الفصل السابع: الحوار، التسامح، وأمن الأديان
الفصل السابع: الحوار، التسامح، وأمن الأديان
الدين الحق منهج إلهي للتعبير عن الحقائق المتعالية عن الزمان والمكان، لا تقيدها شروط أو شكوك أو سياقات عالم الناسوت. الأديان، بقدر ما تحمل من حقائق، تظل حية بحياة تلك الحقائق الأبدية. بيان الحقيقة يُنسب إلى من أظهرها أولاً بعلمية وقابلية للنقل، وسجلها باسمه، فصار مرجعًا معترفًا به لتلك المعرفة. لذا، اختلاف أسماء الأديان لا يؤدي إلى اختلاف الحقائق، بل كل دين حق بمقدار ما يحمل من حقائق، والإيمان بالحق، أينما وجد، حكم العقل.
الأديان ومناشئها الأولى لا تعاني من اختلافات غير طبيعية، لكن أتباع الأنبياء، بصفتهم أوصياء الدين وفاعلين معرفيين، عندما يفشلون في إدراك وحدة الحقيقة بقراءات غير منهجية، يقعون في اختلاق الأساطير، والخرافات، والانقسامات المصطنعة، والتفرقة المفتعلة، والخصومة، والتعدي النفساني.
الحوار وتطوير الأديان
الحوار في الدين والتحقيق فيه يؤديان إلى نموه. توسع الدين وتطوره يتحققان بالحوار والبشارة، لا بالحرب والخصومة. السلام والسكينة العالميان ممكنان بحوار المفكرين والعقلاء وقادة الأديان، ولا سبيل آخر لتحقيق الأمن والسلام النسبي في عالم اليوم المليء بالتوتر والفوضى والمخاطر.
البحث عن الحق بداية الحوار، واحترام حق الحياة لجميع الأديان وأتباعها كأول الحقوق هو الأساس الضروري له. نقطة التفاهم والتوافق والسلام بين الأديان تكمن في تمتعها بالحقيقة النسبية، ووجود الحقيقة بينها، والبحث عن الحق بحكمة وتسامح وصبر لإقامة التواصل والتفاعل والحوار. يمكن ذلك إذا أُزيل التعصب الأعمى والإيمان المجرد من أتباع الأديان، وجُنّبوا التباهي والتكبر والاستعلاء بدعوى امتلاك الحقيقة كاملة، وأُدخلوا في فضاء الحكماء. البحث عن الحق والإنصاف يجعلان الفرد يقبل الصواب والصدق حتى من المنافسين، ويشكر إرشادهم ونصحهم.
المشتركات بين الأديان
أوسع نقطة اشتراك بين الأديان هي الله وقبول حكمة الأنبياء ومصدرهم الحكيم. الله والحكمة يمكنهما توحيد الأديان وجعلها متسقة ومتعايشة بسلام، ورفعها إلى مرتفعات كل دين على أساس التعقل والبحث عن الحق. على كل دين إحضار حكمائه ومحتوى عقلهم النوراني للحوار، والتوافق في فضاء علمي على حكمة الأديان ومحتواها العقلاني المدعوم بالدليل والبرهان، لتكون هذه المشتركات محور التبليغ الهادف للأديان.
إذا لم يُقبل تمتع الأديان بالحقيقة النسبية، واعتُبرت الأديان الأخرى باطلة كليًا، منسوخة، محرفة بالكامل، أو معادية لله، وأُنكر الله المشترك والدين الفطري والعقل النوراني والإلهام في صوره المتنوعة، فقد صدر الحكم النهائي غير القابل للنقاش، ولا يبقى أساس للحوار، بل يصبح النزاع والخصومة ضرورة بحكم بطلان الآخر.
وحده الحكيم الإلهي، المتمتع بمقام البسط والحكم الربوبي الحي، يستطيع إدارة حوار الأديان وتوجيهها نحو التفاهم والعقل الجمعي. مسار حوار الأديان وهاديه جاء في الآية الكريمة:
﴿يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: 7].
