الفصل الثامن: ماهية التاريخ الديني وضرورة العقل التاريخي
الفصل الثامن: ماهية التاريخ الديني وضرورة العقل التاريخي
التاريخ، في مفهومه المطلق، هو التأريخ الزمني وتسجيل الأحداث الإنسانية الماضية، سواء كتابةً أو قولاً أو تصويرًا، بما يرتبط بالماضي. أما معرفة أحداث العصر الحاضر فتُسمى “التاريخ المعاصر”، لا “التاريخ” المطلق. التاريخ هو الوعي بأسباب وكيفيات الأحداث المتلاصقة، وتفسير ارتباطها، وفهم أحوال المجتمعات في العصور السابقة بناءً على وثائق وأدلة موثوقة، وإعادة بناء مراحل الأمم أو الشعوب التي أصبحت، كحقائق تاريخية، خاضعة لزمن مضى، وتحمل لمجتمع اليوم وهويته درجة معتبرة من الأهمية.
العقل التاريخي
كل حدث تاريخي يُفهم ويُفسر بإدراك معناه، والوصول إلى محتواه التاريخي، وتتبع جذوره، واكتشاف نقطة بدايته، ودراسة تطوره، وفحص جميع عناصره المترابطة، وفهم ضرورة ظهوره، وغايته ومقصده. تحليل الأحداث ومقارنة التاريخ، والأزمنة، والأحوال، وقرب أو بعد المؤرخ من الحدث، والنظر التاريخي مع مراعاة المسلمات التاريخية والعالم المعنوي وحياة وأحوال كل حدث، التي يكتشفها العقل التاريخي، تجعل روايات المؤرخين الفاقدين للالتزام الأخلاقي، أو المشغولين بوصف أو اختلاق أو تحرير قصص تاريخية، أو بحذف أو إخفاء الحقائق، أو الخاضعين لأسياد المال والقوة والتزييف، أو المتعصبين دينيًا أو قوميًا، أقرب إلى كشف الحقائق، وترفع نسبة احتمال صحتها.
رواية كل حدث تاريخي تتطلب تعقلاً تاريخيًا، خاصة بمقارنته مع الأدلة التاريخية والاكتشافات لكشف الروايات المتضاربة، المحرفة، المختلقة، أو الفاقدة لمنطق الفهم، والتعديلات المعكوسة. والأهم، احتمال أن يكون الحدث يحمل مواد تاريخية خفية عن ذهن المؤرخ أو المنظر المعاصر، فتصله بشكل مبتسر أو متحيز. العقل التاريخي يضع المؤرخ في موقع الاعتدال والحذر العقلي الحديث وتحليل التاريخ الراهن.
منهج الكتاب
هذا الكتاب، باستخدام العقل التاريخي، وبهدف تمييز الروايات الصحيحة من الفاسدة، درس وفحص بعض أهم الأحداث التاريخية المرتبطة بالأديان الكبرى، وبمنهج التدين عند الإيرانيين، وسوّى تحليلاته ونظرياته بناءً عليها، لتكون قريبة من حقيقة نافعة. خاصة أن المصادر الكتابية للتاريخ الديني والتأريخ الموثوق لدين المجوس الإيراني، الخالية من التعصب، الغضب، التحيز الشخصي، التوجيهات السياسية، أو التطرف وعدم الإنصاف، والمحافظة على الحياة العقلية والمنطقية للتاريخ، محدودة جدًا. كما استُخدمت الروايات الشفوية أو المنقولة سينةً بسينة في حالات نادرة.
التاريخ والمصادر الدينية وصلت إلينا غالبًا محصورة بشبكة ذهنية، منقطعة عن الحكمة الباطنية، محرومة من إلهام الحكماء والولاية الباطنية. هذا الكتاب، في هذا السياق، نُظم بتحليل عقلي وتفلسف حول روايات موثقة وشاملة، مستمدة من وثائق متاحة، خاصة النصوص المقدسة، ومرتبطة بحكمة وولاية باطنية، تم اختيارها وعينت بقصدية، مع إيلاء أهمية للبحث التاريخي العقلاني مع التدين الإلهي والولائي بمنهج متعدد التخصصات.
المقصود بالقصدية هو تمتع الرواية بأكبر قدر من المعلومات التاريخية المرتبطة ببنية الإشراق والحكمة، كما ورد في تعريف الدين. كُتب هذا الكتاب، خاصة، بدراسة نصوص الكتب المقدسة وفحص وثائقي لها. لذا، في الفصل التالي، سأتناول فحص بعض المصادر التاريخية ومصداقيتها بشكل مستقل، وأتناول أخرى ضمن المباحث حسب السياق.
