الفصل الأول: ماهية الدين والإيمان
الافتراء والدين الإلهي
تأليف: صادق خادمي
الفصل الأول: ماهية الدين والإيمان
الدين أمر بصيري وتوصيفي، يُبرز استحقاق الباري عز وجل للعبودية، فيُولد الإخلاص والالتزام، ويُحدث للإنسان معرفة بالغيب، واعتقادًا، وطاعة، ونية التقرب إلى الله من خلال الوحي والنسبة الإلهية. والدين يجمع بين المعنى النظري المعرفي والمفهوم العملي التطبيقي، فيكون جامعًا بين النظر والعمل.
الدين أمر وحياني مستند إلى الله، ومصدر أوثق من العلم التجريبي، والعقل المفاهيمي، والرؤية، والشهود، والروحانية الباطنية. فهو يُحقق الإعلام، والحقانية، والهداية، والنجاة من خلال الإيمان بأمور غيبية تتجاوز دائرة العلم والعقل العاديين، والإيمان بها مصيري وضروري. وبما أن الدين تصديقي واعتقادي، فإنه يُشكل للمتدين هوية أبدية وشخصية متميزة.
تعريف الدين
الدين نـَظْرة باطنية تُوصل ظاهر المتدين إلى حقيقته الوحيدة الغيبية بطريقة إلزامية من خلال الإيمان الباطني، ليدرك حقيقته الغيبية وهويته الفطرية بحرية ووعي، ويُفعّلها باطمئنان عملي وإلزامي، ويعيشها في أمن وسكينة.
الدين يمتلك فطرة ومكانة إلهية توحيدية، وهو قانون تكويني لله، يُسنّ الباري الشريعة موافقة له، واتباعه يُحقق معرفة عليا واعتقادًا صادقًا مطمئنًا كاملاً يؤدي إلى الخلاص. وتبليغه وإيصاله موكول إلى واسطة إلهية.
كلمة “الدين” العربية مشتقة من الكلمة الأكدية “دينو” أو “دينو”، بمعنى الحكم والقضاء، وهي تتسق مع المصطلح الوحياني والإشراقي. والكلمة “دين” عربية، مستخدمة في اللغات السامية كالعبرية والآرامية. وفي العربية، تعني القضاء، والحكم، والجزاء بالطاعة والانقياد المنهجي، أي الشريعة؛ أي الطريق الذي يهدي المؤمن العامل إلى الخلاص. والطاعة، والخضوع، والانقياد لوازم الحكم والقضاء، وليست جزءًا من المعنى الحقيقي لمادة “دين”.
و”مديان” أو “مدين” أو “مهديان” تعني الحاكم بالعدل والقسط والرأي، و”مدانو” هو من يقضي ويُصدر الحكم بناءً على قضاء الله. ويُطلق “مدينة” على المدينة باعتبار الحكم والقانون الذي يلتزم به السكان والحاضرون ويُجمع عليه. والإنسان، كما هو متدين فطريًا، هو مدني بطبعه.
في معنى “الدين”، هناك معرفة ووعي، والالتزام، والتعهد، والانقياد إلى الحكم، وقبول المسؤولية وتحمل أدائه، وهي لوازم مادة الحكم. والحكم هو التزام بإتيان عمل بطريقة إلزامية، تجعل الفرد ملتزمًا بمراعاته. فالدين إذن هو ما يتوصل به المتدين إلى حكم الحق تعالى، ويقبل أحكامه من مسار الوحي الباطني السليم، فيؤمن به.
الكلمة اليونانية “Religare”، بمعنى الربط المتين، هي أصل الكلمة اللاتينية “Religo”، التي اشتق منها مصطلح “Religion” الإنجليزي. والدين هو معرفة وحيانية بكيفية الوجود والظهور، وبصيرة الحقيقة، وإدراك اللانهائي والمطلق بتجاوز المحدودات من خلال التوسع المستمر. وعليه، فإن الانغلاق والتوقف، أو ما يُعبر عنه بالرفض والامتناع عن قبول ظهور الحق وحكمه، هو كفر.
الدين هو إيمان مطمئن ببرنامج حياة إلهي؛ برنامج منهجي سليم يتناسب مع الفرد والأمة، وبحكمه الظاهري، وقوته التدريجية، وقابليته للمراتب، يتوافق مع طباع الإنسان البالغ العاقل القادر، ليُظهر ببرنامج شامل وكامل وحياني مقام الإنسان الجماعي في حياة ظاهرية واعتقادية، ويُبرز النور أو الظلمة الباطنية بصدق.
