظى بالاعتبار كمعيار للصدق. بل إن مثل هذا النهج لا يروي ظمأ العلم والدين فحسب، بل قد يكون مدمرًا للمعارف الإسلامية. وفي عالم اليوم، حيث أصبح العلم دقيقًا ومجهريًا ومبنيًا على التجربة والتحليل العقلي العميق أو الشعور القلبي والشهود، فإن التقليد الأعمى لأقوال المشاهير والمعارف القديمة سيؤدي إلى انهيار جدران الفلسفة والعرفان التقليدية، ويفتح المجال أمام المعاندين والخصوم ليستغلوا هذه الثغرات في مهاجمة الروحانيات والحقائق، بل واستهزاء العرفان، الذي هو عروس العلوم وأنقاها، وتخطئة المنهج العقلي في إدراك الحقائق. وإذا ما تسربت مثل هذه الانحرافات إلى الدين، فإنها ستلوثه وتجعله في حالة جمود.

ضرورة الالتزام بالقرآن والروايات القدسية

فيما يتعلق بولاية السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومناقبها الروحية، يجب التقيد بالقرآن الكريم، الذي يحتوي على آيات محددة، والجلوس في محضر الروايات القدسية، واعتبار النصوص الوحيانية والروايات الصحيحة مصداقًا للإيمان بالغيب الذي أُمرنا به. ومع ذلك، فإن فهم النصوص الوحيانية وكلام المعصوم يتطلب امتلاك أدوات معرفية مناسبة لفهم منهجي، كما أشرنا سابقًا.

كما أن تبيين الحقائق لا ينبغي أن يؤدي إلى تحريفها، فإن تكذيبها أيضًا يعد خطرًا يؤدي إلى الحرمان. إن الذين ينتقدون سند الروايات التكوينية، مثل الرواية المبحوثة، بأدوات نقد الروايات الفقهية التعبدية، عليهم أن يطهروا عقولهم وقلوبهم من الشوائب، فإن التواجد الواعي والعلمي في عالم الناسوت، تحت ظلال النور المبارك للسيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، يتطلب طهارة مضاعفة تفوق الطهارة اللازمة للانسجام مع الحكمة النورية، بل والدخول في ساحة الوحي الإلهي والقرآن الكريم.

تكذيب المعاني التكوينية وتأويل آيات سورة الواقعة

إن الذين يكذبون المعاني والقضايا التكوينية المرتبطة بالإيمان والاعتقاد يمثلون تأويل الآيتين 92 و93 من سورة الواقعة. ولتوضيح هذا التأويل، نورد المشهد الذي رسمه القرآن الكريم كاملاً:

فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ * فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ * فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ

[الواقعة: 75-96]

لا، أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم، إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون، لا يمسه إلا المطهرون، تنزيل من رب العالمين. أفبهذا الحديث أنتم مدهنون، وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون؟! فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون، ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون، فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين. فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين فسلام لك من أصحاب اليمين، وأما إن كان من المكذبين الضالين فنزل من حميم وتصلية جحيم. إن هذا لهو حق اليقين، فسبح باسم ربك العظيم.

إن تكذيب المعاني التكوينية والمعرفية يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالإيمان والاعتقاد. ففي الأمور التكوينية التي لا تُناقش على مستوى المفاهيم العلمية، بل على مستوى المعرفة العميقة، لا يجوز التدخل دون اختصاص أو دليل وحجة، وإصدار أحكام أو آراء بلا روية. لذا، في الأمور المعنوية والمعرفية المتعلقة بالتكوين والاعتقادات، يجب مراعاة قدرة المتلقي وتحمله، وإلا فإن تكذيب معرفة صادقة أو قضية اعتقادية سيؤدي إلى مصير المكذبين الذين وصف القرآن عاقبتهم في هذه الآيات.