حجية القرآن الكريم ونفع تاريخه
رواية القرآن الكريم عن الأديان، في معرفة الأديان المستندة إلى الله، تتمتع بمصداقية وثائقية وحجية نصية. الإيمان بالقرآن الكريم، مؤيد بحجيته من قبل الأئمة المعصومين على مدى 250 عامًا من حياتهم العصمية، جعله أصدق وثيقة تاريخية للاستخدام في عصر غياب المعرفة الولائية. بشكل عام، يجب قياس مصداقية النصوص المقدسة لكل دين والبيانات التاريخية في أهم الموضوعات بمعيار نص القرآن الكريم، وعرضها على آخر نص وحياني، ودراستها بمنهج بيني ومقارن.
منهج القرآن الكريم هو اختيار الأحداث التاريخية المهمة وأفضلها للرواية، لا تسجيل التاريخ لحظة بلحظة. يقول القرآن الكريم:
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ [يوسف: 3].
أمير المؤمنين، في الرسالة 31 من نهج البلاغة، للإمام الحسن، وبينما يؤكد على هذا المنهج القرآني في الرجوع إلى التاريخ، ويصرح بأنه اختار من الأحداث التاريخية ما هو صافٍ، وترك ما هو مظلم وغامض، اعتبر تحليل التاريخ نافعًا، وكتب:
أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، فَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ؛ بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذَلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ نَخِيلَهُ، وَتَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ، وَرَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ، وَأَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَأَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ وَمُقْتَبَلُ الدَّهْرِ، ذُو نِيَّةٍ سَلِيمَةٍ، وَنَفْسٍ صَافِيَةٍ.
معرفة سير الأوائل، والتشارك مع تجاربهم عبر التاريخ، تتحقق بتحليل علمي وتفكير فلسفي، واكتشاف القوانين العامة التي تحكم الأحداث الصادقة للماضين. هذه أمور جزئية لكنها جديرة بالاهتمام التاريخي، قادرة على الارتباط والتعميم والتوسع إلى الأحداث الحاضرة، وتدقق في التاريخ القانوني، والسنن التاريخية، وكيفية تكون التاريخ، خاصة الحضارات التاريخية، وتكون نافعة لمجتمع اليوم، إذا لم يكن الباحث التاريخي ملوثًا بالخوف أو الرياء أو الاستبداد المهيمن، وقادرًا على المقارنة واستخدام تجربة الماضين العينية ومشاهدتهم، ليقدم تحديثًا للتاريخ، ويبين أي حدث ضروري للاهتمام اليوم سيؤدي إلى نتائج أي واقعة تاريخية هامة.
الجبر التاريخي
المادية التاريخية، بمعنى التفسير المادي للتاريخ، تقول بالجبر التاريخي وعدَم نفع التاريخ. بحسب هذا الرأي، الجيل الحاضر وريث عادات وأخلاق وطباع المجتمعات المتسلسلة قبله، وأبناء اليوم، كما يرثون لون وسلالة وروحيات أسلافهم، يرثون بالضرورة عاداتهم وتقاليدهم وواجباتهم التاريخية غير القابلة للتغيير. لذا، معرفة التاريخ أمر قليل النفع، وفائدته الوحيدة هي إدراك الضرورات التاريخية والتساوق معها والسير في تيار نهر التاريخ. لكن نسيج المجتمع وتركيبته لا يمكن تغييرهما بإرادة البشر.
في الرد، نقول إن الضرورة قسمان: ضرورة مفروضة وقسرية لا دور للإنسان فيها سوى التسليم، وضرورة يشكلها الإنسان باختياره، ونشوؤها بيده، وهي، كسائر الأحداث الناسوتية، أمر اقتضائي وحر وخاضع لإرادة الإنسان. كترك شيء قابل للكسر، فبعد تركه يصبح الكسر ضروريًا، لكن الإنسان يمكنه منع هذه الضرورة بحفظه. تساوق الإنسان مع مسار التاريخ هو عين الاختيار الجماعي، من الضرورات القسم الثاني، التي تعترف بها المادية دون وعي.
علاوة على ذلك، الجبر التاريخي ينبع من الرؤية الكونية وقبول الله أو إنكاره. في النظام التوحيدي، الضرورات التاريخية هي السنن الإلهية الجارية بين الأمم، وهيمنتها اقتضائية، والإنسان له دور في نشوئها واختيار طريق السعادة أو الشقاء بحرية في نظام جماعي. يقول الله تعالى، في سياق التفكر والاتعاظ من النظام التاريخي القانوني والسنن الإلهية في السير، مع التذكير باختيار وإرادة الجماعات الاجتماعية:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11].
القانون والسنن التاريخية هي سنن إلهية لا تتغير، تسري اقتضاءً في كل عصر. لذا، التعقل في الأحداث التاريخية يؤدي إلى نفع معرفة السنن الإلهية والاتعاظ بها واستخلاصها في الحاضر. يقول القرآن الكريم:
﴿سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا﴾ [الفتح: 23].