حقيقة الدين أمر فطري، مرامي، تصديقي، انقيادي، مرتبط بباطن المتدين، ولا ينبغي خلطه بالتدين، ولا سيما التدين المنسكي. فالدين الفطري الإلهي شيء يتعلق بأصل ربوبي للإنسان، وهو أمر مقيد ومشروط، وليس مجردًا ومطلقًا. أما التدين والإيمان فشيء آخر يحتاج إلى معرفة وإرادة وإنصاف في متناول العبد، وهذه الإرادة والاختيار معيار تمييز ما يهيمن على باطن الإنسان. والتدين الفطري لا يتحقق بدون تربية وتهيئة وتحصيل شروطه.
جوهر الدين هو الوحي الإلهي، ليمنح الإحساس الفطري الواعي والتوحيدي الخداجوي غير المكتسب، وميل الإنسان الأصيل إلى محبة الله وانقياده الباطني إليه، وإدراك السعادة الأبدية من خلال الولاية والهداية الإلهية والإيمان بالغيب، بمسار صحيح ووصول مطمئن ودائم.
يطلب الله من الإنسان في حياته الدنيوية المحدودة إيمانًا وتصديقًا مطمئنًا به وبغيبه الضروري، ومحبة ولاية. والدين يضمن إيمانًا صحيحًا، ومحبة سليمة، وإخلاصًا نقيًا صادقًا وولائيًا بثبات في الإرادة وحصول اطمئنان مستمر.
الدين في فطرة الإنسان الإلهية وطباعه يتمثل في قبول وانقياد واعٍ، عقلاني، حر، صادق، متواضع، مؤمن، وتصديق وقضاء مطمئن موجه نحو الله وإيمان باطني.
الدين، وإن كان برنامجًا وحيانيًا منهجيًا، فإنه، لكونه جامعًا، مرن وسلس وخالٍ من الشدة والعنف. ولا يمكن للدين أن يُحقق الحق إلا إذا منح المتدين حياة توسعية، مفتوحة، مرنة، مطلقة، بعيدة عن التصلب والقسوة، وأزال عادة الرفض والامتناع والتحفظ بإيمان وانقياد، ونقله من المظاهر المغرية إلى إزهار القلب وإظهار المحبة والصدق والولاية، وإلى الوحدة والتوحيد، ومنحه الصلابة اللازمة لتطبيق هذا البرنامج الوحياني المنسجم والمتوازن، وأزال الشك والتزلزل من حياته، وجعل حياته مليئة بالاطمئنان الدائم والسكينة المستمرة.
الدين الرسالي وغير الرسالي
الدين يمتلك عنصر الوحي، وبناءً عليه ينقسم إلى رسالي وغير رسالي. فالمتدين إما أن يتدين بشكل شخصي بناءً على وحي يتلقاه من الله دون ادعاء النبوة أو تكليف بتبليغ الدين، أو أن يجعل الله، إلى جانب تدينه الشخصي، واسطة لإزهار الدين اجتماعيًا وتعليم التدين، فيمنحه وحيًا رساليًا ويكلفه بتبليغ الدين. وعليه، فالدين له بُعدان: رسالي وغير رسالي شخصي.
الوحي الرسالي المصحوب بادعاء النبوة يُسمى وحيًا تشريعيًا، وهو خاص بالأنبياء الإلهيين. أما الوحي غير الرسالي فهو وحي شخصي، يشمل أنواعًا مثل الإلهام، والتحديث، والوحي التسديدي، أو التبييني، أو البياني، أو الإخباري، ولا يتطلب الرواية للغير بضرورة. وهذه المصطلحات لا تتضمن ادعاء النبوة أو الوساطة أو التكليف الإلهي بالرسالة والتبليغ. وهي تحمل وحيًا بمحتوى معرفي وتوصيفي وتبييني حول الظواهر الغيبية.