شواهد حديثية تدعم الرواية التكوينية

فيما يلي، نورد شواهد حديثية تؤيد معنى ومحتوى القول القدسي: «يا أحمد! لولاك لما خلقت الأفلاك، ولولا علي لما خلقتك، ولولا فاطمة لما خلقتكما». نبتدئ برواية طويلة من كتاب «كمال الدين وتمام النعمة» للشيخ الصدوق، وهو من أوائل الكتب وأوثقها في مسألة الغيبة، مستندًا إلى الأصول الأربعمائة الأولى. ففي هذه الرواية، نجد فرازًا يقول: «يا علي، لولا نحن ما خلق الله آدم، ولا حواء، ولا الجنة، ولا النار، ولا السماء، ولا الأرض»، وفرازًا آخر: «فإنك نوري في عبادي ورسولي إلى خلقي، وحجتي على بريتي، لك ولمن تبعك خلقت جنتي، ولمن خالفك خلقت ناري». هذه الفرازات تؤكد معنى القول: «لولاك لما خلقت الأفلاك»، وتدعمها بسند معتبر. كما تبين الرواية تفوق أهل البيت (عليهم السلام) على الملائكة.

رواية «لولا نحن»

روى الإمام الرضا (عليه السلام) عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «ما خلق الله خلقًا أفضل مني ولا أكرم عليه مني». قال علي (عليه السلام): فقلت: يا رسول الله، فأنت أفضل أم جبرئيل؟ فقال (صلى الله عليه وآله): يا علي، إن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين، والفضل بعدي لك يا علي وللأئمة من بعدك. وإن الملائكة لخدامنا وخدام محبينا».

ثم قال: «يا علي، {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [غافر: 7] بولايتنا. يا علي، لولا نحن ما خلق الله آدم، ولا حواء، ولا الجنة، ولا النار، ولا السماء، ولا الأرض، فكيف لا نكون أفضل من الملائكة؟! وقد سبقناهم إلى معرفة ربنا، وتسبيحه وتهليله وتقديسه؛ لأن أول ما خلق الله عز وجل أرواحنا، فأنطقها بتوحيده وتمجيده».

ثم خلق الملائكة، فلما شاهدوا أرواحنا نورًا واحدًا، استعظمت أمرنا، فسبحنا لتعلم الملائكة أننا خلق مخلوقون، وأنه منزه عن صفاتنا. فسبحت الملائكة بتسبيحنا، ونزهته عن صفاتنا. فلما شاهدوا عظم شأننا، هللنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلا الله وأننا عبيد وليسنا بآلهة يجب أن نعبد معه أو دونه، فقالوا: «لا إله إلا الله». فلما شاهدوا كبر محلنا، كبرنا لتعلم الملائكة أن الله أكبر من أن ينال عظم المحل إلا به. فلما شاهدوا ما جعله الله لنا من العزة والقوة، قلنا: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، لتعلم الملائكة أن لا حول لنا ولا قوة إلا بالله. فلما شاهدوا ما أنعم الله به علينا وأوجبه لنا من فرض الطاعة، قلنا: «الحمد لله»، لتعلم الملائكة ما يستحق لله تعالى ذكره علينا من الحمد على نعمه. فقالت الملائكة: «الحمد لله». فبنا اهتدوا إلى معرفة توحيد الله عز وجل وتسبيحه وتهليله وتحميده وتمجيده.

ثم إن الله تبارك وتعالى خلق آدم فأودعنا صلبه، وأمر الملائكة بالسجود له تعظيمًا لنا وإكرامًا، وكان سجودهم لله عز وجل عبودية، ولآدم إكرامًا وطاعة لكوننا في صلبه. فكيف لا نكون أفضل من الملائكة وقد سجدوا لآدم كلهم أجمعون؟

وإنه لما عُرج بي إلى السماء، أذن جبرئيل مثنى مثنى وأقام مثنى مثنى، ثم قال لي: تقدم يا محمد. فقلت له: يا جبرئيل، أتقدم عليك؟ قال: نعم، لأن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه على ملائكته أجمعين، وفضلك خاصة. قال: فتقدمت، فصليت بهم، ولا فخر. فلما انتهيت إلى حجب النور، قال لي جبرئيل: تقدم يا محمد وتخلف عني. فقلت له: يا جبرئيل، في مثل هذا الموضع تفارقني؟ فقال: يا محمد، إن انتهاء حدي الذي وضعني الله عز وجل فيه إلى هذا المكان، فإن تجاوزته احترقت أجنحتي بتعدي حدود ربي جل جلاله.