المقصود بالاتعاظ هو الانتقال من ظاهر الأشياء إلى باطنها وحقيقتها، ومشاهدة الحقائق التي تحملها الظواهر المحيطة، وتنقلها إلى المتأمل الدقيق، لتمنحه التنوير، والبصيرة الباحثة عن الحق، والإبداع في حل المشكلات واكتشاف الحقيقة.
تزييف التاريخ
الاكتشافات والوثائق المستخرجة من المواقع الأثرية في حوزة دول قليلة. يُقال إن أكثر من ثلاثين ألف لوح طيني من كتابات بارسا (پرسپوليس) تم العثور عليها، معظمها محفوظ في أمريكا بجامعة شيكاغو، أو أن الفرنسيين، في كشوفات عام 1886م في عهد ناصر الدين شاه، نقلوا 327 صندوقًا من الآثار الإيرانية، بوزن حوالي 500 طن، عبر بوشهر إلى فرنسا. هذا غير ميثاق حمورابي، وتمثال الملكة نابيروسا البرونزي بوزن 1800 كيلوغرام يعود لثلاثة آلاف سنة، وآثار أخرى مجهولة، نقلها الفرنسيون خلال 32 عامًا من الكشف في موقع شوش الأثري.
لا يخلو مصدر تاريخي من الرقابة أو التزييف أو الرقابة الذاتية. تُعمم بيانات تتماشى مع مصالح الأسياد الدنيويين ومتطلبات أوصياء الدين المهيمنين. فاليهود، مثلاً، حرّفوا التاريخ مرارًا ليظهروا قومهم كشعب مختار من الله، ومنشأ جميع الأديان، متجاهلين الثقافة الإيرانية الواسعة التي تملك أقدم نص ديني تاريخيًا.
المصادر اليهودية (العبرية) حددت زمن زرادشت، بقصدية وتخطيط، حوالي 350 سنة قبل الميلاد، ووصفوه تلميذًا لدانيال النبي، ليربطوا بين زرادشت وأنبياء بني إسرائيل دينيًا لأهداف سياسية. بهذا الحيلة، قدموا موسى كأول نبي لله، وكتابهم كأقدم وأول كتاب إلهي وأصل الأديان. بينما موسى تاريخه مليء بالغموض، ولا يمكن التحدث عنه إلا بإيمان القرآن الكريم والمسيحية. نصوص العهد القديم ورواياتها تفتقر إلى المصداقية التاريخية. حسب المؤرخين، كُتبت هذه النصوص بعد كورش بسنوات، وبعض معتقدات اليهود الأساسية مستعارة من الزرادشتية، وتأثير المجوس الإيرانيين على العهد القديم واضح في حالات عديدة. الإيمان بالحياة بعد الموت، والجنة والنار، وظهور المنجي أو المسيح، من التشابهات بين اليهودية وتعاليم المجوس. الإيمان بالمعاد في القراءة المزداوية يشترك كثيرًا مع الأديان الإبراهيمية، خاصة اليهودية بعد فتح بابل، والمسيحية. لذا، تُعتبر تعاليم المجوس أم الأديان، إذ كانت معتقدات اليهود الأولية موجودة مسبقًا في دين المجوس الإيراني. اليهودية أيضًا أساس المسيحية ومنشؤها. بعض تعاليم دين المجوس الإيراني، حتى بعد آلاف السنين، لا تزال مؤثرة في الثقافة العامة للإيرانيين، وشكلت تقاليدهم حتى في القرى النائية، بل أثرت على العالم.
دين المجوس الإبراهيمي، الذي يُعتبر، وثائقيًا وتاريخيًا، أم الأديان وأصل الأديان الأخرى، أثر على تعاليم بوذا واليهود. تأثيره على المسيحيين كبير، بحيث لا يمكن فهم اليهودية والمسيحية بدقة دون فهم دين المجوس. اليهود، ليظهروا أنفسهم شعبًا مختارًا وأبناء الله ودينًا عرقيًا متفوقًا، والمسيحيون، في هجومهم الثقافي على دين المجوس، نسبوا تاريخ وروايات الشعب الإيراني إلى خرافات وأكاذيب، وحرفوا وعدلوا وعكسوا حكمته الملكية، ليمزقوا وحدة الشعب الإيراني وتفرده باختلاقات دينية متعددة. لكن، كما بقيت إيران الثقافية والدينية خالدة، ظلت هوية دين المجوس الفطري وحقيقة الحكماء دون تحريف، ويمكن اليوم، رغم التحريفات التاريخية، دراستهم كما كانوا في الكتب المقدسة ومصادر أخرى. القرآن الكريم يحوي روايات عديدة عن تحريفات اليهودية والمسيحية التاريخية.