الفصل التاسع: مصادر الدين القديم
الفصل التاسع: مصادر الدين القديم
تشمل المصادر الرئيسية لتاريخ الدين القديم النصوص الكلاسيكية اليونانية، والنقوش البابلية، والجداريات الهخامنشية والساسانية، والنقود، والغاتات والنصوص الدينية الموثوقة للمجوس، والعهد القديم، وكتابات المؤرخين الإسلاميين الذين اطلعوا على مصادر إيرانية أصلية مثل كتاب الملوك، إضافة إلى التواريخ الرومانية والمصرية والبيننهرية.
في القرن الثامن عشر الميلادي، مع بداية النهضة العلمية والتجريبية وانتهاء فترة الركود العلمي، جعل بعض العلماء الأوروبيين بابل وإيران والهند مركزًا لأبحاث موسعة حول العقائد والأديان والبحث الأثري. أسفرت هذه الأبحاث عن اكتشاف نقوش وحجارة كتابية وبابيروسات عديدة تعكس عقائد الحضارات القديمة. منذ ذلك الحين، تطورت ثلاثة علوم: “تاريخ الأديان”، “علم القبائل”، و”علم الإنسان”، التي أثبتت كفاءتها في دراسة الدين القديم.
النصوص الدينية، والنقود، والمباني، والأعمال الفنية، والأدب الشفوي والروايات المنقولة سينةً بسينة تعد مصادر موثوقة أخرى للبحث في علم الأديان.
شاهنامة الفردوسي
الشاهنامة للفردوسي، وهي مصدر شعري مستمد من كتاب الملوك الساساني، تروي تاريخ العصور القديمة حتى عهد الملك كيومرث (الفرزانه) گشتاسب المتعلق بعصر الكيانيين (الحكماء)، بشكل قصصي يعتمد على الروايات الشفوية الشائعة بين الناس في العهدين الأشكاني والساساني. تغطي الشاهنامة أحداثًا من عصر داريوش الثالث الهخامنشي حتى يزدگرد الثالث الساساني. إلى جانب الأساطير، تبدأ في تسجيل التاريخ الصريح منذ عصر الأشكانيين (البارثيين = الرجال المحاربون)، الذين بدأ حكمهم في إيران منذ عام 247 قبل الميلاد واستمر حتى عام 224 ميلادية.
كان البارثيون قومًا محاربين شجعانًا، بعيدين عن الدين. لتجنب هيمنة سلالة واحدة على البلاد، كانوا يمنحون الولايات للحكام المحليين، ويمنعون، بسلطتهم وروحهم العسكرية، الانفصال أو التفكك. تمكن البارثيون من الصمود ثلاثة قرون أمام أقوى قوة عالمية، روما. لكنهم، بسبب تأثرهم بالثقافة اليونانية السائدة في إيران، فقدوا سلطتهم في النهاية بسبب الخلافات الداخلية.
الأديان الكبرى في إيران
تاريخ الأديان القديمة ومعرفة الدين الرسمي للدول والشعوب القديمة، خاصة إيرانشهر وسير الملوك الهخامنشيين، وصلتنا بشكل رئيسي عبر المصادر اليونانية الأصلية، التي اهتمت في كتابة التاريخ بالأديان وطقوس الشعوب والفلسفة والثقافة القديمة.
حسب المصادر اليونانية، في الإمبراطورية الهخامنشية الواسعة، كان الدين الرسمي وطقوس المجوس الكبرى، بما فيها الزرادشتية والبوذية، منتشرة بشكل واسع. المصادر التاريخية اللاحقة، التي سنتناولها لاحقًا، تروي عن المسيحية، وتعتبرها من الطقوس التي تمتعت في العهد الساساني بمنظمات كنسية وأتباع كثيرين.
إيران، الأرض الخالدة، بعد سقوط الإمبراطورية الساسانية، تحولت تدريجيًا، بشكل واسع ومهيمن ومستدام ومتماسك، إلى التعايش مع الإسلام الملهم والحنيف الإيراني. إيران الطبيعية والدين الفطري الإيراني، إذا ما تمتعا بحكم ملهم، يشكلان وحدة حقيقية لا تعدد أو اختلاف فيها يفترض هيمنة أو سيطرة.
التقارير التاريخية تصف فلات إيران وأرض الإيرانيين الكبرى كبيئة للأديان العظمى في العالم. لذا، البحث في الأديان التاريخية يتطلب دراسة تاريخ إيران ضمن النطاق الواسع للقومية والثقافة الإيرانية.
أهم المصادر التاريخية للدين القديم
أقدم وأهم المصادر التاريخية المكتوبة المكتشفة حتى الآن، والتي يعتمد عليها علم الأديان القديمة، تعود إلى المؤرخين اليونانيين: هرودوت (ولد حوالي 484 ق.م)، كتيسياس (عاش في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن الرابع ق.م)، وزينوفون، الفيلسوف اليوناني (عاش حوالي 430-350 ق.م).
الأديان القديمة معروفة غالبًا من منظور وزاوية رؤية هؤلاء المؤرخين، فنحن نعرف الأديان كما رواها المؤرخون اليونانيون، لا حقيقة الأديان الإلهية. يجب أيضًا التذكير بأن الهندسة الثقافية والسياسة المستمرة للثقافة اليونانية المناهضة كانت تُسند أسوأ الصفات السلبية إلى المتدينين الإيرانيين. لم يكتفوا بذلك في رواياتهم، بل استخدموا الخداع والغش في ترجمة بعض الأعمال القديمة، أو زيفوا بعض الآثار لتتماشى مع أهدافهم السياسية والثقافية. لذا، في التواريخ اليونانية، نعرف الإيرانيين والمتدينين اليونانيين، لا المتدين الإيراني الحقيقي. من ذلك رواية القس المسيحي في القرن الخامس الميلادي، ثيودور موبسويستي، عن دين المجوس الإيراني، المبنية على نصوص هلنستية، والتي نسبت إليهم صورة مشوهة لتعدد الآلهة اليونانية-الرومانية. فوطيوس أورد مختصرًا لهذه الرواية. المصادر اليونانية لم تعرف عمق الثقافة والدين المتخصص للمجوس الملهمين، واكتفت برواية الطبقة الاجتماعية أو الدينيين السطحيين المؤسسيين بين العامة.
تواريخ هرودوت
أول مؤرخ تاريخي هو هرودوت اليوناني. كتب لأول مرة القصص والأوصاف التاريخية الرسمية، معتمدًا على المصادر الشفوية أو الملاحظات والتجارب الشخصية، بأسلوب تأريخ روائي، ناقلاً الرواية الصحيحة حسب رأيه وتفسيراته التاريخية، مع تحيز واضح لصالح أثينا وقيمها اليونانية، تحت اسم “التاريخ” (من الكلمة اليونانية Historie = التحقيق). أسس كتابه “تواريخ هرودوت” تحليل التاريخ. التواريخ ليست مجرد تسجيل للأحداث، بل تقرير تفسيري يعبر عن هموم هرودوت وتوجهاته.
هرودوت كتب ما بدا له صحيحًا أو جذابًا، بصدق وتزيين أدبي معقد، بهدف نثر جميل، مستخدمًا أسلوب التمثيل والمبالغة لجذب خيال القارئ العامي، محركًا القارئ ليتبنى آراء الكاتب. جاء ذلك في كتاب التواريخ بأسلوب مبالغ ومفرط في الخيال لإقناع القارئ.
هرودوت الهاليكارناسي، الذي تاريخه الشخصي غامض ومجهول، توفي حوالي 425 ق.م.
تواريخ هرودوت، رغم كونها بداية التأريخ، تختلف عن التفكير التاريخي والثقافة والدين المكتوب الأقدم، الذي يعود للثقافة الإيرانية.