الإيمان، الذي يتمتع به كل دين، قوة أعمق وأقوى من الحب، ويولد غيرة دينية أشد. إذا لم تُحلل مقدمات الإيمان بحكمة وتسامح، فقد تؤدي إلى التكبر والتسلط والأحادية العقيمة والتعصب، بدلاً من التواضع والنبل والإنصاف، مانعة التناغم بين الأديان والحوار معها للتعلم واكتشاف الحق والثبات عليه. لكن الإيمان المبني على رؤية صحيحة يخلق اشتراكًا ومودة وولاية بين المؤمنين، لا انقطاعًا وفوضى.
مبادئ الحوار بين الأديان
لينمو الإيمان ويظهر حقيقته ويمنح نفسه الأمن أولاً، يحتاج إلى حوار وتفاعل سلمي مع الأديان المتجانسة، خاصة الإسلام والمسيحية من الأديان الإبراهيمية، لفهم أعمق وتأمين الأمن والسلامة. يجب على الدين حظر الحروب الدينية والعنف بكل أشكاله، واعتباره جريمة يُعاقب عليها، وتشكيل ثقافة وفرق عمل للحوار البناء لمنع النزاعات. إذا كان البشر يعيشون كجزر منفصلة سابقًا، فقد أصبح العالم اليوم مترابطًا بالاتصالات، وتكتسب الدول والثقافات والأديان معناها من التفاعل. حوار الأديان يستمد قوته من التواصل والتفاعل المفيد.
الاتصالات الواسعة سهلت معرفة الناس والباحثين بثقافات وأديان بعضهم، وإذا تجنب المتدينون التعصب وتحلوا بالتسامح حتى مع المخالفين أو الضالين، فإن عصر الاتصالات يوفر أرضية لتواصل بناء بين قادة الأديان وأتباع المذاهب، مما يؤدي إلى تفاهم وسلام نسبي بين الأمم والدول، وتظهر الأديان الفطرية بحرية. الحوار والتحقيق يرفعان من شأن الحضارات والأديان، بشرط ألا يعيق ذلك المستعمرون أو المنتفعون أو القوى المتسلطة المتضعضعة أو المزيفون المناهضون للدين، وأن تُكشف خدعهم، فيؤدي ذلك إلى تعامل سلمي بين أتباع الأديان الفطرية.
إذا اقترن نهج العقل التاريخي والتقرير المنصف للأديان بنهج الحكمة وقراءة عقلانية مقدسة، فإنه يهيئ لدراسة عقائد وشعائر وفلسفة وفقه وحقوق الأديان بعلمية وشمولية ونظرة منظومية، لتمييز الصحيح من الزائف والعلمي من غير العلمي. يمكن حينئذ تهيئة وحدة الأديان بمعنى اكتشاف الصواب والخطأ في كل دين عبر الالتزام بالحكم العلمي والقضاء البحثي والإنصاف، ودعوة الجميع إلى المشتركات العلمية المقبولة والاعتدال في السلوك والاحترام المتبادل بناءً على المشتركات.
تواصل الأديان الحية وحوارها حول المشتركات الدنيا وتداخل العقائد المتكافئة يؤدي إلى التفاهم والانسجام والتفاعل البناء.
أساس الحوار البناء بين الأديان يكمن في دراسة ومقارنة الروايات المشتركة والعقائد المتجانسة في النصوص المقدسة، وحفظ المصالح الجماعية لأتباع الأديان، وصون سلامة الناس كحاملين حقيقيين للدين. وإلا فإن الأديان الأحادية الرافضة للآخر ستدفع الناس إلى الحروب والإرهاب والموت. يجب قبول التنوع الديني ذي القبول الشعبي والعالمي في الحقوق المشتركة، وجعلها أساس الدين العالمي المشترك بين الأديان.
حوار الأديان يمكن أن يوحد أتباعها في مواجهة الكفر المنكر لله والجهاد العلمي لإزالة الشرك، إذ لا يمكن لدين أن يعيش إيمانه بحرية في فضاء الكفر.
