الفصل الخامس عشر: ازدهار الحواس وتفعيل القدرات العقلية
الفصل الخامس عشر: ازدهار الحواس وتفعيل القدرات العقلية
تفعيل الحواس وتعزيز الذكاء: ركائز التطور الفردي
بعد استبصار المواهب وتقوية الإرادة وتفعيل الطاقة الروحية للصبر، تبرز من بين العناصر الأساسية لازدهار الفرد وتطوره ضرورة الاهتمام بالذكاء النشط واستثمار القدرات العقلية والإبداعية في حل المشكلات. الذكاء هو القدرة على اكتساب المعرفة، والتعلم من التجارب، وتطبيق الوعي والفهم، واستيعاب المعلومات ومعالجتها لحل المشكلات بمنطقية ونظام، والتوصل إلى استنتاجات جديدة وأحكام مبتكرة، والتكيف مع البيئات الجديدة.
للوصول إلى الذكاء واستثماره، ينبغي أولاً تفعيل الحواس. لذا، فإن ازدهار الحواس وتفعيل الذكاء مترابطان ومتشابكان. يُعرَّف الذكاء في علم النفس بأنه القدرة على معالجة المعلومات وحل المشكلات، بينما تؤدي الحواس دوراً رئيسياً كمداخل أولية للمعلومات في الأداء الإدراكي.
الفهم الصحيح والأداء السليم للدماغ يتحققان في الجسم السليم. يحتاج الدماغ لأداء صحي إلى نوم كافٍ ومناسب، ونظام غذائي متوازن، وبيئة محفزة وداعمة للتطور. وقد أثبتت الدراسات أن النوم الكافي والتغذية المناسبة يعززان الأداء الأمثل للدماغ ويقويان الذاكرة والذكاء.
ينبغي ترك الطفل طليقاً لاستكشاف مدى إدراكاته الحسية، ومعرفة أي الحواس أكثر قوة لديه، وما الذي يستطيع استنشاقه أو سماعه أو توقعه، وما هي مكتسباته العلمية، ومدى قدرته على تحمل الضغوط. يجب استكشاف طبيعة ذكائه وتردده الخاص، دون تقييد مواهبه بحفظ المعلومات القسري، الذي قد يكبح قدراته الطبيعية ويطمسها تحت وطأة المحفوظات الثقيلة.
الحواس: أساس الوعي
مصدر إدراك الإنسان هو حواسه، التي تُعدّ سيدة الجسد في عالم المادة من حيث الوعي والذكاء. إدراك الحواس قابل للتطوير، ويختلف باختلاف السياقات والأزمنة. لا تقتصر الحواس البشرية على الحواس الخمس المعروفة، فهذه ليست سوى المرحلة الأولية من الحس. الحواس إما جوارحية (ظاهرية) أو جوانحية (باطنية). فإلى جانب الحواس الجسدية الظاهرة، توجد في باطن الإنسان مراتب الوعي مثل القلب، والروح، والسر، والخفاء، والأخفى، التي تُعدّ مصادر للإدراك. تُبحث هذه المفاهيم الباطنية، مثل القلب، في علم النفس الديني والعرفان، وستكشف التطورات المستقبلية عن المزيد من أسرارها.
لا يزال الإنسان يعاني من ضعف في فهم الحواس الجسدية الظاهرة. إذا كان يوماً ما يعتقد أن العناصر أربعة والحواس خمسة، فقد تطور اليوم في معرفة العناصر حتى تجاوزت المئة، لكنه في مجال اكتشاف الحواس الجسدية والإدراك الحسي لا يزال في بداية الطريق. ينبغي أولاً تعزيز القدرات البصرية والسمعية، وتطوير الإدراك في مجال التذوق، بما يشمل النكهات الحادة، والمالحة، والحامضة، والحلوة، والمرة.
توجد ظواهر كثيرة حولنا لا نشعر بها بحواسنا، لكن الحيوانات مثل القطط والكلاب تمتلك إحساساً بها. فالكلب، على سبيل المثال، يتمتع بحاسة شم أقوى من الإنسان العادي، ويُقال إنه يستطيع الشم والإدراك في دائرة يبلغ نصف قطرها ستين كيلومتراً.