النظام السياسي للدين
في الدين والوحي الرسالي، تكون مهمة الواسطة الإلهية مقتصرة على تبليغ الدين وروايته. وإذا حظي الدين بقبول اجتماعي وشعبي، فإنه يُنظم نظامًا سياسيًا للدين، يدعم فطرة كل فرد، ويحمي حياة الدين من التشوه بالفردية المنفعية المتطرفة (كالليبرالية)، أو بالتساوي المنفعي المتطرف (كالاشتراكية) التي تعطي الأولوية لدعم المجتمع بأسره بنصيب متساوٍ. بل يُحقق التطبيق الاجتماعي على أساس الولاية والمحبة العامة، وهو أمر يتجاوز العدالة الأخلاقية والاجتماعية.
وبناءً على ما تقدم، فإن الدين، بوصفه مرامًا وبرنامجًا إلهيًا، يتدفق بطريقة إلهية وعبر الوحي من الله الواحد إلى قلب المتدين أو واسطة التدين حسب مرتبته وموقعه، ويؤدي إلى الالتزام والاتباع وتطبيقه بوعي وصدق باطمئنان دون تزلزل أو اضطراب أو أذى أو رفض، بصورة مستمرة وثابتة.
التدين والإيمان بالحق تعالى فطرة أصلية وموهبة مرافقة للإنسان الموهوب منذ ولادته. وإذا وجدت في الدنيا فرصة للظهور والتجلي والإشراق، فإنها تُنتج نور الإيمان وتُضيء القلب والعقل. وعليه، فالدين متأصل في الناس وباطنهم، والدين الحي هو الذي يحظى بقبول الناس وتأييدهم.
الإيمان
أساس كل دين وجذره هو “الإيمان”. والإيمان يعني التصديق القلبي والاعتقاد الباطني ونية التقرب، مصحوبًا بالإقرار اللساني. والإقرار اللساني دون اعتقاد قلبي بالدين هو “نفاق”، والإقرار بالعقيدة والشهادة بحقانية الدين دون العمل بتعليماته وأوامره هو “فسق”، والامتناع عن الإقرار والشهادة بالدين هو “كفر”.
الإيمان، بصفته مصدرًا من باب الإفعال بمعنى الأمن، هو حقيقة باطنية وميل داخلي يستند إلى بصيرة أصلية. والإحساس الباطني والنية للتدين، بما أنه أمر بسيط ومعنوي، لا يمتلك مظهرًا خارجيًا، ويخلو من اسم أو رسم أو وصف ظاهر، ومثل كل أمر بديهي، فإن معرفته مرافقة لتصديقه. وما يُقال عن الإيمان هو تنبيه وإثارة انتباه إلى إحساس باطني يعيه الإنسان حضوريًا، ويُضفي على بداهة الإيمان جلاءً وإشراقًا أكبر.
الإيمان والاعتقاد هما باور وانتباه داخلي إلى تصديق وفهم صدق شيء، واعتقاد باطني، والتزام داخلي، وتعهد بحكم وقضاء مُنشأ. والإيمان يستند إلى عنصر التصديق والحكم الذي يتخذ شكل الإذعان والاعتقاد الباطني. والتصديق والاعتقاد، وإن اختلفا، يظهران في صورة بسيطة واحدة.
لفهم الإيمان، يجب الانتباه إلى أسباب تحققه، بما في ذلك المعرفة، وإلى واقعية الإيمان البسيطة الخالية من الإجمال والغموض. ومجرد الانتباه إلى هذا الإحساس الباطني الواضح يجعل الإيمان متاحًا للإدراك الحضوري دون أي إبهام أو تعقيد.
التصديق
كل فرد يجد الوجود والظواهر في العالم ضمن تصديقاته وأحكامه، وفي نظامه المعنوي ومعارفه، ويفهمها. وعليه، فالإيمان، حسب معارف كل فرد، وكالمعرفة نفسها، يمتلك تدرجًا وتفاوتًا في الشدة والضعف حسب المراتب والفهم.
الإيمان، والرؤية الكونية، والفلسفة، تستند إلى التصديق، أي المفهوم المركب: هذا هو ولا شيء غيره باطمئنان. ومعرفة الموضوع والتصورات ليست فلسفة ولا إيمان.
التصديق هو فهم صدق أو كذب خبر ذي معنى، والإذعان إليه من خلال إصدار حكم وقضاء. وعليه، فالتصديق دائمًا مصحوب بالحكم. والتصديق حضوري، هو نفسه الحكم، والحكم هو حضور الشيء والمعلوم حضوريًا، متناسقًا مع الواقع الخارجي. والتصديق فرع هذا الحضور.