في دراسة الأديان والحوار البيني، الحفاظ على القيم الأخلاقية العالية، خاصة النبل والإنصاف والحريات، وتجنب الانحراف والتعصب وفقدان الصدق، والابتعاد عن التحقير والتوبيخ والاستبداد والتسلط، ذو أهمية جوهرية.
في دراسات الأديان، الحوار عن الأنبياء الإلهيين والأئمة المعصومين يجب أن يكون باحترام وتوقير قدسيتهم. أدنى إساءة في الحوار تعتبر جريمة بموجب القوانين وتستوجب العقوبة. علاوة على ذلك، التحامل الشخصي ضد أوصياء الأديان والنوايا النفسانية ضدهم، بصفتهم ممثلي الدين ووجوه الإيمان الصادق، يضع المتحامل في صف الظالمين للدين، في جبهة الباطل والكفر، مشابهاً للدجالين ومزيفي الدين، متعرضاً لعواقب هذه الإساءة. من يعادي طريق الدين والتدين هو قاتل الدين والمتدينين، كما كان بعضهم قتلة الحكماء والأولياء الإلهيين.
الدين المزيف، حتى لو تظاهر بالحوار بين الأديان، سيكون له نهج متسلط ومناهض للأديان الأخرى بسبب تحيزاته غير المعرفية والسلبية والإساءة، مقدمًا روايات محرفة أو منحرفة عن تلك الأديان عن عمد أو إهمال. لذا، من المهم جدًا في الدراسات الدينية تجنب فخ التزييف الديني الجهنمي والمضلل.
في دراسة الأديان، لا ينبغي التحدث باسم دين واحد، بل يجب الوقوف فوق الأديان، بحرية مستقلة حتى من دين المرء، وبصفته كفيلاً وممثلاً لكل دين، دون تحيز أو انحياز لدين معين، أو تقيد به، في موقع قوة أعلى من جميع الأديان، بتفاعل سلمي ومنصف، في فضاء نقي مفعم بالصفاء والمحبة، بنية الوصول إلى الصدق والهداية. التحقيق الديني وفلسفة الدين لا يكونان باسم دين معين، إذ يؤدي ذلك إلى التحيز والأحادية، ويحول دون الإنصاف والبحث العلمي، فيصبح الباحث أسير دينه ويتبع إيمانه لا العلم. أوصياء الأديان، عبر وحدة وتفكير شبكي جمعي، وبخطاب يتسم بالتواضع والحكمة والمحبة، وتحويل الدين إلى علم، وتفاعل متسامح ومتعايش، دون تحامل أو نية هجوم، وبمحبة وإيثار، يمكنهم حل معضلات التدين في العصر الحاضر.
الحوار بين الأديان الإبراهيمية
يجب أن يبدأ حوار الأديان من الأديان الإبراهيمية الكبرى غير العرقية، أي الإسلام والمسيحية، بهدف التعايش السلمي لأتباع الأديان، مع التركيز على الله الإبراهيمي.
انسجام هذين الدينين الحيين في حوار علمي، بمتانة ودون دعوة أو تبليغ للذات، يمنح العالم السلام والأمن والحياة، ويمكنه إدارة سلوك الحكام والمؤسسات القوية والفرق الانفصالية. لكن التنافر وتهديد الأديان الأخرى والتسبب في الصراع بالأنانية يلقي بظلال الموت وانعدام الأمن وعبثية القوة وتسلط الحكام على العالم. إذا قبلت هذه الأديان بعضها رسميًا كأديان إلهية، يمكنها، بحوار بناء وتفاهم، وحفظ حقوق أتباعها وحرياتهم، ودفع فتن الاستعمار والحاقدين والمزيفين الطامحين، أن تؤسس لسلام عالمي نسبي.