جسم الإنسان كائن جنسي وليس نوعياً، كما أنه يحتوي على عناصر الأرض بصورة جنسية وليس نوعية. الكائن أو العنصر النوعي مغلق، لا يكون سوى ما هو عليه، أما الكائن أو العنصر الجنسى فهو مفتوح، أي يمكن أن يكون كل شيء. يبدأ وعي الإنسان بحواسه الجسدية، ويستطيع الإنسان من خلال التدريب تقوية هذه الحواس وتنميتها، والوصول إلى إدراك دقيق للأشياء وخصائصها عبر تدريبات مثل لمس الأشياء بعيون مغلقة.
تُعدّ الحواس أساس الوعي التجريبي للإنسان، وترتبط تجاربه بالوهم، والخيال، والعقل، حيث تسيطر أنواع الحواس على هذه الأبعاد. بعض الأفراد لديهم حواس ضعيفة، فلا يشعرون بالدغدغة، وبعضهم قد يكون في حالة شبه التخدير في مناطق مثل كعب القدم. تكون حاسة الشم لدى البعض بطيئة، كأن يتأخر إدراكهم لرائحة الاحتراق أو الدخان، وقد لا يشعر آخرون بأمراض مثل السكري أو ارتفاع نسبة الدهون في الدم. على النقيض، تمتلك أيدي البعض حاسة قوية تمكنهم من استشفاف الشخصية الباطنية للآخرين أو خفاياهم بمجرد المصافحة. ويمكن، بلمس الأشياء بعيون مغلقة، التعرف عليها بدقة.
حواس المكفوفين
قد يعزز المكفوفون حواسهم الأخرى، مثل السمع واللمس، لتصبح أكثر حيوية وقوة. في بعض الحالات، قد تتفوق حواسهم الحية على عيون الأشخاص المبصرين. بعضهم قادر على التعرف على الأفراد من خلال أنفاسهم.
حواس الأولياء الإلهيين
يمكن أن تتطور الحواس لتصبح قوية للغاية، بحيث تدرك الأمور بشكل لا واعٍ. الأنبياء والأولياء الإلهيون يمتلكون حواساً حية وقوية، وكثير من إدراكاتهم تنبع من حواسهم الجسدية، وليس فقط من المغيبات أو الباطن القلبي أو الروحي. تُبحث هذه الإدراكات كظواهر عرفانية في علم النفس الديني.
حاسة النسب
الذكاء يتفرع عن الحواس، لذا ينبغي أولاً تقوية الحواس. القدرة على معرفة النسب عبر تحليل ملامح الوجه تأتي من شخص طوّر حاسة بصره. تُعدّ قراءة الوجوه علماً يُكتسب بتطوير الحواس.
الاستفادة من حواس الآخرين
بتقوية الحواس، يمكن التحكم في حواس الآخرين، أو تقليصها، أو استخراجها، أو استغلالها، والتأثير فيها. في العلاج بالطاقة، يمكن بمجرد النظر أو اللمس تفريغ طاقة شخص آخر، شريطة ألا يكون ذلك اعتداءً، بل بموافقة الشخص وإرادته. يمكن للحاسة القوية إزالة الالتهابات والعدوى والأمراض من أجسام الآخرين، فالحاسة تمتلك قدرة تنظيفية وعلاجية مشابهة للأدوية. هذه القدرة متاحة لمن يمتلك حواساً حية وقوية.
إذا امتلك الشخص حواساً قوية، فإن تعليمه يكتسب سرعة وتسارعاً، وتكون استفادته في وقت قصير مماثلة لما يكتسبه الآخرون في أمد طويل.
ضعف الحواس وسكونها
ينبغي على الإنسان إحياء حواسه وتنشيطها وصقلها. الحاسة التي تفتقر إلى الحيوية أو تكون بطيئة الإدراك تجعل الجسم غير فعّال، وتُكلّفه طاقة وجهداً كبيرين للإدراك. الشخص الكسول ذو الباطن الخامل والإرادة الضعيفة لا يمتلك القدرة على استقاء الطاقة والقوة من مصادرها، فيصاب بالوهن والتباطؤ، ويفتقر إلى النشاط والحيوية. يستمد الجسم طاقته وقوته الأكبر من خلال النشاط والجهد.
من بين جميع الحواس البشرية، تتمتع الحواس الثلاث: البصر، والسمع، واللمس، بأهمية بالغة. يمكن القول إن الحواس الأخرى تُختزل إلى هذه الثلاث. تعزيز هذه الحواس الثلاث واستغلالها أمر بالغ الأهمية. الأفراد الذين بلغوا الكمال في استخدام حواسهم يستطيعون تحويل هذه الحواس بعضها إلى بعض، فيرون بالأذن، ويسمعون بالعين، ويدركون باليدين الرؤية والسمع معاً.