الدين المجوسي في التواريخ
هرودوت تحدث عن عادات وثقافة الحضارة الإيرانية بتحليل ديني، مقارنًا إياها بالتقاليد اليونانية، وتناول المجوس وطقوس زرادشت وغيرها كأقدم دين تاريخي في أوسع إمبراطورية عالمية، بناءً على روايات شفوية، دون الاطلاع على وثائق أو سجلات ملكية أو ترجمات، مستندًا إلى تفسيرات عصره. لم يعرف هرودوت دين الحكماء ونظام المجوس الإيراني بدقة، ولم يتصل بالمجوس الدينيين الأصليين أو الروحانيين، ولم يطلع على نصوصهم الدينية. رواياته عن المجوس سطحية ومتعلقة بمعرفة طبقية. على سبيل المثال، يقول هرودوت في كتاب التاريخ عن دين الهخامنشيين:
“الإيرانيون يرون إقامة المعابد والتماثيل والمذابح وأماكن النار غير جائزة، ويعتبرون من يفعل ذلك أحمق… ويسمون قبة السماء زيوس (اللامع، ملك الآلهة، إله السماء المتوهج)”. [الكتاب الأول: الفقرة 131].
يقصد بزيوس مزدا أهورا. استخدم كلمة زيوس اليونانية كمعادل لمزدا أهورا (الكبير العالم الحي، الذات الواعية المظهرة)، كما سنتناول في فصل الغاتات. زيوس كان أعظم إله يوناني. لكن مضمون ومعنى مزدا أهورا العميق لا يتساوى بأي حال مع مفهوم زيوس عند اليونانيين. “زيوس باتر” أو “زيوس باتروس” عند الآريين الهنود كان يُنطق “ديوس بيتار”، وعند الرومان القدماء “جوبتير”. اعتبر اليونانيون زيوس إله السماء وأب الجميع، يجلس على جبل أوليمبوس، محاطًا بستة آلهة ذكور وست إناث يحمونها، مع كائنات روحية أخرى. حسب اعتقادهم، يذهب الإنسان بعد الموت إما إلى أرض إليزيه الخضراء أو إلى تارتاروس للعقاب، وكلاهما في هذا العالم.
تاريخ هرودوت يصور الهخامنشيين، منذ خمسة قرون قبل الميلاد، قوة عظمى عالمية، طامحة، تملك الثروة والقوة وهمة الشعب (قوة الرجال)، متسامحة، تحترم الحرية، تسعى للحقيقة والحكمة والنظام والتسامح والرحمة للعالم، خاصة لليونانيين في مدينتي أثينا وإسبرطة.
كتابة الأساطير
تاريخ هرودوت الهاليكارناسي عن كورش الكبير وملوك الهخامنشيين الآخرين، والأبطال الأسطوريين وأحداث إيران، ملوث بالأساطير الشعبية، والإحصاءات والأرقام غير الواقعية، المزيفة، الخيالية، والصنعة الأدبية المبالغة، الممزوجة بالإشاعات، والذهنية المحضة، والإسهاب، وأحيانًا يشوبه اختلاقات متعمدة. ليس هرودوت وحده، بل بعض الفلاسفة اليونانيين نقلوا آراءهم في قالب الأساطير.
السيد أرسطو، الذي امتلك، بدعم مدينة أثينا، أعظم مكتبة علمية وكتب ممالك ذلك العصر، وتأثر بعلوم المجوس الإيرانيين، اعتبر كتابة هرودوت جديرة بالتقدير أدبيًا، لكنه وصف محتواها بالأسطوري. الإمام الصادق، في كتاب توحيد المفضل، ذكر أرسطاطاليس، مشيرًا إلى نفيه للصدفة والعشوائية:
وقد نفى أرسطاطاليس الصدفة والعشوائية في تنظيم الكون.
التحيز بلا دليل
هرودوت لم ينقل الروايات التي اعتبرها غير صحيحة، لكنه في نقل ما رآه صحيحًا وقع في التحيزات السياسية والدعائية، أو العداء والكراهية الشديدة من الرواة ضد الإيرانيين أو اليونانيين أو إسبرطة أو أثينا أو الأحزاب السياسية المنافسة، وتأثر بالإشاعات.
تقع مدينة هاليكارناس القديمة اليوم في تركيا. في زمن هرودوت، حكمها أردشير، ملك الهخامنشيين، وليغداميس، حاكمه الإقليمي. كان معظم سكان منطقة كاريا، التي تضم هاليكارناس، موالين للإيرانيين، لكن عم هرودوت، بانياسيس، قاد تمردًا ضد ليغداميس، وكان هرودوت إلى جانبه. أُسر بانياسيس وأعدمه ليغداميس، لكن هرودوت نجا. ربما هذا الجرح السياسي، والتمرد، ورفضه لإيران وولعه باليونان، دفعه إلى كتابة التاريخ، خاصة لدراسة جذور العداء بين اليونان وإيران. في هذا السياق، يتضمن بعض رواياته طابعًا مهينًا للقومية الإيرانية، ويقع في مغالطة الخلط بين الدافع (هدف المؤرخ) والمدعى (الادعاء والنتيجة). مشاعره السلبية تجعل رواياته الملوثة أنشودة، لا تقارير ذات قيمة صدق أو وصف للواقع. مع ذلك، هذه الأنشودة تقدم صورة تاريخية ذات أهمية، يمكن استخلاص تقارير منها. ارتكاب هذه المغالطة لا يعني بالضرورة الكذب في الادعاء أو النتيجة.
مغالطة الخلط بين الدافع والمدعى
في دراسة تاريخ هرودوت أو أي مصدر تاريخي آخر، يجب تجنب مغالطة الخلط بين الدافع والمدعى، أو المنشأ والمنشئ، أو الحالة السابقة والحالة الحالية، وعدم مهاجمة شخصية الكاتب أو خلفيته لدحض ادعاءاته التاريخية، أو تجاهل حالته الحالية بسبب عداء سابق لإيران أو أي سوء خلفية. ربط صدق أو كذب الادعاء بشخصية المدعي أو صفاته الإيجابية أو السلبية غير المرتبطة مغالطة شائعة في التقارير العلمية يجب تجنبها.
هنا، لا يمكن استنتاج أن محتوى أخبار وتقارير هرودوت، ونتائجه، وتاريخه المنقول كله كذب وباطل وغير قابل للرجوع إليه بالعقل التاريخي، بناءً على معارضته، تناقضاته، مواقفه السلبية السياسية، دوافعه الظاهرة أو الخفية، مشاعره، أو حتى ادعاءات بأنه كان مأجورًا لكتابة بعض النصوص التاريخية بناءً على طلب، أو عيشه في بيئة استبدادية ظالمة كمنشأ لكتابة التواريخ. لا يمكن رفض نتائجه ومستنداته وتواريخه بنقد دوافعه وتأثير نيته السيئة على عمله التاريخي، ونقد المدعي بدلاً من الادعاء نفسه. بل يجب تقييم نتائجه وادعاءاته في نظام تحليل عقلي وفلسفي للتاريخ، دون تدخل العوامل الغريبة أو التأثيرات غير المناسبة زمانيًا أو مكانيًا أو عاطفيًا، أو شخصية المدعي نفسه. بهذا يمكن تنقية التقارير الصحيحة ومضمون الكتاب السليم من الشوائب والإضافات.
بالنسبة لمن ليس باحثًا ويسعى لمعرفة تقليدية سطحية عن التاريخ، من المهم معرفة من هو الشاهد على الحدث التاريخي. بالنسبة له، يجب أن يكون الراوي التاريخي من أقوى الشهود وأصدقهم. لا يمكن لهذا الشخص قبول شهادة أو معنى التقرير التاريخي وتعديله بناءً على النقل فقط، دون النظر إلى شخصية القائل ونزاهته وعدالته وصدقه. في مقام التقليد، لا يمكن قبول أقوال من عادوا المجوس الحكماء أو الملوك الملهمين، لأن كلام العدو غالبًا مشوب بالتحيز والعداء. المقلد يعيش في فضاء سطحي، عرفي، متأثر بالمصالح والأضرار، لا بالدقة والخير والشر، ويتخذ قراراته بناءً على معارف مشوبة. لذا، بعقلانية تتناسب مع معيشته، لا بعقلية ملتزمة بالدليل والبحث، فإن الحيطة تقتضي اعتبار المدعى ملوثًا بالعداء بناءً على الدافع أو المنشأ، وعدم اعتبار الغرض من النص هو تحقيق المدعى، واعتبار الارتباط بين الدافع والمدعى والمنشأ والمنشئ صحيحًا عرفيًا، لتجنب التضليل والمعلومات الخاطئة والضرر والخسارة من المدعي السيئ النية أو المنتفع. يجب على المقلد مراعاة خير أو شر دافع المدعي ومصلحته الشخصية، وقبول ارتباط ذلك بصدق أو كذب الادعاء ومطابقته أو عدم مطابقته للواقع، لأنه لا يهتم بالدليل، ويعيش في عالم فكري قائم على الظواهر والخيالات، دون رجوع إلى الواقع، ويقبل شهادة المدعي بناءً على تخصصه وعدالته، لا بناءً على الأدلة والمستندات وتفكير عقلي.