أقل مساهمة في السلام العالمي ستكون لروسيا، التي لديها أقل إيمان ديني عالميًا، تليها إسرائيل ونفوذ الصهيونية في الأمم اليهودية، التي تملك أقرب تقارب مادي مع الثقافة الروسية. هذان كافيان لجعل خطط السلام العالمي مجرد أسطورة وشعار زائف. فهما يرتكبان في الميدان جرائم تجعل سوء سجل أعتى الديكتاتوريين سوء فهم بسيط. من ذلك تحركات الخصوم العدائيين لأي نظام أو دين مهيمن، الذين حتى لو عرضوا التوافق، فإنما لكسب الوقت للتآمر والتمكن من الجريمة وهدم النظام. لذا، في حوار الأديان، لا يمكن الوثوق بدين اليهودية، التي ترى نفسها عرقية، إلا إذا ظهر منهم فرد باحث عن الحق ومستقل فكريًا. لكن ظهور فرد في قوم متماسك في دنيويته ومتمسك باعتقاد استعلائي بأنهم أبناء الله المختارون، لن يكون له تأثير كافٍ، ولا يمكن لزهرة واحدة عاجزة عن القوة أن تحقق ربيع السلام والانسجام.
حوار الأديان الإبراهيمية على مستوى قادة الأديان، خاصة التفاهم بين العلماء الكبار والمنظرين المتجذرين في الإسلام والمسيحية، يمكن أن يؤدي إلى انسجام وتعايش سلمي وتخفيف التوترات في فضاء صادق ونقي، لا مجرد حوار بين أتباع عاديين أو أكاديميين بحتين، إذ لا يكتسب ذلك زخمًا ولا يرفع الخصومة الدينية.
القواسم المشتركة في الشرائع الإلهية
في المقارنة والدراسة البينية، يجب ملاحظة أن الأديان تشترك في جوهر ومبدأ، وتدعو إلى الله. لا اختلاف بينها، رغم أنها، بحسب المكان والزمان والظروف واقتضاءات شخصيات الأنبياء وأتباعهم، قد تنسخ حكمًا نادرًا. لكن نواميس الشرائع، التي تُحمل على ذات الموضوع دون تدخل العوامل العارضة المتغيرة، محفوظة في تعاليم الأديان غير المحرفة، بل مقبولة حتى من غير المتدينين والمنحرفين. البشر جميعًا ملزمون بالدين الإلهي ذي الأحكام الطبيعية الحقيقية، ومشتركون في التكاليف الأصلية، رغم اختلاف المحتوى والبنية بحسب كمال النبي والأزمان والأمم. فالظلم والكذب والذنوب الناموسية وتناول المشروبات الكحولية المسكرة محرمة ومذمومة عند كل الأنبياء. يقول القرآن الكريم:
﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ﴾ [هود: 113].
في جميع الأديان، بعد الإيمان بالله، يأتي الإيمان بالمعاد والقيامة، ثم النبوة، والكتب السماوية، وضرورة العمل الصالح والالتزام ببعض الشعائر. الطهارة البدنية ونوع من الاغتسال (وضوء أو غسل) والصلاة أو الصوم والامتناع عن بعض الأطعمة موجودة في كل الأديان. كذلك الزواج الشرعي وجواز الارتباط الزوجي حسب تقاليد القوم، إذ يعتبر الدين كل تقليد سائد زواجًا رسميًا، ويخرج القوم من مجرد العيش المشترك إلى التزامات حسب تلك التقاليد، فيتشكل الزواج الشرعي والقانوني.
محتوى الصلاة في الأديان السابقة كان شبيهًا بالترانيم، وفي الإسلام ارتقى هذا المحتوى، بحسب صبر النبي الأكرم وأمته، إلى عمق وتعقيد كبيرين.
لتحقيق التوافق والتفاعل السلمي الآمن بين الأديان، يجب البدء بالمقبولات المشتركة، وتفهم العقائد الأساسية المتجانسة والمشتركات القطعية، وجعل هذه المشتركات المدعومة بالدليل العلمي، بعيدًا عن الأنانية وأحادية أوصياء الأديان، أساس الحوار العلمي للتفاهم، واكتشاف روح الدين ومنهجه، والإيمان بهذا النهج الإلهي.