حضرة الإنسان الكامل
حضرة الإنسان الكامل
يُعدُّ الإنسانُ الكاملُ، في تجلّيهِ الإلهيِّ الكاملِ، مظهرًا لمحبوبيّةٍ ذاتيّةٍ، إذ يتجلّى الحقُّ سبحانه فيهِ بتعيّنِ أحديّتِهِ، فيتّسعُ تكوينُهُ ليشملَ مراتبَ الطبعِ، والنفسِ، والقلبِ، والروحِ، والسّرِّ الذي يُمثّلُ فناءَ الأفعالِ، والخفاءِ الذي يُجسّدُ فناءَ الصفاتِ وحضورَ الواحديّةِ، والإخفاءِ الذي يُعبّرُ عن فناءِ الذاتِ وحضورِ الأحديّةِ، بل يتجاوزُ إلى مرتبةٍ فوقَ التجرّدِ منزّهةٍ عن التعيّنِ. وبجذبةٍ إلهيّةٍ ورؤيةٍ وعشقٍ وحضورٍ حقيقيٍّ وقربٍ، يُنقَلُ الإنسانُ الكاملُ من اللاهوتِ إلى الناسوتِ بتداخلٍ تامٍّ دونَ تخلّلٍ، ومن الناسوتِ إلى اللاهوتِ بتدلٍّ دونَ الحاجةِ إلى اجتيازِ مراتبَ ارتقائيّةٍ، على عكسِ الإنسانِ الطبيعيِّ الذي يتعيّنُ عليهِ سلوكُ مسارٍ ارتقائيٍّ من الناسوتِ والطبيعةِ ليبلغَ مقامَ القربِ.
تُمثّلُ الجذبةُ الإلهيّةُ سيادةَ وجهٍ خاصٍّ، وقربًا وريديًّا، وانقطاعَ أسبابِ التعيّنِ الظاهريِّ، ليظهرَ الوجهُ الحقّيُّ الأصيلُ، حيثُ يسري الحقُّ سبحانه بمعيّةٍ مباشرةٍ، متّحدًا بالعشقِ والوحدةِ.
يجمعُ الإنسانُ الإلهيُّ في الناسوتِ كافّةَ الحضراتِ، فينسجمُ الناسوتُ مع الصحةِ الدنيويّةِ، ويمتزجُ بسلطانِ الملكوتِ ولطافتِهِ، ويتّحدُ بحكمةِ العقولِ وربوبيّةِ حضرةِ اللاهوتِ. ومعَ ذلكَ، يبقى الناسوتُ في ذاتِهِ محدودًا بخصائصِهِ، كما يقتصرُ الملكوتُ على صفاتِهِ، ولا يمتلكُ الناسوتُ خصائصَ الملكوتِ أو العقولِ، ولا يحوزُ الملكوتُ صفاتِ الناسوتِ. غيرَ أنَّ هذه الحضراتِ تتداخلُ في التدبيرِ بصورةٍ مشاعيّةٍ.
يستندُ وجودُ مراتبِ الفناءِ الثلاثِ (الأفعاليِّ، والصفاتيِّ، والذاتيِّ) إلى أنَّ كلَّ ظاهرةٍ تمتلكُ وجهينِ: حقيقةَ ذاتٍ وتعيّنًا. ففي مرتبةِ الذاتِ، تتجلّى جميعُ الكمالاتِ، بينما في مرتبةِ التعيّنِ، يسودُ الظهورُ والبطونُ، فتنطوي بعضُ الكمالاتِ في الباطنِ وتستترُ. لذا، لا يتطابقُ إدراكُ التعيّنِ مع الذاتِ دومًا؛ لكنْ، كلَّما قلتْ القيودُ، ازدادَ انسجامُ التعيّنِ مع الذاتِ، حتى إذا زالَ التعيّنُ وفنيَ بأفعالِهِ وصفاتِهِ، تحقّقَ التطابقُ الكاملُ مع الحقيقةِ. يقولُ القرآنُ الكريمُ: {فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} {البقرة: ٦٤}.