الأفراد الذين يعانون من ضعف في حاسة السمع لا يمكنهم تحقيق تميز أو تفوق ملحوظ. الأشخاص الأقوياء والمتميزون لا يمكن أن يعانوا من خلل في نظام السمع أو أن يكونوا بعيدين عن القلب والروح. الفرد القوي يصل إلى تفوق مضاعف عبر مدخلاته الحسية مقارنة بالآخرين.
تتعلق قدرة الوعي بإنسانية الإنسان وقوة حواسه، وليس بجنسه. كل إنسان، رجلاً كان أم امرأة، يستطيع تنمية حواسه واستثمار عقله وقدراته الفكرية بشكل أفضل، وتعزيز ذكائه، سيصبح أكثر تمكناً وتقدماً في الوعي والمهارة، بغض النظر عن جنسه.
الباطن: وليد الحواس
إن باطن الإنسان وروحه هما نتاج جسده وقوة حواسه ودقة إدراكاته. تتأثر روح الفرد وتكتسب قوتها أو ضعفها من خلال التغذية والإدراكات الحسية. التغذية تشكل الروح، والدماغ، والعقل، ونظام الإدراك، وكذلك المشاعر والعواطف البشرية.
يمكن للإنسان من خلال نظام غذائي صحي ومتوازن بناء نظامه الإدراكي والعاطفي، وتعزيز طاقته الباطنية وإرادته وتركيزه، وتطويرها، واكتشاف عظمة ذاته وحيوات جديدة. إذا اتجه الجسم نحو التجرد، وحصل على طاقات معنوية، وبخاصة طاقات التجرد، فإنه يستطيع تلبية احتياجاته من تلك الطاقات الرقيقة.
إذا استعادت العين والأذن والقلب نظامها الصحي، فإنها تستقبل مدخلات من ترددات وموجات طاقة متنوعة، قد تصبح أحياناً لا تُطاق، مما يتطلب اللجوء إلى عوامل تخفيف مثل الجنس المكمل لتقليل هذه المدخلات. ويُقصد بذلك أن النساء ذوات الطباع الثقيلة المنغمسات في الجسد الأرضي يعدن الإنسان من عالم المعنى والروحانية إلى عالم المادة. التواصل معهن يوفر لمن ارتقوا إلى التجرد القلبي (وليس الخيال الكاذب) وسيلة للعودة والاتصال مجدداً بالجسد المادي.
الفرد الذي يتمتع بذكاء عالٍ وقوة باطنية، ونظام ذاتي فعّال للعناية بالنفس، يمتلك نظاماً صحياً وعقلانياً وذكياً للشهية في الأكل والرغبات العفيفة، وقدرة ذاتية صحية على الحفاظ على الذات. مثل هذه الشهية تتعرف على احتياجات الجسم الأساسية، وتجعل الفرد واعياً بها، وتضع هذه الاحتياجات والرغبات في محور تركيزه.
ينبغي للفرد الذي يمتلك شهية واعية وصادقة أن يسعى وراء الخير والأمور التي يحبها وتتوافق مع ميوله، مع الحفاظ على حريته، وتجنب النفاق والرياء وقمع ذاته. بمساندة هذه الشهية الواعية والصادقة، يمكن للفرد حماية جسده ونفسه من العديد من الأمراض والاضطرابات.
نظام تربوي يقتضي الحرية
إن قوة العقل وقدرات التدبير والصلابة الإنسانية، وإن كانت مواهب فطرية، فإن العقل والذكاء، كمادة الجسم، خاضعان لنظام الاقتضاء المادي والتربية. يمكن تحويل الجسم إلى أي شيء في ظروف معينة. على سبيل المثال، يمكن تحويل قطة هادئة في بيئة معملية إلى نمر متوحش، أو تحويل ببغاء إلى كناري قوي في الغناء. وبالمثل، من يمتلك موهبة الذكاء أو النبوغ الفطري، إذا لم تتوفر له الظروف المناسبة، وبخاصة الحرية لإظهارها، وكان في بيئة قمعية مستبدة مغلقة، فقد يصاب بالجنون. وعلى العكس، من لا يمتلك ذكاءً عالياً يمكن أن يصل إلى فهم عالٍ بتطوير حواسه في بيئة حرة.