النقل بالمعنى للأحداث
التاريخ رواية للأحداث الخارجية، وتحليل التاريخ عمل ذهني لا يُعتد فيه بشخصية الراوي أو دوافعه، حتى لو عُرف نيته الباطنية بدقة. كذلك، الألفاظ وشكل الخبر وأسلوب الرواية التي تنقله، خاصة إذا كان النقل بالمعنى وتسجيل مضمون الحدث أو الواقعة، مقبول عند العقلاء ويُعد أسلوبًا معتبرًا لديهم. بالنسبة لقارئ الرواية، فإن جوهر الرواية والقضية الذهنية ومعناها ومضمونها المُدعى أو المستخلص، خاصة في الأحداث الكبرى والمهمة، هو ما يحظى بالأهمية والاهتمام.
حول التواريخ
كتاب “التأريخ والنظرة التاريخية في العالم القديم: حياة وأعمال هرودوت الهاليكارناسي” يُعد من الدراسات الجديرة بالاهتمام حول تاريخ هرودوت. كما أن كتاب “النار الفارسية” الصادر عام 2005 لتوم هولاند، رغم أنه يسعى لتفسير أول وأعظم إمبراطورية عالمية، التي وصفها بأنها كانت في صراع للسيطرة على الغرب، يعتمد في بعض الحالات على مصادر غير موثوقة، ويوجه نقدًا لتاريخ هرودوت. لكن هذا الكتاب، شأنه شأن التواريخ، يتسم بتحيز يوناني قوي وقومية غربية.
اختار “النار الفارسية” رواية قصصية للتاريخ عمدًا، ليمنح القارئ، من خلال تصوير تخيلي للأحداث، متعة مضاعفة تفوق الحواس، فيُدخله في مشاهد صراع تخيلية بأمان، ويسليه بتصوير غير واقعي. يتضمن الكتاب، لإرضاء المتعة التخيلية، كتابة جذابة غير دقيقة، أحيانًا خرافية، ودعاية على طراز المؤرخين اليونانيين الأوائل ورواة الشوارع. نثر المؤلف البريطاني البسيط والمشوق جعل الكتاب شعبيًا. مثل هذه الكتب لا تُستخدم فقط كمراجع لويكيبيديا ووسائل الإعلام التاريخية ودراسات طلاب التاريخ، بل، بفضل أسلوبها القصصي المليء بالإثارة والخيال، تجذب المراهقين والشباب. صوّر توم هولاند أبطال التاريخ كأبطال أفلام هوليوود، مستخدمًا عبارات شعبوية تثير الحماسة أو الكراهية والاشمئزاز.
دراسة الإمبراطوريات والقوى المهيمنة ذات القوة الصلبة والهيمنة الثقافية الناعمة جذابة للناس. كتاب “في ظل السيف” يروي انهيار الإمبراطورية الساسانية عقب هجوم المسلمين، وجذور ظهور الإمبراطورية الإسلامية الخليفية، لكنه، بتحيز معادٍ للإسلام، ينسب صفات شريرة وفاسدة إلى المسلمين، فيحاول تشويه جذور الإسلام الإلهي وإبطاله، متورطًا في مغالطة الخلط بين الدافع والمدعى التي سبق ذكرها.
تاريخ حرب البيلوبونيسية لتوسيديد
من المؤرخين اليونانيين الآخرين توسيديد الأثيني (ولد حوالي 460 ق.م، وتوفي بين 400-395 ق.م). أقدم نسخة من تاريخ توسيديد (حوالي 480-425 ق.م)، شأنها شأن تاريخ هرودوت، تعود إلى حوالي عام 900 م، مع بعض البابيروسات من بداية العصر المسيحي.
في كتاب “تاريخ حرب البيلوبونيسية” (431 ق.م)، الذي يوثق الحرب بين أثينا وإسبرطة، تناول، بمناسبة تدخل الدولة الهخامنشية في هذه الحروب التي استمرت ثلاثين عامًا، ثقافة وحكم الهخامنشيين وتاريخ إيران بأسلوب علمي، مستند إلى معايير الشهادة، وفلسفة التاريخ، خالٍ من المبالغات التخيلية والأساطير الشائعة بين اليونانيين.
كان توسيديد جنرالًا عسكريًا في أثينا، ملمًا بالمهارات الحربية، وسجل آراءه وبعض أحداث الحرب بين إيران واليونان، التي بقيت في ذاكرة الشيوخ، بلسان أبطال تاريخه. انتقد توسيديد أسلوب هرودوت الروائي، معتبرًا أنه يكتب لجذب القراء وتسليتهم، لا لتسجيل الحقيقة الدائمة. لذا، يُعد هرودوت كاتبًا أدبيًا لا يهتم بالحقيقة.
القوة الناشئة: سبب الحرب والصراع
اعتبر توسيديد أن نمو قوة أثينا الناشئة، كمنافس، سبب خوف إسبرطة، القوة الكبرى المستقرة، مما أدى إلى الحرب بينهما. لكن القوة العظمى المستقرة ليست بالضرورة مصدر الصراع والحرب، بل الضعف والوهن المنتشر هو ما يخلق ساحة الحرب.
هذه النظرية تنطبق على الأديان والمذاهب والمدارس الفكرية. ليس محتوى الأديان أو المدارس المهيمنة غير المحرف هو ما يثير الصراع، بل المتولون والروحانيون والأتباع المتعصبون، والنخب والقادة في فضاء أحادي الصوت ومستبد، حيث لا يقود الدين حكيم، أو يسود التزييف. هؤلاء العلماء والدعاة لا يقبلون غيرهم، خوفًا من قوة أو مكانة اجتماعية أو شعبية تهدد موقعهم الديني أو مصالحهم السلطوية.
موانع نفوذ التزييف الديني
لا الديمقراطية ولا النظام الملكي السلطوي يمنعان نفوذ التزييف الديني في أي مجتمع. بل نمو العلم والوعي، وانتشار الذكاء والتفكير الفلسفي والعقلي، مع الأخلاق والصدق والتربية، هو ما يمكنه، من خلال المطالبة بالمعرفة والتعليل المنهجي للأديان واختبار محتواها تجريبيًا، مع الحفاظ على الصدق والإنصاف وفضيلة الالتزام بالحق، أن يمنع المتولين والمنتسبين إلى الدين، والمتسلطين والمترفين والمزيفين، من أن يصبحوا، بدلاً من الله، آلهة وأربابًا نفعيين ونهابين، يستخدمون سكاكين الخرافات والجهل باسم الدين والتدين والإله، ليمهدوا دنياهم حسب مصالحهم.
الالتزام بالعلم والبحث والذكاء والعقلانية والوعي، مع الأخلاق، يمكنه تحويل الحكم ونظام القوة إلى إدارة مسؤولة وملتزمة بالقانون المستمد من العلم والمعرفة، في خدمة العلم والأخلاق والصدق والمحبة، وحامية للقانون بصدق. كما يمكنه تحويل الكهنة والآباء الروحيين والمرجعيات الدينية إلى علم استدلالي، صادق، مُبرر، قابل للتفسير والمساءلة، يحترم معايير العدالة والأخلاق.
الالتزام بالقانون العلمي والمعرفة المنهجية والإنصاف والشجاعة الأخلاقية يمنع تكون ونفوذ معاقل التزييف الديني والهيمنة الأحادية الدينية، وساحات الروحانيين الكاذبين، وسكاكين التزييف الديني، ومستنقعات المدعين الملوثين، الذين يستخدمون خناجر الوساطة الزائفة المسمومة، والرشوة، والقوة، والخداع، والتملق، لرفض العلم والشفافية والصدق والقانون غير المأجور في خدمة المعرفة. يأخذون العلم والقانون، كالدين، في خدمة مصالحهم، ويحاصرون الجماهير، بطريقة منهجية، في مستنقعات الخرافات وشراك يريدونها ساذجة، مطيعة، خاضعة، أو مأجورة، فيجعلونها، باختيارها، تقع في حقول ألغام استبداد هؤلاء الخلفاء الجشعين، ضحايا بقائهم واستمرارهم.