يظلُّ الإنسانُ الإلهيُّ في سيرهِ النازلِ متأخّرًا عن الجبروتيّينَ والملكوتيّينَ ومرتبطًا بهم، لكنَّهُ في سيرهِ الصاعدِ يستطيعُ بلوغَ مقامِ الخاتميّةِ، فيصبحُ أشرفَ الظواهرِ، ويجعلُ كلَّ حضرةٍ وظاهرةٍ مظهرًا لهُ، وكلَّ الكمالاتِ تابعةً لهُ، بحيثُ تُقاسُ قيمتُها بمدى ولايتِهِ وقبولِها لهذا الحقِّ المتزايدِ. وعندئذٍ، تُصبحُ مراتبُ الحضراتِ والعوالمِ مراتبَ الإنسانِ ذاتِهِ.
يُمثّلُ الإنسانُ الإلهيُّ حقيقةً جامعةً، تتجلّى بظهورٍ كلّيٍّ في جميعِ العوالمِ الربوبيّةِ والخلقيّةِ. وفي تعيّنِ الأحديّةِ، يكونُ الإنسانُ الإلهيُّ الخاتميُّ مظهرًا للأحديّةِ. وهذا المقامُ العالي لا يُدركهُ الإنسانُ الماديُّ المقيَّدُ بثقلِ الجسدِ وغفلةِ الناسوتِ وحجبِهِ المتراكمةِ.
يمتلكُ الإنسانُ الإلهيُّ، المتمتّعُ بروحٍ إلهيّةٍ، بفضلِ جمعيّتِهِ ونفوذِهِ في العوالمِ، قدرةً على الارتباطِ والأنسِ والتعايشِ مع كلِّ ظاهرةٍ، سواءٌ كانتْ جمادًا، نباتًا، حيوانًا، إنسانًا، جنًّا، ملَكًا، أو ظواهرَ مجهولةً، في كلِّ ساحةٍ وحضرةٍ، سواءٌ في المنامِ أو اليقظةِ، مع إدراكِ أحوالِها. يستطيعُ متابعةَ ظاهرةٍ ما، والإحاطةَ بحياتِها وحضورِها، كما في معراجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وسيرِهِ الإسرائيِّ المذكورِ في القرآنِ الكريمِ، كما يمكنُهُ استحضارُ أيِّ ظاهرةٍ يريدُها إلى ساحتِهِ وحضرتِهِ بتنزيلٍ وتحويلٍ.
يُعدُّ استحضارُ الظواهرِ من ساحةٍ أخرى إلى محلِّ حضورِ الإنسانِ الإلهيِّ أصعبَ بكثيرٍ من رؤيتِها في محلِّها أو الحضورِ في ساحتِها. لذا، يتحقّقُ العشقُ والتعايشُ مع الظواهرِ عبرَ الرؤيةِ، أو الحضورِ عندَها، أو استحضارِها إلى ساحتِهِ.
يتمتّعُ الإنسانُ الروحيُّ، المتعايشُ مع كاملِ الكونِ وحضراتِ الخلقِ من ناسوتٍ، ومثالٍ، وملكوتٍ، وجبروتٍ، وحضرةِ الأسماءِ والصفاتِ، والأعيانِ الثابتةِ، والأحديّةِ اللاهوتيّةِ، بقدرةٍ على الارتباطِ بأيِّ ظاهرةٍ بمجرّدِ إرادتِهِ، نظرًا لكمالِهِ وجمعيّتِهِ. ومن ذلكَ، قدرةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم على التواصلِ مع الأنبياءِ السابقينَ، كما في قولهِ تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} {الزخرف: ٤٥}. فلو لم يكنْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم قدرةٌ على التعايشِ معهم، لما أُمرَ بالسؤالِ عنهم.