ضعف العقل وسكون العقل وتوقفه يجعلان الفرد سطحياً، متمسكاً بالظواهر، ضحلاً، مقلداً بشكل دائم، وتائهاً. بعض الأفراد يعانون بشكل دوري، بعد فترات معينة، من اضطرابات في أداء الدماغ، أو الجنون الدوري، أو انقطاع العقل. على الفرد في العناية بنفسه الانتباه إلى ما إذا كان يعاني من مثل هذه الاضطرابات أم لا.
أضرار الانشغال العلمي المفرط
خلافاً للاعتقاد السائد بأن الانشغال الزائد بالدراسة والتدريس والمطالعة مفيد، فإن الإفراط في الانغماس في المعارف المكتسبة والعقل البسيط المحدود التجاري يؤدي إلى إهمال مقام القلب والعقل النوراني، والحرمان من المحبة والأنس مع الأشياء والأفراد، مما يضعف الذكاء ويوقف الفهم. للوصول إلى معارف عليا وما وراء العقل، ينبغي إيصال العقل إلى حالة السكون والتفريغ والتأمل العميق.
كما ذكرت في كتاب “الوعي والإنسان الإلهي”، فإن التفكير العقلي المجرد والمفهومية المحضة والعلم الخالي من الذكاء العاطفي والمنفصل عن الباطن قد يُصيب الفرد بالطمع، والتكبر، والعناد، والنقد المفرط، والحساسية الزائدة، والتأثر السريع، والهشاشة، والخجل، والبرود، ويجعله دنيوياً. مثل هذا الشخص لا يتمتع بوجه متوازن في الاجتماعات وتفاعلاته مع الآخرين، ويصبح عرضة للتطرف والتقلبات المزاجية العالية والتناقضات.
مهارة استخدام الذكاء العاطفي والاستفادة من النجاح عبر مؤشرات مثل العلاقات الزوجية وإنتاج العواطف تجعل الفرد متوازناً، سعيداً، وحيوياً في تعاملاته مع الآخرين، وتساعد على التحكم في الخوف والقلق، وتعزز الالتزام والمسؤولية والأخلاق، والمحبة، والثقة بالنفس، والاهتمام بجماليات الحياة والفن، والحياة ذات المعنى، والتفاؤل، والقدرة على التعبير عن الذات، والإبداع، وتحويل العداء إلى طاقة إبداعية ضرورية للبقاء، والتوازن، والمرونة، والتكيف، والتفاهم، والهدوء والوقار. كل ذلك يحفز قوة الدماغ والقدرات الجسدية نحو نشاط صحي وتطبيق عملي.
التعلم قصير الأمد
إذا تم تهيئة الحواس وصقلها وتطويرها، فلا حاجة للضغط عليها لإدراك الأشياء، بل ستكتسب سرعة ودقة وتركيزاً وجودة في الإدراك. لكن ينبغي أولاً معرفة قدرات الحواس للاستفادة منها. الاختلاف في تهيئة الحواس يؤدي إلى اختلاف في قدراتها.
صحيح أن أصل الحواس والذكاء وطبيعتهما ليست اختيارية، بل تخضع للسريرة الجسدية، وأحياناً للوراثة والخلفية، لكن قابلية الحواس والذكاء للتربية تجعل تمكينهما وتحسين جودتهما اختيارياً. فالشخص يستطيع العمل على حواسه، كما لو كانت مغناطيساً وحديداً في جسده، لزيادة قدرته على الاستقبال والإدراك. إذا كان الحديد في جسد شخص ما أكثر، فقد ينجذب ثوبه إلى جسده، بل قد يشتعل بالنار إن لم يكن ضعيفاً.
إذا استطاع الفرد تقوية حواسه وذكائه، فإن هذا التغيير سيؤثر في فهمه ومعرفته وتبصره ونضجه، بل وفي إيمانه أيضاً. الحواس الحية والنشطة تمتلك قدرة على التركيز والتجمع. تعليم الكثيرين أصبح صعباً وطويلاً بسبب التشتت، فلم يكملوا تعليمهم حتى نسوا المواد الأولية التي درسوها، وتكون ترقيتهم الأكاديمية قائمة على اختبارات ليلية وعلى أساس الشهادات، وليس المعرفة الحقيقية.