هؤلاء الكهنة والمدعون، إن لم يُضبطوا بالعلم والقانون في خدمة المعرفة وبالأخلاق، يقودون الناس، على نطاق أوسع، إلى سجون الاستيلاء وأغلال الاستغلال ورقص الموت. إذا لم يكن الدين والعلم والقانون في خدمة العلم والصدق، فإنهما يصبحان آلة استغلال وجريمة ضد الجماهير، تجعل الجميع أذلاء في خدمة أسياد سوداء القلب، نفعيين، جشعين، يضعون بلا رحمة أغلال العبودية وأطواق الاستغلال على أعناق المحرومين الأسرى في قبضتهم، ويصبون سم الموت في حناجر الأحرار ومحبي الحرية، ليؤسسوا، باسم الدين والعلم والقانون، جشعهم اللا نهائي بدلاً من إرادة الله والمعرفة والعدل. يقول الفردوسي في شعره الحماسي:
سئمت نفسي من الحرب والشر، وأسعى لطريق الإله. الآن، لنعيد العلم والعدل، ونحل محل الحزن والألم بالنعيم.
الفارسية لكتيسياس
من أهم مصادر التأريخ للماديين والهخامنشيين كتب كتيسياس. عاش في أواخر القرن الخامس وأوائل القرن الرابع قبل الميلاد، وعمل سبعة عشر عامًا (415-398 ق.م) طبيبًا في البلاط الإيراني في شوش، معالجًا للملكة بروشات، والدة الملك، زوجة داريوش الثاني، وطبيبًا لأردشير الثاني الهخامنشي.
في كتابه التاريخي “الفارسية” (تاريخ فارس)، روى كتيسياس أحداثًا من عهد كورش الكبير حتى وفاة خشايارشا وحتى عام 398 ق.م، مستندًا إلى مشاهداته العينية، أو الروايات الشفوية، أو سجلات الملوك في شوش. لم يصل الكتاب نفسه إلى الأجيال اللاحقة، لكن أجزاء منه وردت في كتابات مؤرخين يونانيين آخرين.
فوطيوس (810-893 م)، خليفة وأسقف أعظم الكنيسة الرومانية، أورد مختصرًا لكتاب كتيسياس مع مختصرات 289 كتابًا آخر، بعنوان “مختصر تاريخ كتيسياس من كورش إلى أردشير”. تتعارض روايات كتيسياس المنقولة في كثير من الحالات مع تاريخ هرودوت ولا تتفق معه. إذا كانت رواية هرودوت مشوبة بالتحيز، فإن رواية كتيسياس تحمل أخطاء واضطرابات. مثال واضح هو ترجمته لنقش داريوش في جبل بيستون، التي كانت خاطئة تمامًا، بل مزيفة.
رواية كورش وداريوش
فوطيوس، في كتابه “المكتبة”، نقلاً عن كتيسياس، وبخلاف كورش الفاضل عند زينوفون، قدّم صورة مختلفة عن كورش ومدينة إيران. حسب فوطيوس، قال كتيسياس إن كورش، بناءً على دينه، أوصى الجميع باتباع الطريق الصالح، وتمنى السعادة لمن يتبعون الأعمال الصالحة، ولعن من يرتكبون الأفعال السيئة. حكم كورش ثلاثين عامًا. أرسل كمبوجية جثمان والده إلى إيران ليدفن.
يُروى أن برديا (تانيو خاركس)، الابن الثاني لكورش، قُتل على يد مجوسي متعصب مزديسني يُدعى غوماتا (إسفنداداتس)، الذي كان يشبه برديا جدًا. وبعد شهر، توفي كمبوجية بسبب شدة جروحه. استغل غوماتا شبهه ببرديا وأعلن نفسه ملكًا. من أفعاله إيقاف بناء هيكل يهوه في القدس. لم ينضم جيش الفرس إلى هذا المجوسي، بل دعموا داريوش. قتل رجال داريوش غوماتا، ودُفن بأمر داريوش بين جبلين كعبرة. ذكر داريوش في نقشه أنه هو من قتل غوماتا.
في رواية أخرى لهذا الحدث، قتل كمبوجية أخاه الأصغر وخليفته برديا. ثم اغتصب مجوسي السلطة، فقضى داريوش على هذا المغتصب وأصبح ملكًا. من كان غوماتا، وهل قتل برديا بالفعل، أم أن داريوش هو من أثار هذه الفوضى ليستولي على العرش؟ المصادر التاريخية صامتة. لكن هذا الحدث غير المثبت يُظهر أن داريوش لم يكن مؤيدًا من المجوس، بل كان على خلاف معهم. كان المجوس مسؤولين عن تعليم وتربية الأمراء الذين سيصبحون ملوكًا، لكن داريوش لم يتربَ في نظامهم التعليمي، بل كان ظاهرة انقلابية.
لا فرق في هذا الأمر إن كان غوماتا مجوسيًا بوذيًا، خاصة أن النصوص البوذية المقدسة بُنيت باللغة السنسكريتية بعد وفاة غوماتا، أو مجوسيًا ماديًا يتبع دينًا آخر. ما يهم هو أن داريوش لم يكن ملهمًا ولا شرعيًا. المؤرخون اليونانيون دعوا المتمردين مجوسًا، واعتبروا تمرد غوماتا مدعومًا من المجوس وأتباع الدين القديم للماديين. كما ذكروا نزاع برديا مع كمبوجية، وأن كمبوجية هو من قتل برديا، لا المجوس، خوفًا من استيلائه على العرش. كما أن داريوش لم يكن معجبًا حقيقيًا بمزدا أهورا ولا متدينًا صالحًا، وأن الملوك غير الفرس فضلوا حكم غوماتا على كمبوجية أو داريوش. خلال حكمه السبعة أشهر، لم يسعَ أحد لعزله. في هذا السياق، يبدو أن المجوس عانوا من فراغ وغياب شخصية مؤهلة للملك، فتصرفوا بأنفسهم، أو أن تمرد غوماتا لم يكن سوى دعاية كاذبة وتلفيق من داريوش. في إيران داريوش، كانوا يحتفلون سنويًا بمهرجان غير مثبت سياسيًا لقتل المجوس أو ذكرى جلوسه على العرش، وسط أوضاع سياسية مضطربة. استمر معارضو المجوس لداريوش في إثارة التمردات المتتالية. يُقال إن داريوش، خلال عامين، قمَع تسعة ملوك متمردين. تولى داريوش الملك، وتزوج من إحدى بنات كورش، وأمر باستئناف بناء هيكل اليهود.
اسم إيران
“الفارسية” أو “برسيس” من الأسماء التي أطلقتها الكتب اليونانية على إيران، ذات التاريخ والحضارة الممتدة عشرة آلاف سنة، إلى جانب “فارس”، “برشا”، “بارس” (أرض الفرس)، و”برس”. أشار المؤرخون اليونانيون إلى إيران بـ”برسيس”. بدأ استخدام لفظ “إيران” منذ عهد الساسانيين، الذين ادعوا أنهم خلفاء الملك الهخامنشي. يُقال إن “إيران” كلمة بهلوية مركبة من “إير” (آري) و”آن” (مكان)، وتعني أرض الآريين. وردت كلمة “إيران” في نقش شابور الأول بن أردشير بابكان في كعبة زرادشت. في هذا النقش، “إيران” مركبة من “إير” (آري) و”آن” (جمع)، وتعني الإيرانيين وأمة إيران، مركزة على شعب إيران، لا على أراضي إيران أو مدينة إيران أو البلاد.
بعد عام 1935، بناءً على طلب الحكومة الرضاخانية، أصبح اسم البلاد الرسمي “إيران” بدلاً من “فارس” أو “مملكة فارس”. كما كان يُطلق “أنيران” على غير الإيرانيين.