فزُخَّ بي النور زخة حتى انتهيت إلى ما شاء الله عز وجل من علو مكانه، فنوديت، فقلت: لبيك ربي وسعديك، تباركت وتعاليت. فنوديت: يا محمد، أنت عبدي وأنا ربك، فإياي فاعبد، وعلي فتوكل، فإنك نوري في عبادي ورسولي إلى خلقي، وحجتي على بريتي، لك ولمن تبعك خلقت جنتي، ولمن خالفك خلقت ناري، ولأوصيائك أوجبت كرامتي، ولشيعتهم أوجبت ثوابي.

فقلت: يا رب، ومن أوصيائي؟ فنوديت: يا محمد، أوصياؤك المكتوبون على ساق عرشي. فنظرت وأنا بين يدي ربي جل جلاله إلى ساق العرش، فرأيت اثني عشر نورًا في كل نور سطر أخضر، عليه اسم وصي من أوصيائي، أولهم علي بن أبي طالب، وآخرهم مهدي أمتي. فقلت: يا رب، هؤلاء أوصيائي بعدي؟ فنوديت: يا محمد، هؤلاء أوصيائي وأحبائي وأصفيائي وحججي بعدك على بريتي، وهم أوصياؤك وخلفاؤك وخير خلقي بعدك. وعزتي وجلالي لأظهرن بهم ديني، ولأعلين بهم كلمتي، ولأطهرن الأرض بآخرهم من أعدائي، ولأملكنَّه مشارق الأرض ومغاربها، ولأسخرن له الرياح، ولأذللن له السحاب الصعاب، ولأرقينه في الأسباب، ولأنصرنه بجندي، ولأمدنه بملائكتي، حتى يعلن دعوتي، ويجمع الخلق على توحيدي، ثم لأديمن ملكه ولأداولن الأيام بين أوليائي إلى يوم القيامة».

رواية «لا فرق بينك وبينها»

في توقيع منسوب إلى الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وردت زيارة رجبية لأعمال شهر رجب، نقلها الشيخ الطوسي (ت 460هـ) في «مصباح المتهجد» عن ابن عياش، أحمد بن محمد بن عبيد الله الجوهري (ت 401هـ)، وهو محدث إمامي، عن عثمان بن سعيد العمري (ت 305هـ)، الذي كان النائب الثاني في عصر الغيبة الصغرى لمدة أربعين عامًا. ووردت أدعية مثل دعاء السمات عن الإمام الباقر (عليه السلام)، ودعاء الافتتاح وزيارة آل ياسين عن الإمام المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف) بسند منه، وكذلك الزيارة الرجبية بتوقيع منسوب إليه.

يستحب في المشاهد القدسية زيارة المعصومين (عليهم السلام) في شهر رجب بهذه الزيارة الرجبية المأثورة. وفيها فراز: «لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك»، وهو تعبير آخر عن الحديث القدسي: «ولولا فاطمة لما خلقتكما».

صدر الزيارة الرجبية يقول:

اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعَانِي جَمِيعِ مَا يَدْعُوكَ بِهِ وُلَاةُ أَمْرِكَ الْمَأْمُونُونَ عَلَى سِرِّكَ الْمُسْتَبْشِرُونَ بِأَمْرِكَ الْوَاصِفُونَ لِقُدْرَتِكَ الْمُعْلِنُونَ لِعَظَمَتِكَ أَسْأَلُكَ بِمَا نَطَقَ فِيهِمْ مِنْ مَشِيَّتِكَ فَجَعَلْتَهُمْ مَعَادِنَ لِكَلِمَاتِكَ وَأَرْكَانًا لِتَوْحِيدِكَ وَآيَاتِكَ وَمَقَامَاتِكَ الَّتِي لَا تَعْطِيلَ لَهَا فِي كُلِّ مَكَانٍ يَعْرِفُكَ بِهَا مَنْ عَرَفَكَ لَا فَرْقَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا إِلَّا أَنَّهُمْ عِبَادُكَ وَخَلْقُكَ فَتْقُهَا وَرَتْقُهَا بِيَدِكَ بَدْؤُهَا مِنْكَ وَعَوْدُهَا إِلَيْكَ أَعْضَادٌ وَأَشْهَادٌ وَمُنَاةٌ وَأَذْوَادٌ وَحَفَظَةٌ وَرُوَّادٌ فَبِهِمْ مَلَأْتَ سَمَاءَكَ وَأَرْضَكَ حَتَّى ظَهَرَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ فَبِذَلِكَ أَسْأَلُكَ وَبِمَوَاقِعِ الْعِزِّ مِنْ رَحْمَتِكَ وَبِمَقَامَاتِكَ وَعَلَامَاتِكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَأَنْ تَزِيدَنِي إِيمَانًا وَتَثْبِيتًا