من المستحيل أن ينسى صاحب الحواس القوية والذكاء العالي ما قرأه أو يفقده. الحاسة الحية والقوية تشبه الكلاب المدربة على اكتشاف المواد أو الأحياء، فهي قادرة على الإدراك والذكاء. من لا تمتلك حواسه الحيوية والنشاط يُشبه جثة متحركة. المجتمعات المتقدمة تركز على تعزيز وتطوير حواس وذكاء الأفراد، والاستفادة من الذكاء الاصطناعي المتقدم والإدراكات فوق العقلية، بدلاً من زيادة عدد السكان بمجرد إضافة أفراد.
ينبغي تعزيز حواس الأفراد في المدارس والجامعات والمعاهد. من لا تمتلك حواسه الحيوية والنشاط يُشبه من تكون يداه وقدماه مقيدتين. إذا لم يُستخدم الحس بشكل حيوي وقوي، فإن الذكاء لن يتحرك ولن يتطور. إن تفوق ابن سينا في علوم عصره لم يكن بسبب استخدامه كتب الآخرين، بل بفضل حواسه وذكائه العالي ونبوغه الفطري الذي تم تفعيله.
راحة الجسم والتوقف في نقطة السكون
من العلاجات المنشطة للجسم ومحيية له، والتي تمنحه القدرة على التعافي وتطوير الذكاء والإدراك، هي الراحة وإعطاء الجسم فترات توقف في نقطة السكون. ينبغي، حسب صعوبة العمل ونوعه، تخصيص فترات من خمس إلى خمس عشرة دقيقة للراحة، يتم خلالها تعليق جميع الأنشطة البدنية والفكرية. كما أن كل جهاز يحتاج إلى الراحة والتبريد والصيانة، كذلك يحتاج الإنسان إلى حوالي ربع ساعة يوقف فيها جميع أعماله ونشاطاته، ويمنح جسده الراحة التامة. وقد أثبتت الدراسات أن فترات الراحة القصيرة تعزز الأداء الإدراكي وتقلل من الإرهاق.
لا ينبغي لنظام التعليم والتربية إبقاء الأطفال في المدارس للأنشطة الدراسية أكثر من ثلاث ساعات ونصف، فما زاد عن ذلك يضر بنفسية التلاميذ، ويُعدّ قسوة وإبقاءً لهم في ضيق ومشقة وتحت الضغط. يجب على النظام التعليمي ألا يتجاوز ساعات الدراسة الأربع ساعات، وأن يصبح متخصصاً بعد المرحلة الابتدائية، دون السعي إلى جعل الطلاب عارفين بكل شيء، بل يُقصر تعليمهم على مجالات تخصصهم وفقاً لمواهبهم واهتماماتهم. التعددية التعليمية تجعل الطالب يائساً من التعليم، وغامضاً بشأن مستقبله، وفاقداً للحماس والدافعية. النظام التعددي لا ينتج باحثين، بل يقضي على روح البحث والإبداع والابتكار لدى الطلاب، وبالتالي يمهد الطريق لتسلط الأجانب على المصير العلمي والثقافي للبلاد.
كذلك، لا ينبغي للطبيب أن يمارس الطب أكثر من أربع ساعات يومياً، كما لا يمكن إجبار شاعر على نظم الشعر لساعات في جلسة واحدة، أو إلزام باحث بالبحث. الطبيب الذي يمارس الطب أكثر من أربع ساعات يظلم مرضاه. لا يمكن أداء العمل الطبي الدقيق بتشخيص موثوق ووصفات صحيحة لأكثر من أربع ساعات يومياً. الطب عمل دقيق وفني وعلمي، والدماغ البشري لا يستطيع أداء الأعمال شديدة الدقة والفنية لأكثر من هذه المدة.
حتى التفكير في نقطة السكون يعيق راحة الجسم، ويُعدّ دليلاً على عدم السيطرة على العقل. الفرد القوي يستطيع التحكم في عقله بإرادته لتجنب النشاط الفكري المفرط أو التيه في الوهم أو الخيال أو الأفكار العابرة.
الحركة والنشاط المستمر دون توقف يُنهكان الجسم ويُسببان الإرهاق والشيخوخة المبكرة، ويضعفان الأعصاب. يمكن اعتبار الصلوات الخمس فترات راحة من هموم الدنيا للجسم، لكن الجسم يحتاج إلى لحظات لا يكون فيها حتى في صلاة جسدية.