التصديق هو علم ومعرفة، لكنه لا يصل إلى الإيمان، بل هو جزء من الإيمان. والتصديق العلمي والبصيري هو فهم المطابقة مع الواقع، ولا يتوافق مع الشك والتردد. والتصديق القلبي هو ميل نفسي وباطني يُسمى اعتقادًا وإذعانًا وإيمانًا، ولا ينبغي الخلط بين هذين الاستخدامين.
التصديق والقبول عنصر من المعرفة الحضورية، حيث يكون الشيء نفسه حاضرًا عند الفاعل العارف مع الحكم والقضاء، ولا يمكن إنكار الشيء المعروف والمعلوم الحاضر بناءً على المعرفة والإنصاف. وهكذا، فإن الحكم مكون أساسي للتصديق.
التصديق والتأييد دون معرفة وإدراك دقيق للموضوع، أي دون حضور، مستحيل. أي أن التصديق غير الحضور، ويُلحق بالحضور. وإصدار الحضور العيني هو نفسه العلم والمعرفة.
الإيمان لا يُعرف بالهدف، بل بالمتعلق. والإيمان ديني إذا كان موضوعه الله الواحد. والمعرفة بالله تتحقق بحضوره وإيجاده في القلب وبالتصديق به. وحضور الله وإيجاده القلبي يتم بـالشوق والمحبة، ويجعل الفرد مرجعًا حقًا ذاتيًا في الوصول إلى الله وفي تلقي الحكم بما هو ضروري وقابل للتطبيق. وقد فصلت ذلك في كتاب “المعرفة والإنسان الإلهي”.
الحكم والقضاء
إذا كان الإدراك ضمن نطاق العقل النظري، فإن الحكم هو إذعان العقل العملي والتسليم والاعتقاد الذهني بعلاقة وارتباط بين الأشياء، والتسليم الإرادي لهذا الارتباط. والحكم هو مقارنة بين شيئين واكتشاف الربط والتشابه بينهما، والإذعان والإقرار بهذا الارتباط والتشابه في الخارج. ومتعلق الحكم هو النسبة، وليس النسبة نفسها. والحكم يحدث بعد أن يقوم العقل في مرتبته بإرجاع مفهومين إلى ما وراءهما واكتشاف الواقع.
الارتباط المنطقي والتناسب بين الأشياء قد لا يُقبل أو يُذعن له بسبب التشوه أو التمرد، فيُنكر ولا يصل إلى التصديق والإيمان والاعتقاد.
الإيمان هو اعتقاد راسخ واطمئنان قلبي بحكم إلهي يُعبر عن واقعية وحيانية كما هي في الواقع. وبما أنه يتضمن التزامًا، فإنه يتطلب الطاعة الربوبية والانقياد بالشكل الواجب. والانقياد والالتزام يتناسبان مع قدرة الإنسان واقتضاءات تعايشه ومرتبته. والهدف من هذا الالتزام والتتبع العملي هو التقرب إلى الله ورضاه، فالله أصل كل كمال ومُظهر كل تجلٍ وظهور.
النية
من عناصر الإيمان الأخرى النية وقصد التقرب الإلهي. والنية هي الدافع والقصد المميز في عمل واعٍ وإرادي، وفي سلوك مخطط، يُقوي العزم والإرادة الذاتية ويُفعلها ويوجهها لتحقيق النتيجة المرغوبة من الشوق والتصميم. وعليه، فإن السلوك الاختياري الذي يتضمن اختيارًا، كالإيمان، يتكون من عناصر التصور ومعرفة الموضوع، والتصديق، والشوق، والحكم، والنية (أي القصد والتوجه وسلوك النموذج)، والعزم، والإخلاص، والمحبة، والتصميم الحاسم، والهمة.
الإرادة والاختيار من الأمور الفطرية التي تُنمّى. والإرادة، كالثقة، سلوك نابع من المحبة والإخلاص. والتدين والثبات على الإيمان لا يتحققان دون محبة الله وإيثاره.