كتاب كورش لزينوفون
زينوفون، الفيلسوف اليوناني (عاش حوالي 430-350 ق.م في أثينا)، تلميذ سقراط في شبابه، اعتمد على كتابات هرودوت وكتيسياس ليوجه اهتمامه إلى الدين الإيراني. تشمل مؤلفاته: “ميمورابيليا” (خواطر ومقالات سقراطية)، “حوارات زينوفون وسقراط”، “أناباسيس” (حملة كورش الصغير)، و”كتاب كورش”، الذي يروي، في بنية شبه واقعية وتخيلية وأسطورية، حياة كورش الكبير (580-530 ق.م)، ابن كمبوجية، مؤسس الإمبراطورية الهخامنشية وملك إيران، منذ ولادته حتى وفاته، مع التركيز على صفاته الجسدية والروحية، وأساليب تأسيسه للدولة، وفتوحاته، وحكمه. يُعد هذا الكتاب، رغم طابعه الأسطوري، رواية عن الأديان الحية في تلك الحقبة.
كُتب “كتاب كورش” حوالي 370 ق.م بناءً على مصادر متاحة، أي بعد قرنين من حياة كورش. قدّم زينوفون نظام تفكيره السياسي والأخلاقي في قالب قصصي شبه واقعي، يعكس نظرة يونانية إلى الحضارة الهخامنشية، مركزًا على السلطوية الملكية. لذا، يحمل الكتاب، بطابعه الأخلاقي والفلسفي والمثالي، تشوهات أو تغييرات للواقع، مما أضر بقيمته التاريخية. لا عجب أن ينظر إليه المؤرخون الغربيون بنقد، لكنه يبقى مصدرًا أسطوريًا وحماسيًا يروي عن اللاهوت، والروحانيات، والطقوس الشائعة في دولة الهخامنشيين ومدينة إيران آنذاك، التي سعت إلى نفوذ وشعبية وحكم مستدام عبر العدالة والأخلاق المثالية والتسامح الديني مع شعوب متنوعة الأعراق والمذاهب، مع الاحتفاظ بدين رسمي وحكومي.
تفوق حكم الملهمين على النظام الجمهوري
يُبرز “كتاب كورش” سلطة قيادية مثالية، مشيدًا بخصال الطاعة لدى الأتباع، والفضائل الأخلاقية كالشجاعة، والإنصاف، والتعلق بالأسرة، والحب والوفاء للزوج، والتضحية النبيلة. كما يُثني على إبداعات كورش في خداع أعدائه ومهاراته الحربية في التغلب عليهم. من خلال تصويره المثالي، يقدم زينوفون كورش كنموذج للملك العالمي، في مواجهة الديمقراطية المنتشرة في بعض المدن اليونانية، خاصة ديمقراطية أثينا في عهد بريكليس (495-429 ق.م). سعى بريكليس، عبر سياسة الديمقراطية والرجوع إلى آراء العامة، إلى تحقيق العدالة والمساواة، وتعزيز استقرار حكمه ضد منافسه السياسي، سيمون، زعيم التيار المحافظ في أثينا. نقل توسيديد عن خطبة دفن بريكليس أن حكم الأغلبية يُعد نموذجًا ناجحًا للحكم عالميًا بحسب الأثينيين. سبق أن طرح كليستنيس (508 ق.م) هذا الفكر، لتمكين العامة ومواجهة نفوذ النخب والأوليغارشية (حكم الأقلية الفاسدة).
في “كتاب كورش”، يُفضل زينوفون الحكم الملكي العادل والأخلاقي على النظام الجمهوري والشعبوي، رافضًا آراء أفلاطون (427-348 ق.م) في كتابه “الجمهورية”. كان أفلاطون من أبرز تلاميذ سقراط. يُعد “كتاب كورش”، بتصميمه لنظام سياسي سلطوي، مرجعًا للحكم في الولايات المتحدة. يُقال إن توماس جفرسون، أحد رؤساء الولايات المتحدة وواضعي دستورها، استلهم من هذا الكتاب في صياغة الدستور.
جغرافيا استرابون
استرابون (64 ق.م – 24 م)، الجغرافي اليوناني من كبادوكيا في الأناضول، مؤلف كتاب “الجغرافيا”. كُتب الكتاب حوالي 7 ق.م، بعد بلوغ استرابون الخمسين، بناءً على خبراته الشخصية أو مصادر متاحة. يحتوي الكتاب على معلومات تاريخية قدمها استرابون حصريًا. يتناول “الجغرافيا” (جيوغرافيكا) جميع الأمم والبلدان المعروفة آنذاك، مثل أوروبا (إيبيريا، إيطاليا، اليونان، إيتوليا، والجزر اليونانية)، وآسيا (شمال آسيا، القوقاز، أرمينيا، بونتوس، الأناضول، الهند، بارس، آشور، والعربية)، ومصر وليبيا. في قسم الهند وبارس، يصف أراضي الهخامنشيين، جغرافيتها، نظمها الاجتماعية، حضارتها، معتقداتها الدينية، وعاداتها. يعتبر استرابون الجغرافيا ضرورة للحكم والدولة.
اسم أريانا
كان إراتوستينس (276-194 ق.م)، الجغرافي والرياضي الليبي، ورئيس مكتبة الإسكندرية القديمة، أول غير إيراني استخدم اسم “أريانا” لإيران. أطلق إراتوستينس اسم “الجغرافيا” على هذا العلم، وتميز بأسسه العلمية، حيث يُحتفى اليوم بجهوده الصحيحة. لكن شهرة إراتوستينس جاءت عبر جهود استرابون. في اللغة البهلوية البارثية، “أريان” جمع يعني الإيرانيين، ومفردها “أريا”، بمعنى إيراني في الفارسية الهخامنشية. “إيران” كلمة بهلوية فارسية.
الدين الإيراني
يروي الفصل الخامس عشر من “الجغرافيا” عن الدين الإيراني كما يلي:
طقوس الفرس والماديين وكثير من الشعوب متشابهة. لا يقيم الفرس تماثيل أو مواقد نار، بل يؤدون طقوس القرابين والنذور في مكان مرتفع، ويعتبرون السماء زيوس. يقطّع المجوس، القائم على الطقوس، القربان، ويأخذ كل مشارك نصيبه ويغادر، دون تخصيص جزء للآلهة، إذ يرون أن الله يحتاج فقط إلى روح القربان. يدفن الفرس موتاهم بعد تغطيتهم بالشمع، بينما لا يدفن المجوس موتاهم، بل يتركونهم في مكان لتنهشه الطيور.
قبر كورش
يصف استرابون قبر كورش، نقوشه، وهندسته المعمارية، وأحجاره. تتميز عمارة هذا البناء بأصالتها. كتب أن الجزء السفلي من القبر مكون من أحجار مقطعة، وفوقه غرفة حجرية ضيقة، وضع فيها جثمان كورش داخل تابوت ذهبي. نُهب تابوت كورش الذهبي وكنوز القبر خلال هجوم الإسكندر المقدوني، لكن اللصوص لم يُعثروا عليهم رغم ملاحقة الإسكندر الشخصية، فظلوا مجهولين.
يذكر استرابون أن في محيط القبر بناء صغير للروحانيين المكلفين برعايته. يشبه تصميم قبر دشت مرغاب، الموقع المقدس وزيارة كورش الكبير، تصميم معبد چغازنبيل، مما يشير إلى أنه بُني لحفظ جثمان شخصية بالغة الأهمية. يُعد قبر دشت مرغاب أقدم بناء مقاوم للزلازل عالميًا، مصممًا بقاعدة منفصلة، مما يمنحه مرونة كبيرة ضد المخاطر الزلزالية.
كنوز بارس: هدف هجوم الإسكندر
يعتقد استرابون أن من أهداف الإسكندر (356-323 ق.م) في هجومه على إيران كانت كنوز بارس (برسبوليس). تضمنت هذه الكنوز مكتبة ووثائق علمية في الطب، والفلك، والتكنولوجيا، والصناعة الإيرانية. نهب الإسكندر الكتب الإيرانية ونقلها إلى اليونان، مدمرًا التراث المادي للحضارة الإيرانية ليضمن تفوق الثقافة والدين اليونانيين، كما فعل نبوخذنصر بتدمير الكتاب المقدس ليهود يهودا. كانت المعابد الوثنية اليونانية قد دُمرت سابقًا على يد الإيرانيين. يروي استرابون حريق قصر بارس (تخت جمشيد). بُني بارس على يد داريوش الكبير، ويُطلق عليه خطأً تخت جمشيد.