يحتاج الجسم والعقل إلى حالة استعداد وتأهب، وإلا أصبح العقل كطفل مدلل، تائهاً، متسكعاً، ومتمرداً. من يمتلك عقلاً متسكعاً أو متكرراً في التفكير يعاني من أحلام طويلة وممتدة. في الأحلام، الأحلام القصيرة هي الأكثر قيمة، والتي تحمل تعبيراً أو تأويلاً وتعكس الواقع، بينما الأحلام الطويلة هي مستنقع العقل والخيال، ونتيجة تيه العقل أثناء اليقظة، مما يحول الأحلام إلى أضغاث أحلام (أحلام مشوشة) بلا تعبير. تُستخدم الأحلام المشوشة في علم النفس لتشخيص نوع الاضطرابات النفسية للشخص.
ضعف الذاكرة والنسيان
قلت إن الجسم الذي يعتمد على غذاء متشابه وعادة استهلاك أطعمة متكررة يُضعف حساسية الجسم وإدراكه الحسي وذكاءه. غياب التنوع في النظام الغذائي، حتى للشباب، يُسبب النسيان، ويجعل الفرد كمن أصيب بإدمان الأدوية أو المشروبات الكحولية، حيث يتحول الطعام بالنسبة للجسم إلى نفايات.
إذا تُرك الماء في كيس بلاستيكي لفترة، فإنه يتسرب منه تدريجياً حتى يفرغ. الذاكرة البشرية تشبه ذلك الكيس، والمعلومات تشبه الماء. إذا تعرضت الذاكرة للتوتر، أو الصراعات الفكرية والنفسية، أو نقص التغذية، أو الأطعمة غير المناسبة، أو التدفق المفرط للظواهر السمعية والبصرية غير الملائمة، فإنها تُصاب بثقوب دقيقة تُفرّغ المعلومات والمحفوظات منها، مما يُسبب النسيان ومرض الزهايمر.
لا ينبغي للعلماء والمفكرين الانشغال بالمشكلات الحياتية التافهة والضغوط النفسية والتوترات غير المنضبطة، وإلا فقدوا جزءاً كبيراً من معارفهم ومهاراتهم، خاصة أن إصلاح الدماغ أصعب بكثير من إصلاح أو تحسين أعضاء الجسم الأخرى.
للعناية بالذاكرة، ينبغي تجنب مشاهدة كل فيلم أو سماع كل خبر، وتناول كل طعام، وتعريض النفس لكل ضغط أو توتر يُثقل الدماغ، وإلا أدى ذلك إلى موت خلايا الدماغ وفقدان المعلومات المرتبطة بها. معارف الإنسان متجذرة في دماغه وقلبه الجسدي وفي خلايا جسمه، فمع تساقط هذه الخلايا تتساقط المعارف المرتبطة بها، فيصاب الفرد بالنسيان لمعارفه السابقة.
التعددية والإكراه، كاستخراج الأسنان، تُسبب ضعف الذاكرة. السن نفسه يتضرر ولا يتجدد لأنه يتمتع بالصلابة والشدة والاستبداد، ويفتقر إلى مرونة الأعضاء الأخرى. ينبغي الحفاظ على الأسنان بالتدخل البشري قدر الإمكان حتى تسقط طبيعياً، لتجنب إلحاق الضرر بالذاكرة وتحللها.
قد يكون النسيان مؤشراً على عدم توازن مستويات السكر والملح في الجسم. من اختبارات الذكاء والحواس وضع أشياء مثل مفتاح أو قلم في مكان ما، ثم معرفة ما إذا كان الفرد يتذكر مكانه بعد ساعات أو أيام.
تثبيت الذاكرة يعتمد على جودة الحياة، والتغذية المناسبة، والنوم الكافي. الاختلال في النوم والتغذية يُضعف اليقظة والإدراك، ويؤدي إلى النسيان. كما سبق، فإن ضعف الذاكرة وانخفاضها ليس نتيجة الشيخوخة أو التقدم في العمر، بل ينجم عن النوم والتغذية غير المناسبين، وهو ما يصيب كبار السن أكثر، لكنه يهدد أيضاً الشباب الذين يعانون من سوء التغذية أو قلة النوم. كما قيل:
البيت من أساسه مهدوم، والخواجة يفكر في زخرفة الإيوان
الإفراط في تناول اللبن، وبخاصة اللبن مع الخيار، يُسبب ضعف الذاكرة وكثرة النسيان.