النية وقصد التقرب يعنيان أن يريد الإنسان تنفيذ الحكم الإلهي والتدين، فبالعزم، أي بتجميع وتكامل وتركيز القوى، تتحول إلى إرادة وقدرة على ضبط النفس وتسخير القوى. وهذه المهارة، مع الإخلاص والشوق الفطري للتدين، تصبح محبة. والإيمان ليس أمرًا متكلفًا أو إجباريًا، بل يقوم على المعرفة والبصيرة والمحبة والدافعية، ويجعل الفرد وفيًا وثابتًا على الحكم الإلهي، ومتوليًا ومحبًا بالطريقة التي يريدها الله، ومتبرئًا من أعداء الله. والتولي والتبري يدوران حول محور المحبة. وعليه، فالتدين الإرادي في النظام الجماعي، الذي هو مشيئة وإرادة الله، يتحقق بالإخلاص والمحبة، ويؤدي إلى الولاية والتقرب.
التقرب هو الاقتراب من الله، والمحرمية والأنس به، وهو لا يتحقق دون محبة من الله. والتدين المحب هو دليل الصدق في التدين.
الاطمئنان والإيمان الديني
التدين بالاطمئنان والسكينة يُزهر ويبدأ مسيرة الكمال الباطني والروحي. والاطمئنان هنا حالة نفسية وأمر شخصي لا يتعرض عادةً للزوال أو الضعف أو الخلاف.
لا إيمان ولا تصديق دون اطمئنان وثقة باطنية. والدين، مع قلب مطمئن إلى الله، وثقة بالواسطة المُرسَلة، وبرنامج واضح من الله، أي اعتقاد راسخ وخالٍ من التشويش بأصول أساسية وبنيادية، هو الدين. وعليه، فإن مجرد العلم بدين، أو الالتزام والتتبع العملي، أو حتى السلوك بأحكامه ومناسكه وعباداته العملية، دون إيمان وتصديق واطمئنان، لا يجعل الفرد متدينًا.
جوهر الإيمان والدين هو المعرفة والتصديق، والتعبد والعبودية، أي الالتزام والانقياد الاطمئناني الخالي من الشك والتردد، هما باطنه، وليس مجرد أداء المناسك القشرية والعبادية التي هي ظاهر الإيمان ولباس الدين.
نتيجة جميع مناسك الدين هي الوصول إلى معنوية ذات معنى، ومعرفة، وتقرب إلى الله، وإيجاد الله، بل امتلاك الله باطمئنان وصدق، وصحة، وإحساس بالأمن، وبإرادة قوية وإخلاص دائم، دون شرط أو تزلزل أو شك أو تأثر بالوساوس.
الاطمئنان يُقوي الفرد المتدين، ويبني مجتمعًا من أفراد نفوذهم صعب، لا يتسلل إليهم التزلزل والتردد، ويُشكل أمة وثقافة وشعبًا صلبًا وثابتًا، يحقق بفضل هذا الثبات انسجامًا وتناغمًا ووحدة بين أفراد المجتمع والشعب والدولة، ويُوسع خيرهم ومنافعهم من خلال هذا التناغم اللا متناهي.
الإيمان، ليكون إيمانًا، يجب أن يكون متمتعًا بالحق ومتابعًا لله من حيث أن الحق هو الصدق والصواب، وإلا فإن التبعية ليس لها موضوعية. والتبعية للباطل هي الانحطاط والضلال وغضب الله.
قد يؤدي شخص مناسك الدين بصورة صحيحة، لكنه بسبب فكر غير سليم، وحرمان من معرفة الله، وعدم إيجاد الله وجدانيًا، وعدم كونه على الحق، لا يكون متدينًا ويُحسب في جماعة الكافرين. وعلى العكس، قد يكون عبد بسبب فكر سليم واعتقاد قلبي صحيح وإيجاد الله وجدانيًا وكونه على الحق متدينًا، وإن لم يؤدِ مناسك بسبب عدم وصول الرسالة الإلهية إليه أو عدم إبلاغ الدين له أو عدم إحرازه.
المراد بالاطمئنان هو الاعتقاد والتصديق باطمئنان عادي، سواء كان مصحوبًا بدليل وتعليل منطقي أو ناتجًا عن تقليد مصدر موثوق دون تحليل مستنده.
للتدين، ليس من الضروري الوصول إلى اليقين، بل يكفي اعتقاد تصديقي مطمئن يُحقق سكينة عادية. وقد فصلت أسباب ذلك في كتاب “المعرفة والإنسان الإلهي”.