أدق رواية وردت في “أناباسيس الإسكندر” ليوسف فلاوي وأريان (86-160 م)، رغم اعتماده على مصادر مثل أريستوبولوس تحمل أخطاء. يروي الكتاب الثالث هزيمة أريوبرزن، وتسخير بارس، ومرور الإسكندر عبر بوابات خزر. نقل عن أرسطو (384 ق.م):
يجب أن يحكم اليونانيون العالم.
لم يؤمن أرسطو بإلهام مثل هذا الحاكم العالمي. كان أرسطو فيلسوفًا عقلانيًا، لا إشراقيًا أو ملكيًا، ولم يجرب الرجوع إلى الباطن والقلب. كان الإسكندر تلميذ أرسطو حوالي 343 ق.م، عندما كان أرسطو في الحادية والأربعين. أسس أرسطو مدرسة لوكيوم في أثينا عام 335 أو 334 ق.م بدعم الإسكندر وأتباعه، واستمرت نشاطاتها العلمية حتى وفاة الإسكندر. بدعم الإسكندر، جمعت الأكادمية كتب جميع التخصصات، والتراث القيم، والاختراعات، وأنواع النباتات والحيوانات من أراضي الإمبراطورية عبر قوات مخصصة، مما جعل لوكيوم مركزًا علميًا متميزًا. بناءً على هذا الإدراك الواسع، اعترف أرسطو في كتابه “عن الفلسفة”:
المجوس الإيرانيون يتفوقون على المصريين في الفلسفة القديمة بمراحل.
تحت إرشاد أرسطو، نظم الإسكندر حملة عظيمة منتصرة إلى مركز الحكم الإيراني لنهب خزائنه وسرقة كنوز العلم وأسرار المعرفة والصناعة والحضارة الإيرانية. رغم فتوحاته وسياسته المتطرفة ليوننة إيران، انهار الإسكندر وفكره الأرسطي من الداخل عند دخوله بابل، وبدأ يبتعد عن الفلسفة والسياسة الأرسطية، مقتربًا من نمط إيراني لليونان، لكنه توفي فجأة غارقًا في أفكار شرقية في سن الثانية والثلاثين. إذا ادعى ملوك إيران إلهامهم الطباعي لشرعيتهم، فقد زعم الإسكندر، بشكل سطحي، أنه من نسل آلهة اليونان.
لم يكن للإسكندر ابن من زوجة يونانية ليخلفه، وبعد وفاته، قتل قادته زوجته الإيرانية وابنه، معتبرينهما تهديدًا ليوننة إيران، وتنازعوا على خلافته. بعد وفاة الإسكندر، آلت إمبراطوريته إلى ثلاثة قادة يونانيين، عملوا على نشر الثقافة اليونانية، وأسسوا الإسكندرية في مصر كمركز علوم بأكبر عدد من الطلاب والكتب. في القرن الثاني ق.م، احتل الرومان اليونان، ومن القرن الأول الميلادي، تحول سكانها إلى المسيحية البولسية عبر دعوة بولس الرسول.
عمارة بارس والبناءات الخالدة
أصول عناصر العمارة في بناءات قديمة مثل بارس (برسبوليس)، التي شيدها داريوش عام 518 ق.م، والموصوفة بالحجارة المنحوتة، أو معبد البانثيون (بيت الأوثان) غامضة. لكن بارس، التي صمدت 2500 عام ضد العوامل الطبيعية وغير الطبيعية، وثيقة حية لمرحلة هامة في تاريخ العمارة الإيرانية، حيث تعكس بناءاتها السمو، والروحانية، والمعاني التوحيدية، والسكينة.
كان الإيرانيون يمتلكون علوم العمارة إلى جانب الفلك الحديث وعلم الكون. كانت عمارتهم كونية، حيث عرفوا العلاقات المعقدة بين الكواكب والأرض ونقاطها المختلفة، واختاروا مواقع واتجاهات البناءات بحسابات فلكية. صُممت هذه البناءات كتقاويم وساعات دقيقة، وأدوات قياس الزمن، في مراكز طاقة مرتبطة بالسماء وبواباتها، وفي أماكن تُسهل على الكهنة والعرافين الاتصال بالغيب عبر علوم غريبة ومعرفة الأعداد.
كان العرافون والكهنة والحكماء العلميون والعارفون الشاملون يشكلون منظومة استخباراتية لإدارة الدول، خاصة في توجيه الحروب وتحقيق النصر. لعبوا دورًا حيويًا في بقاء دول واجهت حروبًا وحوادث طبيعية لا مفر منها، حيث منحت الحروب فرصة نهب الثروات أو عرّضتها للدمار. معبد هترا الديني في نينوى بالعراق يتميز بتقويم شمسي مرتبط بوضع الشمس، يحدد مواقيت مثل الانقلاب الصيفي، وبداية الشتاء، والاعتدالين الربيعي والخريفي، ويبرز روعة شروق الفجر.
معبد چيچن إيتزا في المكسيك، إحدى عجائب الدنيا السبع، وقلعة ماتشو بيتشو المذهلة في بيرو، في جبال الأنديز على ارتفاع 2400 متر، بمساحة 32 ألف هكتار، إحدى العجائب أيضًا، تحتوي على أحجار تزن أكثر من 50 طنًا، خاصة معبد الشمس وحجر إنتيواتانا، بتصميم كوني فلكي. كذلك ستونهنج في إنجلترا، بأحجار تزن أكثر من 50 طنًا وارتفاع 6 أمتار، بُني عام 3100 ق.م، حيث يضيء نور الشمس في أطول يوم على الحجر الأكبر (هيل)، معلنًا الصيف.
يعتقد بعض علماء الآثار أن نقش رستم في مرودشت بفارس هو أدق بناء تقويمي شمسي، يحدد تفاصيل الأيام والشهور. صممه مهندس ملم بالفلك المتقدم، والسنة الكبيسة، وانحراف الأرض عن مدار الشمس، وكرويتها، وحركتها حول الشمس. وفقًا لذلك، كان للهخامنشيين معرفة شاملة بحركات الشمس حتى اليوم. ساعة الحجر في فناء مسجد الشاه عباس بميدان نقش جهان بأصفهان تُظهر الظهر يوميًا دون ظل، حيث تلامس الشمس سطحها عند الزوال. صممها العالم الشيخ بهائي بحسابات فلكية. يُقال إن اتجاه بارس وزاوية منصتها تتطابق مع ميدان نقش جهان، مما يجعل بارس بناءً تقويميًا فلكيًا.
معبد البانثيون الرائع في روما (بُني 27 ق.م) بأعمدته الشامخة وغنبده الفريد، الأكبر عالميًا، يستغل الهواء والماء والنور الطبيعي والسماء بنفس الوصف. مواد هذا البناء ما زالت مجهولة للمهندسين اليوم. زقورة چغازنبيل الطينية (1250 ق.م)، المسماة زقورة دور أونتاش، مدينة عيلام المقدسة، أول معبد وبناء ديني باقٍ، وإن كان خرابًا.
ما زال مجهولًا نوع مواد نقش بيستون، الذي أمر به داريوش على جبل بثلاث لغات ميخية (أكدية، عيلامية، فارسية قديمة)، مع نقوش متقنة. كذلك رأس العمود بصورة ثورين في قصر أبادانا بشوش، المحفوظ في متحف اللوفر، بوزن 12 طنًا، كيف صُنع ونُقل ووُضع على عمود بارتفاع 20 مترًا؟ أو كيف سُوّي سطح قصر أبادانا بمساحة تزيد عن 10 هكتارات، وهو ليس من الحجر؟ أو كيف صيغت أواني العطر والمزهريات الحجرية بفوهات أضيق من أجسامها؟
نُحت نقش بيستون على أحجار جيرية، مغطاة بلعاب بني ومادة مجهولة التركيب غيرت لونها بمرور الزمن، ربما للحفاظ على النقش وإبطاء تآكله. اكتُشفت فيها مركبات من أكسيد الجير والرصاص، لكن تفاصيل المادة غير معروفة. يقع النقش على ارتفاع 105 أمتار، بعيدًا عن المتناول، وهو أول نص تاريخي إيراني يروي أحداثًا. “بيستون” من “بغستان”، أي مكان الآلهة، وبعد الإسلام سُمي “به ستون”، أي العمود الجيد. يصور النقش انتصار داريوش على غوماتا المجوسي (526 ق.م)، المُلقى تحت قدميه متوسلًا، مما يشير إلى كذبه كرجل دين. يصف داريوش نفسه في النقش داعمًا للصدق وعدوًا للكذب، ويظهر مدعومًا من مزدا أهورا، شاكرًا له نصره على أعدائه. قد يُوحي هذا بأن داريوش واجه مشكلة شرعية الحكم.