خدايا، إني أسألك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك، المأمونون على سرك، المستبشرون بأمرك، الواصفون لقدرتك، المعلنون لعظمتك، أسألك بما نطق فيهم من مشيئتك، فجعلتهم معادِن لكلماتك وأركانًا لتوحيدك وآياتك ومقاماتك التي لا تعطيل لها في كل مكان، يعرفك بها من عرفك، لا فرق بينك وبينها إلا أنهم عبادك وخلقك، فتقهَا ورتقهَا بيدك، بدؤها منك وعودها إليك، أعضاد وأشهاد ومناة وأذواد وحفظة ورواد، فبهم ملأت سماءك وأرضك حتى ظهر أن لا إله إلا أنت، فبذلك أسألك وبمواقع العز من رحمتك وبمقاماتك وعلاماتك أن تصلي على محمد وآله وأن تزيدني إيمانًا وتثبيتًا.

هذه الزيارة تبين أن ظهور أهل البيت (عليهم السلام) كان مباشرًا من ساحة الذات الإلهية دون وساطة أو حجاب، وأنهم الظهور الأول الذي يعود إلى تلك الساحة الربوبية، وهم جامعو كل الكمالات الإلهية ومظهر الاسم الأعظم الإلهي. فالله يتجلى فيهم مباشرة، وهم يحملون كل الكمالات الحقية بصورة مظهرية خالية من أي استقلال.

رواية «لا تسبوا عليًا»

نقل العلامة المجلسي في الجزء 107 من «بحار الأنوار» عن أحمد بن محمد معصوم بسند يرجع إلى الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تسبوا عليًا فإنه مَمسوس في ذات الله تعالى».

أي: لا تسبوا عليًا فإنه مجذوب ومحبوب ذات الله تعالى.

رواية نورانية الولاية

في ختام هذا البحث، نورد رواية أخرى نقلها محمد باقر المجلسي في بداية الجزء 26 من «بحار الأنوار» في باب نوادر الإمامة، من كتاب قديم، وهي معروفة بحديث معرفة أمير المؤمنين بالنورانية. وهذه الرواية تشترك مع رواية «جنة العاصمة» في مصير سندها، وتنطبق عليها جميع الشروط التي ذكرناها في لزوم الدراية المحتوائية لروايات المعارف.

يقول المجلسي إنه جمع «بحار الأنوار» خلال 36 عامًا بجهود فريق تجاوز ألف عضو، بهدف الحفاظ على ميراث الحديث الشيعي ومنع ضياعه بسبب سياسات السلاطين المخالفين وأئمة الضلال، أو رواج العلوم الباطلة بين الجهال المدعين للفضل، أو قلة اهتمام بعض المتأخرين. ويصرح بأنه تتبع الأصول المعتبرة المهجورة التي أُهملت عبر العصور الطويلة.

نقل المجلسي هذه الرواية من كتاب مهجور لم يصل إلينا، وربما سُرق ضمن سياسات الاستعمار اليهودي والغربي لجمع النسخ القديمة من الكتب الشيعية. وفيها:

قال: ذكر والدي رحمه الله أنه رأى في كتاب عتيق، جمعه بعض محدثي أصحابنا في فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) هذا الخبر، ووجدته أيضًا في كتاب عتيق مشتمل على أخبار كثيرة.