من جهة أخرى، مع أدنى شك أو تردد في أمور الإيمان والتدين، يميل الفرد المتدين إلى الكفر والضلال. والفرد المتردد، في لحظة التزلزل وآن الشك الذي يتسلل إلى ذهنه أو باطنه وقلب، بمجرد إصابته بفيروس الشك السام القاتل، يفقد عنصر التصديق والحكم والإيمان المستمر، ولا يكون في جماعة المتدينين، حتى لو تسلل الشك إليه بشكل لا واعٍ، وحتى لو كان سلوكه أخلاقيًا وكمالاته إنسانية، ولم يصدر منه معصية عملية، أو كان ملتزمًا بأداء مناسك الدين.
الدين، إذا افتقر إلى أساس معرفي واطمئناني، وكان مشوبًا بالاحتمالات دون ترجيح، حتى لو خضع لأعقد المناهج العلمية والبحثية دون أن يصل إلى نتيجة، أو لم تُفضِ استدلالاته الفلسفية وجهوده العقلانية إلى استنتاج، أو لم يُصدَّق النتيجة الحق في مسألة دينية، فإنه، لعدم امتلاكه أساس التصديق والإيمان، ليس دينًا ولا تدينًا.
اليوم، تحولت الإلهيات ودراسة الموضوعات الدينية، خاصة الله، إلى علم ومعرفة متقدمة. في هذا العلم، إذا وُصف الله، والمسائل الربوبية، وأفعال الحق تعالى، بما في ذلك الوحي والرسالة التي يمنحها لأنبيائه، ونظام الجزاء الإلهي، وارتباط الله بالكون وتدبيره، وعلاقة الحق تعالى والظهور، بطريقة معقولة ومطمئنة على الأقل، فقد يؤدي ذلك إلى الإيمان. لكن مجرد المعرفة الإلهية، سواء التاريخية أو نصوص الكتب المقدسة، ليست تدينًا ولا اعتقادًا ولا إيمانًا، لكنها قد تكون أرضية للتدين ومقدمة لحصول العقيدة التي تتعايش مع الفرد، وتجعل أسلوب حياته إلهيًا وخياراته دينية. والعقيدة تحمي الفرد من النفاق والسفسطة، وتمنحه نورًا مميزًا. والفرد بلا عقيدة هو متشرد فاقد النظام والمنطق الفطري في حياته، محبوس في مسار أفقي، بلا نمو عمودي، مثل الحشرات الضالة. وقد تحدثت عن ذلك وتداعياته كثيرًا في كتاب “المعرفة والإنسان الإلهي”.
الإيمان والدين، كالإلهيات، يجب أن يستندان على الأقل إلى الاطمئنان. وعليه، فإن الإلهيات، وفلسفة الدين، والكلام الديني، والدراسات التاريخية حول الموضوعات والمسائل والعناصر والبيانات الدينية والنصوص المقدسة، إذا لم تتحرر من الاحتمالات ولم تصل إلى شاطئ الاطمئنان، لا يمكن أن تكون موجدة للإيمان أو حاسمة في اختيار الدين.
الشك والتردد في العقيدة، وفقدان التصديق، يُوهنان النفس ويُفرغانها ويُفسدانها، ويحولان دون التقرب والأنس والمحبة مع الله، ويمنعان الإيمان والتصديق الباطني الذي هو جوهر الدين. وفي نهج العشق يُقال: إن العاشق لا يعرف الشك ولا الشرط، فهو لا يتردد لحظة في صدق معشوقه، ولا يضع له شروطًا أو تحفظات، بل يرى نفسه كلها ملكًا له، ممتلئًا بإرادته. وفي رواية عن سؤال وُجه إلى أحد أئمة أهل البيت عليهم السلام حول بعض مخالفي الولاية الذين يتميزون بالعبادة والاجتهاد والخشوع في أمر الدين، وهل تنفعهم أعمالهم أم لا، جاء الجواب كما رواه محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السلام:
«إِنَّمَا مَثَلُنَا أَهْلَ الْبَيْتِ مَثَلُ أَهْلِ بَيْتٍ كَانُوا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَكَانَ لا يَجْتَهِدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إِلَّا دَعَا فَأُجِيبَ، وَإِنَّ رَجُلاً مِنْهُمُ اجْتَهَدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ دَعَا فَلَمْ يُسْتَجَبْ لَهُ، فَأَتَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ يَشْكُو إِلَيْهِ مَا هُوَ فِيهِ وَيَسْأَلُهُ الدُّعَاءَ، فَتَطَهَّرَ عِيسَى وَصَلَّى ثُمَّ دَعَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا عِيسَى، إِنَّ عَبْدِي أَتَانِي مِنْ غَيْرِ الْبَابِ الَّذِي يُؤْتَى مِنْهُ، إِنَّهُ دَعَانِي وَفِي قَلْبِهِ شَكٌّ مِنْكَ، فَلَوْ دَعَانِي حَتَّى يَنْقَطِعَ عُنُقُهُ وَتَنْتَثِرَ أَنَامِلُهُ مَا اسْتَجَبْتُ لَهُ. فَالْتَفَتَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: تَدْعُو رَبَّكَ وَفِي قَلْبِكَ شَكٌّ مِنْ نَبِيِّهِ؟ قَالَ: يَا رُوحَ اللَّهِ وَكَلِمَتَهُ، قَدْ كَانَ وَاللَّهِ مَا قُلْتَ، فَاسْأَلِ اللَّهَ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ عَنِّي. فَدَعَا لَهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، فَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَصَارَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ. وَكَذَلِكَ نَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ، لا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلَ عَبْدٍ وَهُوَ يَشُكُّ فِينَا».