يتميّزُ مزاجُ الإنسانِ الكاملِ، المحبوبِ ذاتيًّا، بأعلى درجاتِ الاعتدالِ والكمالِ، فيظهرُ منذُ ولادتِهِ، بجذبةٍ إلهيّةٍ وتدلٍّ، مظهرًا لجميعِ الكمالاتِ، بل يبلغُ مقامَ الفناءِ الذاتيِّ، أو حتى مقامَ الذاتِ بلا تعيّنٍ. وبفضلِ الفيضِ الإلهيِّ الخاصِّ، الذي يُعدُّ أكملَ تعيّنٍ لتجلّي الأسماءِ الإلهيّةِ، يحظى الإنسانُ الإلهيُّ بأعلى درجاتِ الاعتدالِ العنصريِّ، فيُهيّئُ أكملَ مزاجٍ لتكوينِ نفسٍ مجرّدةٍ، وقلبٍ نورانيٍّ، وروحٍ فوقَ التجرّدِ في حضرةِ الناسوتِ. وعلى هذا الأساسِ، يستطيعُ، بسيرٍ محبوبيٍّ وتدلٍّ، إدراكَ جميعِ العلومِ والمعارفِ، والتمثّلاتِ الشفافةِ، والمشاهداتِ، وكلِّ تعيّنٍ.
يُعزى سرُّ دوامِ أجسادِ الكاملينَ إلى اعتدالِ مزاجِهم، لا إلى ارتباطِ النفسِ الدائمِ بالجسدِ. وهذا الاعتدالُ يجعلُ موتَهم لا يكونُ إلا بالقتلِ أو الشهادةِ. وفي الروايةِ عن أبي الصَّلْتِ عبدِ السلامِ بنِ صالحٍ الهرويِّ، قالَ: سمعتُ الرضا عليه السلام يقولَ: «واللهِ ما منّا إلا مقتولٌ شهيدٌ. فقيلَ لهُ: فمَن يقتلُكَ يا ابنَ رسولِ اللهِ؟ قالَ: شرُّ خلقِ اللهِ في زماني يقتلُني بالسمِّ ثمّ يدفنُني في دارٍ مضيّقةٍ وبلادِ غربةٍ. ألا فمَن زارني في غربتي كتبَ اللهُ عزَّ وجلَّ لهُ أجرَ مئةِ ألفِ شهيدٍ ومئةِ ألفِ صدّيقٍ ومئةِ ألفِ حاجٍّ ومعتمرٍ ومئةِ ألفِ مجاهدٍ، وحُشرَ في زمرتِنا، وجُعلَ في الدرجاتِ العُلى من الجنّةِ رفيقَنا».
ومعَ ذلكَ، يسلكُ جسدُ الإنسانِ الإلهيِّ مسارَ كمالِهِ الطبيعيِّ، فيتحقّقُ لهُ الارتقاءُ، وتجدُ مكوّناتُهُ تعايشًا وتناغمًا عبرَ التجزئةِ والتركيبِ. ففي نهايةِ المطافِ، يتحوّلُ هذا الجسدُ في مسارِ الارتقاءِ الفيزيائيِّ نحوَ التجرّدِ، فيتجزّأُ ويتكاملُ.
لا يتعارضُ جسدُ الإنسانِ الإلهيِّ مع الحضراتِ الصاعدةِ كحقيقتينِ متباينتينِ، بل يتحوّلُ هذا الجسدُ الفيزيائيُّ ذاتُهُ نحوَ التجرّدِ، فينتقلُ إلى نفسٍ مجرّدةٍ، وقلبٍ نوران sevgililer، وروحٍ فوقَ التجرّدِ. وإذا كانَ الإنسانُ الإلهيُّ محبوبًا ذاتيًّا، فإنَّ مقامَهُ البشريَّ الظاهريَّ في الناسوتِ يكونُ، منذُ الولادةِ، متّصلًا بساحتِهِ الأصليّةِ، أي حضرةِ الأحديّةِ الذاتيّةِ، بل يتعايشُ معها بقربٍ محبوبيٍّ، فيشملُ جميعَ مراتبِ الظواهرِ، ويُدركُها إراديًّا في صحيفةِ ذاتِهِ. وبهذا الاعتبارِ، يكونُ مظهرًا للاسمِ الشريفِ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} {الرحمن: ٢٩}، ومَن «لا يشغلُهُ شأنٌ عن شأنٍ».