بعض البناءات الشامخة والنقوش والأواني المذكورة صيغت من طين نقي، عُجن وفُرز بدقة بحسابات كيميائية دقيقة لتجنب التفاعلات أو الجفاف المبكر، مع تقنيات قطع الحجر والخشب والخرسانة. كانت العجينة متينة، مقاومة للضغط والزلازل، وتُستخدم في بناءات مراكز القوة: السياسة والدين، مع أسس مناسبة وقنوات لتصريف الفيضانات. كلما جفت العجينة، صارت أقوى وأصلب كالحجر. كان الطين يُعجن لعقود، أحيانًا نصف قرن، ليصبح مادة مقاومة للماء والحرارة والتآكل والأحماض. استُخدمت في بناءات معقدة. كانت الأسرة الملكية تُدير تحضير الطين، مضيفة ذهبًا لتشجيع الناس على عجنه وليده لفترات طويلة. هذه العجينة، كالخمر القديم، تكتسب نقاءً وقيمة مع الزمن، تصبح ناضجة ونقية بعد عقود.
التاريخ الطبيعي لغايوس بليني
غايوس بلينيوس الأكبر، المعروف ببليني الروماني (23-79 م)، مؤلف كتاب “التاريخ الطبيعي”، أحد مؤرخي القرن الأول الميلادي، تناول في كتابه إيران القديمة والشرق الأقصى وبعض طقوسهما. يتميز هذا الكتاب، رغم احتوائه على معلومات خاطئة وخرافية تتماشى مع مستوى العلم في عصره، بتفرده في تضمين فهرس مصادر في مقدمته، يشمل أكثر من ألفي مصدر. جمع أعمال بليني الأكبر ابن أخته، غايوس بلينيوس كايكيليوس سكوندوس، المعروف ببليني الأصغر، وسجلها.
من اللافت أن بليني الأكبر، الذي كان في العاشرة من عمره أثناء إعدام عيسى وصلبه، ومعاصراً للحواريين وكتبة الأناجيل، لم يذكر عيسى أو حوارييه في كتابه. بينما قدم بليني الأصغر، قائد كبير في الجيش الروماني، تقريرًا للإمبراطور تراجان (53-117 م) حول تجمعات المسيحيين. في نظر البلاط والمثقفين آنذاك (حوالي 110 م)، لم تكن المسيحية سوى خرافة، رغم نموها الذي أدى إلى إخلاء المعابد وانحسار قرابين الوثنيين.
أشار بليني الأكبر إلى خليج بارس والبحر البارسي باسمي “Persico mari” و”Persici sinus”. كما وصف قبر كورش بأنه يقع شرقي بارس (برسبوليس)، بينما يقع دشت مرغاب، إن كان قبر كورش الكبير، شمال شرقي بارس، مما يشير إلى خطأ محتمل في تحديد الاتجاه.
أكل لحوم البشر في نموذج النقص الحربي
ما أورده بليني عن أكل لحوم البشر يشير إلى إطعام جثث الموتى للحيوانات بسبب نقص الغذاء في الحروب، وفق نموذج النقص، حيث لا تكفي الموارد لتلبية الحاجات. لا يقصد تمزيق أجساد الأحياء. هذا الفعل، رغم كونه إهانة لكرامة الإنسان الميت ومستنكرًا من الأحياء، لا يسبب ألمًا للميت، إذ يصبح الجسد بعد الموت مجرد بقايا خالية من الروح، قد انتقلت إلى عالمها المناسب. جثث الأعداء في الحروب، خاصة، لا تحظى باحترام، فلا يُعد استهلاكها غذاءً أمرًا شنيعًا. الحرب بحد ذاتها جريمة، لكن في حال وقوعها، يصبح الدفاع عن النفس ضد العدو بلا حدود محظورة. لإضعاف العدو وزرع الرعب في قواته، يجوز استخدام أي وسيلة، مهما كانت بشعة، وهذا مبدأ عقلاني في الحروب ضد عدو متوحش، لا يهدف سوى النصر والسيطرة وتوسيع النفوذ. هذا العدو، إذا تمكن، يخلق أزمات نقص ومجاعات مدمرة أو فقرًا ساحقًا عبر الحصار أو منع الإنتاج أو تدمير الموارد أو احتكارها.
قوة تواصل الملهمين ومنع الحرب
في الحرب، الأولوية هي تأمين الأمن والسلام والرفاه للناس والمجتمع، أمن الجميع بلا استثناء. لا يجوز أن تكون الحرب ذات أهداف معادية للدين أو تسعى للهيمنة وتوسيع النفوذ، والتحريض على الحرب محظور. اليوم، تُقاس قوة الدول بقدرتها على التواصل والتوعية عبر إدارة الإعلام الناعم، إلى جانب القوة العسكرية الصلبة، مما يعزز الاقتدار ويردع الحروب.
الملهمون، بما لهم من اصطفاء ومحبة وعناية إلهية، محبوبون وموثوقون في الأوضاع العادية وغير الأزمات، وتتجلى قدرتهم على التواصل. لكن قدراتهم القيادية والحقية المبتكرة والثورية، باستخدام وسائل قد تكون غير تقليدية، تظهر بوضوح في الأزمات. في الحكمة الإلهية، يُحظر إشعال الحروب والنزاعات ابتداءً، والتعامل مع المعاندين يكون عبر التواصل والتوعية والتدبير الحكيم وإتمام الحجة الإلهية. لكن إذا أصر العدو على العناد والكيد العملي، وأشعل نزاعًا أو حربًا، يواجه الحكماء الموقف دفاعًا وردعًا، مفاجئين العدو بخدع غير مسبوقة، مستغلين طبيعة الحرب المدمرة دون حدود محظورة للخداع أو الضربات المفاجئة، لإخماد فتنته المزعزعة للسلام والأمن بسرعة. إذا تكونت بؤرة تهديد وثبتت أفعالها، يجوز توجيه ضربة أولية لاحتوائها وحماية الناس، متصلة بالحق والمعرفة، ترفع حتى الأعداء دون أن تكون انتقامًا بحتًا. في الحرب، هم كرماء ونبلاء، يستهدفون أقوى نقاط العدو وقادة الفتنة، لا الضعفاء أو العامة.
سيرة ديوجانس لايرتيوس
ديوجانس لايرتيوس، من عقائديي ومؤرخي اليونان في القرن الثاني الميلادي، مؤلف كتاب “حياة الفلاسفة الكبار”، وهو مصدر رئيسي لتاريخ الفلسفة اليونانية. يتناول الكتاب حياة فلاسفة يونانيين مؤثرين، مقسمًا إلى قسمين: المدارس الأيونية (في غرب الإمبراطورية الهخامنشية) والإيطالية. يغطي القسم الثاني آراء فيثاغورس حتى إبيقور، مع تركيز رئيسي على سقراط وأفلاطون. يذكر أيضًا فلاسفة مثل طاليس، زينوفون، إقليدس، أرسطو، زينون، فيثاغورس، وديموقريطس، مستندًا إلى مصادر لم تعد موجودة اليوم.
فلسفة الحرية والاكتفاء
ديوجانس الكلبي، معاصر أفلاطون وأرسطو، اعتنق فلسفة تمجد حرية الإنسان، متجاهلاً الأعراف والقوانين في تصرفاته العامة. في فلسفته الكلبية، تُعد الحرية قيمة عظمى، تتجاوز التأملات النظرية وآداب الكتابة العلمية. يستند أتباعها بحرية إلى الحكايات والحكم في خطب ومواعظ وهزل وسخرية. رأى ديوجانس أن الحرية والاكتفاء هما سبيل السعادة والنجاة، وأن أكبر عائق أمامهما هو الالتزام بالأعراف المخالفة للطبيعة البشرية، التي يجب التخلص منها بالزهد وتدريب النفس.