قال الإمام محمد الباقر أو الإمام جعفر الصادق عليهما السلام: «يا أبا محمد، إن مثلنا أهل البيت كمثل أهل بيت في بني إسرائيل، كانوا إذا اجتهد أحدهم أربعين ليلة ودعا استُجيب له. ولكن رجلاً منهم اجتهد أربعين ليلة ثم دعا فلم يُستجب له، فأتى عيسى عليه السلام يشكو إليه حاله ويطلب منه الدعاء. فتطهر عيسى وصلى ثم دعا، فأوحى الله إليه: يا عيسى، إن عبدي أتاني من غير الباب الذي يُؤتى منه، إنه دعاني وفي قلبه شك منك، فلو دعاني حتى ينقطع عنقه وتنتثر أنامله ما استجبت له. فقال عيسى: تدعو ربك وفي قلبك شك من نبيه؟ قال: يا روح الله وكلمته، قد كان والله ما قلت، فاسأل الله أن يذهب به عني. فدعا له عيسى عليه السلام، فتفضل الله عليه وصار في أهل بيته. وكذلك نحن أهل البيت، لا يقبل الله عمل عبد وهو يشك فينا».
فمن لا يقبل الطريق الإلهي باطمئنان، ويبقى الشك والتردد في الحق راسخًا في نفسه، ولا يكون شكه عابرًا أو زائلًا، فإنه مبتلى بالظلمة والتيه، ويكون عاصيًا مدنسًا لا استجابة له. وعيسى عليه السلام له استجابة الدعاء لأنه في قمة المعرفة والإيمان والتدين والعبودية لله، وقد لبّى نداء الله، وأطاع أوامره ونواهيه، ودعا الله بطهارة ويقين. والرواية لم تذكر أن طالب الدعاء كان عاصيًا، بل أشارت إلى عبادته، فلو كان عاصيًا لما حظي بتوفيق طلب الدعاء من عيسى. فمن غرق في المعصية لا يملك مقتضى الدعاء والاستجابة. ومستوى استجابة الدعاء يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمستوى الإيمان والتدين والاتباع الصادق لله والشكر له.
وأُشير إلى تناثر الأنامل في هذه الرواية لأن بني إسرائيل كانوا في عبادتهم لا يضعون كف اليد على الأرض، بل كان ثقل أجسادهم يقع على أناملهم.