في الناسوتِ، لا يقتصرُ إدراكُ الإنسانِ الإلهيِّ على حاسّةٍ واحدةٍ، بل تتّحدُ جميعُ أجزاءِ كالبتِهِ الجسمانيِّ بجمعيّةِ الحواسِّ، فتكونُ جامعةً لكلِّ الإدراكاتِ. ويُثيرُ هذا التوازنُ بينَ المعقولِ والمحسوسِ، وطبيعةِ هذه الجمعيّةِ، وإطلاقُ النورِ على جسدِ الإنسانِ الإلهيِّ، انتباهًا خاصًّا.
يمتلكُ الإنسانُ الإلهيُّ، إلى جانبِ عيشِهِ الناسوتيِّ الطبيعيِّ، قدرةً على الظهورِ بتمثّلاتٍ متنوّعةٍ. يقولُ ابنُ الفناري: «الإنسانُ الكاملُ، بحكمِ كونِهِ مظهرَ الاسمِ الجامعِ للهِ، يحظى بنصيبٍ وافرٍ من مقامِ المولى وسيّدِهِ. وبمجرّدِ تحقّقِهِ بمظهريّةِ الاسمِ الجامعِ، تصبحُ الروحانيّةُ لازمةً لهُ، فيظهرُ في تعيّناتٍ متعدّدةٍ دونَ تقيّدٍ أو انحصارٍ، وتنطبقُ هذه التعيّناتُ عليهِ بفضلِ اتحادِ عينِهِ. وكما أنَّ تعدّدَ التعيّناتِ يؤدّي إلى تعدّدِ الكاملِ، فإنَّ وحدةَ عينِهِ وحقيقتِهِ لا تستلزمُ القولَ بالتناسخِ. فمثلًا، يظهرُ جبريلُ وعزرائيلُ في لحظةٍ واحدةٍ في آلافِ المواضعِ بصورٍ متنوّعةٍ، وكلُّ تلكَ الصورِ قائمةٌ بهم، وكذلكَ أرواحُ الكاملينَ ونفوسُهم، على غرارِ الحقِّ سبحانه المتجلّي بوجوهِ تجلّياتٍ لا نهائيّةٍ».
وفي الروايةِ عن عبدِ الصمدِ بنِ عليٍّ، قالَ: دخلَ رجلٌ على عليِّ بنِ الحسينِ عليه السلام، فقالَ لهُ: مَن أنتَ؟ قالَ: أنا رجلٌ منجّمٌ قائفٌ عَرّافٌ. فنظرَ إليهِ، ثمّ قالَ: «هلْ أدلُّكَ على رجلٍ قد مرَّ، منذُ دخلتَ علينا، في أربعةَ عشرَ عالمًا، كلُّ عالمٍ أكبرُ من الدنيا ثلاثَ مراتٍ، لم يتحرّكْ من مكانٍ؟ قالَ: مَن هوَ؟ قالَ: أنا! وإنْ شئتَ أنبأتُكَ بما أكلتَ، وما ادّخرتَ في بيتِكَ».
يمتلكُ الإنسانُ الإلهيُّ قدرةً على الارتباطِ والتواصلِ والتّحدِ والتعايشِ مع الظواهرِ بصورٍ متنوّعةٍ في العوالمِ الملكيّةِ والملكوتيّةِ والجبروتيّةِ. فكما يستطيعُ في الناسوتِ الدخولَ إلى الحضراتِ الأخرى، يمكنُهُ من الحضراتِ الأخرى الحضورُ في الناسوتِ، بحسبِ قوّةِ نفسِهِ وارتقاءِ معرفتِهِ النظريّةِ وتمكّنِهِ العمليِّ.
يستطيعُ الإنسانُ الإلهيُّ التنقّلَ من الحضراتِ الأخرى إلى الناسوتِ، والعروجَ من الناسوتِ إلى العوالمِ الأخرى حتى ذاتِ الحقِّ سبحانه. ويُمكنُ للظواهرِ المقتدرةِ في كلِّ حضرةٍ النفاذُ إلى عوالمَ أخرى.