كذلك، في الأفراد العاديين، من يميل إلى التفكير والعقلانية ويمتلك إبداعاً في الفكر، تكون ذاكرته أضعف، بينما من يركز على الحفظ ويستثمر طاقته في المحفوظات، يضعف تفكيره وتُكبت مواهبه الأخرى. الفرد العادي عندما يركز على الحفظ والنقل، ينقص من عمق فهمه وتفكيره وقدرته على الإبداع والابتكار.
ينبغي استنباط الأحكام الشرعية مع مراعاة فهم الموضوع واستكشاف الحكمة. بعض الأحكام والتوصيات الشرعية التي كانت تُشجع بشدة في صدر الإسلام كانت مرتبطة بظروف الحياة في ذلك الوقت، وقد زال موضوعها الآن بشكل متخصص. من ذلك التوصية بحفظ القرآن الكريم، التي كانت تؤدي وظيفة الطباعة والنشر وترويج القرآن في ذلك الزمان. لم يكن الناس آنذاك يمتلكون مهارة القراءة والكتابة، ولا وسائل الكتابة الواسعة، لذا كان نقل القرآن يتم عبر الحفظ. اليوم، مع انتشار التعليم وتطور صناعة الطباعة والنشر، يمكن القول إن تلك التوصيات فقدت موضوعها، ولم يعد هناك أجر حتى لحفظ القرآن ذهنياً في الوضع الحالي، إذ تجاوز العلم معايير قياس الذاكرة، وأصبحت القراءة والكتابة متاحة للجميع. القرآن الكريم وُجد للفهم العميق والتعلم الدقيق، وليس للتعليم القائم على الحفظ. العقلانية المقيدة والمعتقدات التقليدية العادية وخمود الفكر والاستسلام هي من موانع الكمال.
قوة الذاكرة، وإن كانت جزءاً من الإبداع، وتشمل بناء المعرفة مع القدرة على الاستدلال والفهم السريع والدقيق للمفاهيم، إلا أن التركيز على الحفظ يقيد العقل بحفظ المعلومات، ومع التركيز على المحفوظات المحدودة، لا يستطيع الفرد التعلم أو خلق مواقف جديدة وأحكام مبتكرة، ويتجه نحو الاستهلاكية والتقليد في استخدام كلمات الآخرين وقراءتها بمعزل عن عالم المعاني واللغة، فيصبح مجرد ناقل للمعلومات، سطحياً، مهتماً بالكلمات، عاجزاً عن التعلم وبناء الهوية، وغير قادر على تفعيل الأجزاء الأخرى المرتبطة بالتعلم.
إدارة استهلاك السكر والملح
من الأسباب الرئيسية لضعف الذكاء وإدراك الحواس هي الجودة السيئة للسكر والملح المستخدمين في إنتاج الأغذية، وكمياتهما المرتفعة التي تُضاف لتحسين النكهة. يُسبب السكر تضخماً غير طبيعي، بينما يؤدي الملح إلى تكسير خلايا الدماغ أو حرقها. التحكم في كمية وجودة استهلاك السكر والملح يعزز الذكاء والحواس. وقد أثبتت الدراسات أن الاستهلاك المفرط للسكر والملح يرتبط بأضرار في الأداء الدماغي، والتحكم فيهما يساهم في تعزيز الصحة الإدراكية.
تقليل استهلاك السكر والملح واستبدالهما بالعسل والتوابل يمكن أن يحسن التمثيل الغذائي، ويعزز صحة القلب، ويقلل من ضغط الدم.
استخدام البخور
يمكن أن يساهم ترطيب البيئة في تعزيز الصحة العامة. استخدام البخور وترطيب البيئة يعزز الذاكرة والجهاز العصبي. في البيئات الجافة، إذا لم تُستخدم الأبخرة المناسبة، تضعف الذاكرة والأعصاب. بخور الخزامى أو الأوكالبتوس يمكن أن يكون فعالاً في تحسين التنفس، وتخفيف الصداع، وزيادة التركيز. وقد أثبتت الدراسات فوائد بخور الخزامى للتركيز، كما أن الأوكالبتوس يحسن التنفس. يعمل البخور على تحفيز المستقبلات الشمية، مما يحسن التنفس والتركيز.