استمرارية التدين
إن ضرورة الاطمئنان الديني تُفضي إلى استمرارية التدين. يجب أن يكون التدين متصلًا وثابتًا بلا انقطاع أو خلل. وبحسب تعبير القرآن الكريم، ينبغي الاستمرار في الإسلام، وألا تُصاب النفس لحظة بالكفر أو عدم الإسلام، ليكون المرء مطمئنًا أن وفاته ووداعه للحياة الدنيوية سيحدث في حالة الإسلام والإيمان. فالدين إذن أمر مستمر ودائم، وليس مؤقتًا أو متقطعًا. وهذا الدين المستمر يصير متعلقًا لإرادة الإنسان الكلية ليصبح التدين دائمًا. قال الله تعالى:
﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: 132]
أوصى إبراهيم ويعقوب بنيهما قائلين: «يا بني، إن الله اصطفى لكم الدين، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون». فلا يموت مسلمًا إلا من يتدين باستمرار وثبات، ويؤمن بالله بصدق دون تردد أو إحساس بالضيق أو الرفض. والمتدين المؤمن هو من يؤمن بجميع أحكام الله بصدق وإخلاص متصل، سواء في الأحوال العادية أو في مواطن الخطر، ولا يفقد طلب الحق، ويبقى ثابتًا على الحق دون تردد أو تزلزل، ويكون إيجاده لله حياته المستمرة، ولا يمر بمرحلة من حياته دون الله وحكمه. وبحسب تعبير القرآن الكريم، ينال الدين والإيمان من وُصف بقوله تعالى:
﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65]
«فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا». فالدين يفتح مسار معرفة الله بإيجاد الحق تعالى في القلب بعشق، وهذه المعرفة الأولية تُتيح تصديق الله وأحكامه النورانية، وتُهيئ أرضية الإيمان المستمر به.
الشك والتردد في ذلك الإسلام الذي ثبت وصُدق للفرد باطمئنان، سواء في وجود الله أو رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله أو ضرورة حكم ديني ونسبتِه إلى الدين، بحيث لا يبقى مجال للشك أو التردد أو الهروب من هذه الحقيقة، ويقر الفرد بها أمام القاضي في فضاء الحرية وبصحة العقل وبعيدًا عن الاستضعاف، ويُعلنها، فإن هذا الشك هو ارتداد وردٌّ للدين الفطري وخروج عليه وكسر لحرمته وإفساد لأمنه ومصونيته.
وعليه، فإن مجرد التشكيك والتساؤل في مسار البحث والالتزام بالبيانات العلمية المخالفة للدين لا يُعدّ ارتدادًا لمن يؤمن بالدين. فالارتداد أمر باطني يتبع النية القلبية، ولا يترتب عليه تبعات حقوقية إلا بإعلانه.
جذور التدين
جذر الدين هو الارتباط الولائي والإخلاص والمحبة للإمام الإلهي وصاحب الولاية والطريق الشرعي الذي عيّنه الله للوصول إليه، وهو أمر فطري. وقد تحدثت عن هذا الموضوع في كتاب “المعرفة والإنسان الإلهي” تحت رواية بريد بن معاوية، حيث قال الإمام الباقر عليه السلام: «الدين ليس إلا المحبة، قال الله تعالى: ﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾، وقال: ﴿حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: «إنما أنت مع من أحببت».
روح المعنى وجوهر الولاية الباطنية هو التقرب التكويني والقرب الحقيقي الخالي من الواسطة، وهو لا يتحقق دون محبة وأنس واتباع للمراد والمقصود المحبوب. فالمحبان، بحسب درجة محبتهما وأنسهما، يكونان وليّي بعضهما. ومن له قرب خاص من الله واختاره الله، فهو وليّ.
الولاية والمحبة الدينية هي دليل معتبر وهادٍ شرعي وحجة قاطعة مطمئنة على صحة طريق التدين، تجعل نص الدين الصامت ناطقًا ومعبرًا. ومن هنا يمكن تسمية التدين بـالتولي. وبما أن الدين يتضمن مراتب، فقد جعل الله لكل فرد وليًا إلهيًا بحسب مرتبته، ينبغي أن يجده كمرشد باطني مُزهر، يزيل العوائق من مسار الجذب الباطني والروحانية الفطرية بتوفيق إلهي.
من يتدين بدينه الفطري ويمتلك التدين، يكون من المتقين وأصحاب الهداية الربوبية الباطنية والضبط الإلهي، ويتمتع بنوع ومرتبة من الإلهام والإخبار الباطني.
الدين، الذي يُوصل العبد إلى الله ويُحقق التقرب، هو عين المحبة للإمام الإلهي والولاية العامة، والمحبة هي المعبرة عن دين الفرد. فالمحبة تُزهر الإيمان والدين، بل كما جاء في هذه الرواية، فإن العلاقة بين الدين والمحبة هي علاقة تماثل، وكل إنسان يكون رفيقًا أبديًا لمن يحب، أي إن المحبة هي مسار الحياة الأبدية وجوهر الحياة الآخرة.