في الناسوتِ، يُمكنُ إقامةُ علاقةٍ وأنسٍ مع الحضراتِ الأخرى وظواهرِها وتجلّياتِها، وفقَ منهجٍ منطقيٍّ للأنسِ يُفضي إلى الرؤيةِ أو الحضورِ.
تُعدُّ الكتبُ والأفلامُ التي تتحدّثُ عن العوالمِ المتوازيةِ، وجذبِ طاقةِ الكونِ، والتأمّلِ، والسفرِ الكونيِّ، أو الرياضةِ، والإيذاءِ الذاتيِّ، وإجهادِ الجسدِ لتحريرِ النفسِ، والعبادةِ، والمراقبةِ، والتنويمِ المغناطيسيِّ، واستحضارِ الظواهرِ المعنويّةِ، فضلاً عن ترويجِ النشوةِ الناتجةِ عن سوءِ استخدامِ المخدّراتِ والموادِّ المهلوسةِ، التي تُعرفُ في بعضِ الأديانِ بالمخدّراتِ المقدّسةِ، محاولاتٍ بشريّةً لتصديقِ العوالمِ الماورائيّةِ وتأصيلِها عبرَ الروحانيّةِ بدلاً من الشريعةِ الصحيحةِ وإرشادِ الإنسانِ الإلهيِّ المتمتّعِ بسلطةِ الإرشادِ الربوبيِّ.
تكونُ شهوداتُ الإنسانِ الإلهيِّ أحيانًا ثقيلةً أو مشبعةً بمعانٍ ملكوتيّةٍ وجبروتيّةٍ، بل لاهوتيّةٍ، بحيثُ تتطلّبُ ضبطًا لمنعِ ظهورِ مشاهداتٍ غيرِ متوقّعةٍ.
يحتضنُ الإنسانُ الإلهيُّ، في صورةِ محبوبيّتِهِ الذاتيّةِ، جميعَ الحضراتِ في نطاقِ شهودِهِ وحضورِهِ المتلاصقِ، حتى إنَّهُ يحتاجُ إلى عواملَ تهبطُ بروحِهِ العاليةِ إلى كالبتِهِ الناسوتيِّ، كالأنسِ بنساءٍ بسطاءَ أو خشناتٍ، أو التعلّقِ بالطيورِ، وإلا فإنَّ ثقلَ كثرةِ الآگاهي والشهودِ وحضورِ الحضراتِ الأخرى قد يُوقِعُهُ في احتكاكٍ وانحدارٍ يُذهِبُ الاستواءَ والتوازنَ. وهذا على عكسِ الإنسانِ الماديِّ الذي لا يسمعُ حتى أخبارَ هذه الآگاهي.
تتمثّلُ علامةُ الكمالِ الإلهيِّ في قدرةِ الإنسانِ على التعايشِ مع كلِّ ظاهرةٍ في أيِّ ساحةٍ، بفضلِ التجاذبِ وقوّةِ اللطفِ. فمَن ادّعى الإلهيّةَ دونَ هذه القدرةِ، فقد يُشابهُ الزنديقَ.
يتمتّعُ الإنسانُ في الناسوتِ بحريّةِ الاختيارِ لينتقلَ بمنهجيّةٍ إلى أيِّ عالمٍ، ويجوبَ أيَّ حضرةٍ. لكنْ بعدَ الموتِ، تتقيّدُ هذه الحريّةُ بإدراكاتِهِ وأعمالِهِ الدنيويّةِ التي تتحوّلُ في الآخرةِ إلى معرفةٍ.
يتمُّ العروجُ إلى الحضراتِ غيرِ الناسوتيّةِ بمنهجيّةٍ تقومُ على الوحدةِ الباطنيّةِ، ويتحقّقُ بارتقاءِ العلمِ والآگاهي والعشقِ والأنسِ والطهارةِ والصفاءِ، عبرَ طريقِ أهلِ المحبّةِ، والصلاةِ، والتضرّعِ، والابتلاءِ، والإيثارِ، والخلوةِ، والظلمةِ، والاستجماعِ، وإرشادِ الأستاذِ، والابتعادِ عن سمومِ الشكِّ والتردّدِ، وامتلاكِ الصدقِ الكاملِ، والأنسِ بالمقابرِ، وأذكارٍ خاصّةٍ.
يتطلّبُ حضورُ كلِّ حضرةٍ وزيارةُ تعيّنٍ أو تجلٍّ ربوبيٍّ خاصٍّ في الناسوتِ جوهرَ الصفاءِ الباطنيِّ، والانسلاخَ من كدوراتِ الناسوتِ وعوارضِهِ، والأنسَ بالقرآنِ الكريمِ وفرازاتِهِ الاسميّةِ. فإذا بلغَ هذا الأنسُ مرتبةَ الشهودِ أو الحضورِ، أصبحَ معرفةً وعلمًا وآگاهيًا خالصًا.
مَن وجدَ ذاتَهُ في الناسوتِ، وارتقى إلى العوالمِ الأخرى، لا يواجهُ بعدَ الموتِ رؤىً غيرَ متوقّعةٍ، بل يجدُ نفسَهُ مألوفًا بمواطنِ الآخرةِ. أمّا مَن حملَ معهُ أوزارًا ثقيلةً، فإنَّهُ يُحرمُ حتى من رؤيةِ ذاتِهِ، فضلاً عن مشاهدةِ الحضراتِ والعوالمِ فوقَ الناسوتيّةِ.
في منهجيّةِ شهودِ الإنسانِ الماديِّ، ومراعاةِ مراتبِهِ التدريجيّةِ، يُلاحظُ أنَّ النابغينَ، بعدَ الإنسانِ الإلهيِّ، يتمتّعونَ بقدرةٍ أسرعَ على الارتباطِ العقليِّ والذهنيِّ بالحضراتِ الأخرى. كما يمتلكُ المجانينُ والأطفالُ، عبرَ الخيالِ والتمثّلِ، قدرةً على رؤيةِ الظواهرِ الفيزيائيّةِ الرقيقةِ والمثالِ الناسوتيِّ والماديِّ والارتباطِ بها.
يختبرُ بعضُ الأفرادِ تجاربَ قريبةً من الموتِ دونَ الوصولِ إلى الموتِ الحتميِّ، فيتصلونَ برؤىً في خيالِهم المتّصلِ، دونَ الخروجِ من ذواتِهم، فيحصلونَ على آگاهي ومشاهداتٍ من جنسِ المادّةِ في خيالِهم المتّصلِ أو في الخيالِ المنفصلِ الناسوتيِّ. وهذه الرؤى، المرتبطةُ بالآگاهي الدماغيّةِ والقلبيّةِ، لا يستطيعُ العلمُ الطبيُّ الحاليُّ، بأدواتِهِ الصناعيّةِ، إدراكَ علاماتِها الحيويّةِ بدقّةٍ، فيعتبرُ فقدانَ العلاماتِ الحيويّةِ وقابليّةَ العودةِ دليلًا على الموتِ. لكنْ، لا ينبغي خلطُ هذه التجربةِ مع الموتِ الحقيقيِّ والحضورِ في عالمِ البرزخِ، بمعنى المثالِ المنفصلِ الملكوتيِّ الصاعدِ والارتقائيِّ.
يُمثّلُ نوعٌ آخرُ من الموتِ المؤقّتِ وتجربةِ القربِ من الموتِ اتصالاً بعالمِ المثالِ المنفصلِ الناسوتيِّ (لا البرزخِ المثاليِّ المعاديِّ)، عبرَ تمثيلٍ متّسقٍ للخيالِ المتّصلِ، بحسبِ درجةِ الصفاءِ أو الكدورةِ الطبيعيّةِ، وقوّةِ الذاكرةِ أو ضعفِها، وسيُناقشُ ذلكَ لاحقًا في سياقِ الرجعةِ.