يُروى أن ديوجانس كان مستلقيًا تحت الشمس حين ظهر الإسكندر المقدوني فوقه وقال: “اطلب ما شئت أعطيك.” أجاب ديوجانس: “أبعد ظلك عني.” وفي حكاية أخرى، كان يجول المدينة نهارًا بمصباح بحثًا عن “إنسان”.
المجوس الإيرانيون: منبع الحكمة والفلسفة
روح الحرية لدى ديوجانس دفعته إلى الإنصاف في كتابه عن حياة الفلاسفة اليونانيين، حيث أرجع أصل الحكمة والفلسفة إلى المجوس الإيرانيين، الذين تفوقوا في العلم والمعرفة على كهنة مصر القديمة بتاريخ أطول. يذكر أن زردشت، أحد أئمة المجوس الإبراهيميين، يعني “قربان النجوم”، وعاش قبل ستة آلاف سنة من عبور خشايارشا (486-465 ق.م) لمضيق هلسبونت. يؤكد ديوجانس أن فلاسفة اليونان المشهورين تواصلوا مع المجوس الإيرانيين، متأثرين بفلسفتهم وجهانيتهم وعلومهم. من ذلك تنبؤ مجوسي بموت سقراط، وعلاقات فيثاغورس وديموقريطس مع المجوس. كتابات أفلاطون وأرسطو، الأولى في دوامها، والتي تجاوزت التأريخ العقائدي إلى النقد العلمي للمعارضين والسابقين، تأثرت بمصادر وأعمال المجوس الإيرانيين العلمية.
ينقل ديوجانس رسالة من داريوش إلى هيراقليطس الأيوني (535-475 ق.م)، جاء فيها:
لقد كتبت رسالة بعنوان “في الطبيعة”، يصعب فهمها وتفسيرها. يبدو أنها، في بعض أجزائها، إذا فُسرت كلمة كلمة، تحمل تأملًا عميقًا في الكون وما يجري فيه، متكئة على قوة إلهية عميقة. لكن في أجزاء كثيرة، تظل الأحكام معلقة، حتى إن المتخصصين في الأدب عجزوا عن فهم تفسيرها الصحيح. لذا، يأمل داريوش الملك، ابن ويشتاسب، أن يستفيد من تعاليمك وثقافتك اليونانية. فهلم إلى قصري بسرعة، إذ إن اليونانيين لا يهتمون بحكمائهم وقواعدهم الرائعة التي تعزز الاستماع والتعلم. أما في بلاطي، فستجد كل الامتيازات والحوار اليومي القيم، وحياة تتماشى مع آرائك.
هذا النقل التاريخي يظهر، على الأقل، الارتباط بين بلاط إيران وحكماء اليونان، ويتسق مع أسلوب هيراقليطس الغامض والرمزي المتعمد، المعروف بـ”الفيلسوف المظلم”. كان حكماء اليونان مثل سقراط وأرسطو على دراية بحكمة المجوس الملكية. زينوفون، المؤرخ وتلميذ سقراط، تواصل مع كورش الصغير، وسقراط تفاعل مع مجوسي يُدعى غبرياس. أُعدم اليونانيون سقراط عام 399 ق.م بشوكران بتهمة الترويج لأديان أجنبية. هيراقليطس، أقدم فلاسفة اليونان، ذكر المجوس في كتاباته، واعتبر طقوسهم كفرًا، وهو حكم من لا يغوص في معنى الدين قلبيًا أو ينفصل عن باطن هذه الطقوس. في نظره، تتجاوز الأخلاق النبيلة، بلا ارتباط بالنصوص أو الحاجة إلى التدين القلبي، أي سياق ديني.
رأى هيراقليطس العالم المادي في حركة دائمة، وقال: “لا يمكن دخول النهر مرتين”، ولم يؤمن بآلهة اليونان الأسطورية، لكنه اعتنق وحدة الوجود. استفاد ديوجانس من كتاب “سلسلة الفلاسفة” لسوتيون الإسكندري، مؤرخ الفلسفة في القرن الثالث ق.م، واعتبره أول مؤرخ فلسفي.
مصادر أخرى
من المؤرخين اليونانيين الآخرين: أثينا، من مؤرخي عهد الإسكندر المقدوني وملكة اليونان القديمة، التي قدم لها خشايارشا قرابين كثيرة بعد فتحها؛ دينون، وقائعي يوناني معاصر لفيليب المقدوني (359-336 ق.م)، ملك مقدونيا؛ ديودور السيسيلي (90-21 ق.م)، مؤلف كتاب “إيران والشرق القديم في المكتبة التاريخية”؛ نيقولاوس الدمشقي (64 ق.م)، مؤرخ وفيلسوف يهودي؛ كوينتوس كورتيوس روفوس، مؤرخ روماني في القرن الأول الميلادي ومؤلف سيرة وتاريخ الإسكندر؛ وبلوتارخ (46-73 أو 74 م)، فيلسوف وكاهن، مؤلف “حياة الرجال العظام” ورسالة “إيزيس وأوزيريس”، التي تناولت الدين الإيراني مستندة مباشرة إلى مصادر المجوس.
ذكر سويداس في “معجم الكلمات” أن تراجان عين بلوتارخ قنصلًا، وأمر بمراعاة رأيه في كل الأمور احترامًا لمعرفته الواسعة. تتميز رواية بلوتارخ بدقة ملاحظاته وتفكيره الرقيق حول المبادئ الدينية والطقوس والقيامة في الدين الإيراني، لأن مصادره كانت مجوسية بحتة. لكن من المدهش أنه، رغم معاصرته لكتبة الأناجيل، لم يذكر عيسى أو المسيحية أو الحواريين أو الأناجيل.
مصادر ما بعد الإسلام
في القرن الثاني الهجري، مع ترجمة الكتب الفلسفية اليونانية والأديان البوذية والهندوسية والمسيحية إلى العربية، وتوسع الفتوحات الإسلامية، وتفاعل المسلمين مع أتباع الأديان الأخرى، ازدهرت المناقشات الدينية. بعد القرآن الكريم، المصدر التاريخي الذي يروي أحداثًا هامة من الماضي، تشمل أبرز كتب تاريخ الأديان، إذا خضعت لتحليل عقلي تاريخي:
– “الفهرست” لمحمد بن إسحاق بن النديم الوراق (932-995 م)، الذي تناول العقائد والمذاهب والحركات العلمية حتى عام 377 هـ، سنة تأليف الكتاب.
– “الفروق بين الفرق” لعبد القاهر البغدادي (980-1037 م)، ترجمه محمد جواد مشكور (1918-1995 م) بعنوان “ثلاث وسبعون أمة أو تاريخ المذاهب الإسلامية”.
– “آثار الباقية عن القرون الخالية” لأبو الريحان البيروني (973-1048 م).
– “فصل في الملل والأهواء والنحل” لأبو محمد علي بن أحمد بن سعيد، المعروف بابن حزم الأندلسي (994-1064 م).
– “بيان الأديان” لأبو المعالي محمد بن نعمة الحسيني، كتب عام 1092 م.
– “الملل والنحل” لعبد الكريم الشهرستاني (1086-1158 م).
“الملل” جمع ملة، وتعني الدين الحق المنزل بواسطة نبي إلهي. أما “النحل”، جمع نحلة، فتشير إلى العقائد الباطلة غير الإلهية، على عكس الملة. والمذهب هو الطريقة أو المنهج الخاص الذي يقوده إمام ديني، وهو جزء من ملة. اختلاف المذاهب يولد الفرق.
الكتب المؤلفة بين القرنين الخامس والخامس عشر الميلاديين (من 200 سنة قبل الإسلام إلى القرن الثامن الهجري)، المعروفة بالعصور الوسطى وسيطرة الكنيسة والجهل والخرافات، تعاني في موضوع علم الأديان من نقص الحيادية والتحيز والتكليف الرسمي.