روي عن محمد بن صدقة أنه قال: سأل أبو ذر الغفاري سلمان الفارسي رضي الله عنهما: يا أبا عبد الله، ما معرفة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالنورانية؟ قال: يا جندب، فامض بنا حتى نسأله عن ذلك. قال: فأتيناه فلم نجده، فانتظرناه حتى جاء. قال صلوات الله عليه: ما جاء بكما؟ قالا: جئناک يا أمير المؤمنين نسألك عن معرفتك بالنورانية. قال صلوات الله عليه: مرحبًا بكما من وليين متعاهدين لدينه لستما بمقصرين، لعمري إن ذلك الواجب على كل مؤمن ومؤمنة.

ثم قال صلوات الله عليه: يا سلمان ويا جندب! قالا: لبيك يا أمير المؤمنين. قال (عليه السلام): إنه لا يستكمل أحد الإيمان حتى يعرفني كنه معرفتي بالنورانية، فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن الله قلبه للإيمان وشرح صدره للإسلام وصار عارفًا مستبصرًا، ومن قصر عن معرفة ذلك فهو شاك ومرتاب.

يا سلمان ويا جندب! قالا: لبيك يا أمير المؤمنين. قال (عليه السلام): معرفتي بالنورانية معرفة الله عز وجل، ومعرفة الله عز وجل معرفتي بالنورانية، وهو الدين الخالص الذي قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. يقول: ما أمروا إلا بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله)، وهو الدين الحنيفية المحمدية السمحة، وقوله: {يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ}، فمن أقام ولايتي فقد أقام الصلاة، وإقامة ولايتي صعب مستصعب، لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل أو عبد مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان. فالملك إذا لم يكن مقربًا لم يحتمله، والنبي إذا لم يكن مرسلًا لم يحتمله، والمؤمن إذا لم يكن ممتحنًا لم يحتمله.

قلت: يا أمير المؤمنين، من المؤمن وما نهايته وما حده حتى أعرفه؟ قال (عليه السلام): يا أبا عبد الله! قلت: لبيك يا أخا رسول الله! قال: المؤمن الممتحن هو الذي لا يرد من أمرنا إليه شيء إلا شرح صدره لقبوله ولم يشك ولم يرتب.

اعلم يا أبا ذر، أنا عبد الله عز وجل وخليفته على عباده، لا تجعلونا أربابًا، وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنكم لا تبلغون كنه ما فينا ولا نهايته، فإن الله عز وجل قد أعطانا أكبر وأعظم مما يصفه وأصفكم أو يخطر على قلب أحدكم، فإذا عرفتمونا هكذا فأنتم المؤمنون».

خاتمة: التأكيد على المعرفة النورانية

هذه الرواية، التي لم تنته عند هذا الحد بل تستمر، أوردنا منها الفرازات المتعلقة بالرواية: «لولاك لما خلقت الأفلاك»، خاصة في التوصية بعدم رد روايات المناقب. وهي تتحدث عن عناية وجذبة خاصة من أهل البيت (عليهم السلام)، تؤدي إلى إدراك معارف صعبة ومستصعبة، تفوق قدرة الآخرين على الاقرار بها، فضلاً عن فهم معناها ومحتواها.

إن هذه المرتبة من المعرفة لا تُمنح إلا للفانين في محبة أهل البيت (عليهم السلام)، الذين اختيروا بجذبة إلهية خاصة لمقام الفناء، وهم في مرتبة أعلى من المؤمنين الممتحنين والمقربين الموصوفين في هذه الرواية.

هوامش:
  1. الآيات القرآنية مأخوذة من القرآن الكريم.
  2. الروايات الواردة مستمدة من مصادر مثل «كمال الدين وتمام النعمة» للشيخ الصدوق، و«بحار الأنوار» للعلامة المجلسي.
  3. النصوص الفلسفية والعرفانية مستمدة من «فصوص الحكم» لابن عربي، و«مصباح الأنس»، وكتب أخرى.

آیا این نوشته برایتان مفید بود؟

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *