منشأ النفس
منشأ النفس
يذهبُ بعضُ المحدّثينَ والمتكلّمينَ والفلاسفةِ المشّائيينَ والحكماءِ الإشراقيينَ إلى أنَّ الروحَ (النفسَ) الإنسانيّةَ أزليّةٌ وأبديّةٌ، واستندوا في إثباتِ ذلكَ إلى أدلّةٍ منقولةٍ وعقليّةٍ. ومن جملةِ هذه الأدلّةِ الاستنادُ إلى الحديثِ النبويِّ الشريفِ: «الأرواحُ جنودٌ مجنّدةٌ، فما تعارفَ منها ائتلفَ، وما تناكرَ منها اختلفَ».
تُشيرُ هذه الروايةُ إلى أنَّ الأرواحَ كجنودٍ مجموعةٍ، فمنها ما يألفُ بعضُها بعضًا، ومنها ما يتنافرُ، فتتّحدُ التي تعارفَتْ، وتفترقُ التي تناكرتْ. يظهرُ الحديثُ أنَّ بعضَ الأرواحِ تتآلفُ، وبعضَها يتنافرُ، غيرَ أنَّهُ لا يدلُّ صراحةً على خلقِها قبلَ خلقِ عالمِ الناسوتِ والبدنِ الماديِّ.
ينتقلُ هذا التآلفُ أو التنافرُ الباطنيُّ السابقُ عبرَ التواصلِ البصريِّ، إذْ تُدركُ العيونُ المعارفَ الأساسيّةَ والضروريّةَ من الظواهرِ في النظرةِ الأولى. وبحلِّ هذه الإدراكاتِ البصريّةِ، تُصنَّفُ كلُّ ظاهرةٍ إمَّا كمألوفةٍ موافقةٍ، متّسقةٍ مع الباطنِ، أو كمنافرةٍ، غيرِ سارّةٍ، وغيرِ متّسقةٍ، لا تمتلكُ طباعًا متماثلةً أو متناغمةً مع الطباعِ النورانيّةِ أو الخلقةِ الناريّةِ للنفسِ.
يتحدّثُ الحديثُ عن مبدأ التآلفِ والجذبِ، وهوَ التآلفُ العلميُّ على الأقلِّ في عالمِ المعاني والأسماءِ والصفاتِ الإلهيّةِ، أيْ تجمّعُ الذرّاتِ وائتلافُها في عالمِ الأعيانِ الثابتةِ. فلا يُتصوَّرُ ائتلافٌ أو تنافرٌ دونَ تعيّنٍ سابقٍ. يَسودُ مبدأُ التآلفِ نظامَ الظهورِ بأسرِهِ، حتى إنَّ البدنَ الماديَّ لظاهرةٍ ما إمَّا يتناسبُ ويتآلفُ مع بدنٍ آخرَ بتآلفٍ سلميٍّ، أو يكونُ منفصلًا عنهُ، بعيدًا، في حالةِ تنافرٍ وتضادٍّ. ومن تناسبِ الجلوسِ الماديِّ، يُمكنُ استنباطُ الصفاتِ النفسيّةِ وكيفيّةِ التآلفِ بينَ الظواهرِ. فالإنسانُ الذي لا يراعي مبدأَ التآلفِ في حياتِهِ، ويصاحبُ باختيارٍ سيّءٍ ظواهرَ مضادّةً لهُ، خطرةً ومؤذيةً، يقعُ في معاناةِ الناسوتِ ومشقّتِهِ. فيُضيّعُ عمرَهُ وإمكاناتِهِ، ويتعرّضُ للضررِ والبلاءِ.
ومن الرواياتِ التي يُستندُ إليها لإثباتِ خلقِ النفسِ السابقِ، الحديثُ الآتي: «حدَّثَنا عبدُ اللهِ بنُ محمَّدٍ عن إبراهيمَ بنِ محمَّدٍ عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي هاشمٍ قالَ: حدَّثَني سَلامُ بنُ أبي عُمَيرٍ عن عُمارةَ قالَ: كنتُ جالسًا عندَ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السَّلامُ إذْ أقبلَ رجلٌ فسَلَّمَ عليهِ ثمَّ قالَ: يا أميرَ المؤمنينَ واللهِ إنِّي لأُحبُّكَ، فسألَهُ ثمَّ قالَ لهُ: إنَّ الأرواحَ خُلِقتْ قبلَ الأبدانِ بألفَيْ عامٍ، ثمَّ أُسكِنتِ الهواءَ، فما تعارفَ منها ثمَّ ائتلفَ هاهنا، وما تناكرَ منها ثمَّ اختلفَ هاهنا، وإنَّ روحي أنكرتْ روحَكَ».
روى عُمارةُ قائلًا: كنتُ جالسًا في حضرةِ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السلام، فأقبلَ رجلٌ، فسَلَّمَ عليهِ، وقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ، واللهِ إنِّي لأُحبُّكَ. فرفعَ أميرُ المؤمنينَ عليهِ السلام رأسَهُ غاضبًا، وقالَ لهُ: إنَّ الأرواحَ خُلِقتْ قبلَ الأبدانِ بألفَيْ عامٍ، وكانتْ متفاوتةً في التآلفِ والتوافقِ. فمن كانَ بينَها ألفةٌ في السابقِ، استمرَّتْ ألفتُهُم في الدنيا، ومن كانَ بينَها تنافرٌ، افترقوا في الدنيا، وإنَّ روحي تنكّرتْ لروحِكَ.
قد يكونُ الاستنادُ إلى هذه الروايةِ ذاتيًّا، إذ إنَّ “الألفَ واللامَ” في “الأرواحِ” و”الأبدانِ”، وهما بصيغةِ الجمعِ، تُفيدانِ العمومَ والجنسَ. وهذا يعني أنَّ الروايةَ قد تشملُ جميعَ الأرواحِ والأبدانِ، فيُشكّلُ ذلكَ إشكالًا في إثباتِ تقدّمِ كلِّ روحٍ على بدنِها، إذْ يخلو البدنُ الذي سيظهرُ، مثلًا، بعدَ ثلاثةِ آلافِ سنةٍ، الآنَ من روحٍ سابقةٍ. إلَّا أنَّهُ يُمكنُ أخذُ لسانِ الروايةِ على أنَّهُ تمثيليٌّ ورمزيٌّ، فيُعتبرُ كلُّ ألفِ سنةٍ مرتبةً وحضرةً. فيُؤوَّلُ الألفُ الأولُ بالحضرةِ العقليّةِ، والألفُ الثاني بالحضرةِ الملكوتيّةِ، مع امتدادِ هذا التأويلِ إلى عالمِ المثالِ.
تخلطُ بعضُ الأدلّةِ العقليّةِ التي استُندَ إليها لإثباتِ أزليّةِ الروحِ أو النفسِ بينَ أحكامِ التجردِ الروحيِّ وأحكامِ التعلّقِ النفسيِّ. فما هوَ أزليٌّ هوَ الروحُ التي لا تُعتبَرُ متعلّقةً بتدبيرِ البدنِ، بينما النفسُ، بحكمِ تعلّقِها وتدبيرِها للبدنِ، حادثةٌ.
كما أنَّ بعضَ الأدلّةِ العقليّةِ المزعومةِ إمَّا تقعُ في محذورِ التناسخِ وإعادةِ الخلقِ الباطلِ، أو تخلطُ بينَ أحكامِ قوسِ النزولِ وقوسِ الصعودِ.
حمَلَ بعضُ علماءِ مكتبِ التفكيكِ رواياتِ الطينةِ وعالمِ الذرِّ على التعيّنِ الذريِّ، معتبرينَ عالمَ الذرِّ عالمًا تتعيَّنُ فيهِ الروحُ قبلَ البدنِ، متعلّقةً بذرّةٍ تُشبهُ البدنَ الترابيَّ للإنسانِ. تواجهُ هذه النظريّةُ إشكالَ التناسخِ الباطلِ عقليًّا، إذ إنَّ البدنَ الذريَّ يختلفُ عن البدنِ الماديِّ، وليسَ الاختلافُ بينَهما محصورًا في الشروطِ مثل الصغرِ والكبرِ أو الأعراضِ والحدودِ.
رأى الشيخُ الأحسائيُّ أنَّ الطينةَ هيَ الجسدُ الهورقليائيُّ، واعتبرَ هذا الجسدَ ثانويًّا وحقيقيًّا للإنسانِ، غيرَ مكوَّنٍ من عناصرِ هذا العالمِ. لم يُفصّلْ الأحسائيُّ في معنى “هورقليا”، ولم يُبيّنْ أصلَها اللغويَّ أو دلالتَها أو مصداقَها، ولم يوضحْ سببَ معادلتِها مع الطينةِ الواردةِ في الرواياتِ.
حمَلَ بعضُهم هذه الرواياتِ على ظهورِ النفسِ الكليةِ في قوسِ النزولِ وعالمِ الأشباحِ (المثالِ)، معتبرينَ أنَّها تدلُّ على البدنِ البرزخيِّ للنفوسِ الجزئيّةِ في قوسِ النزولِ. غيرَ أنَّ نظريّةَ النفسِ الكليةِ تستندُ إلى الطبيعياتِ القديمةِ التي بطلتْ بفضلِ العلومِ التجريبيّةِ التي كشفتْ عن حركةِ الكواكبِ الطبيعيّةِ. فضلاً عن ذلكَ، لا مكانَ للنفسِ الكليةِ في النصوصِ الدينيّةِ، فهيَ ليستْ كالعرشِ، أو الكرسيِّ، أو اللوحِ، أو القلمِ، أو الحشرِ، أو الأعرافِ، أو غيرِها من المفاهيمِ المعنويّةِ التي وردتْ صراحةً في الشريعةِ. في الإيمانِ بالحضراتِ والعوالمِ وظواهرِها، لا يُعتمدُ إلَّا على الوحيِ الإلهيِّ والرواياتِ الصحيحةِ.
في نظريّةِ النفسِ الكليةِ الباطلةِ، تُدبّرُ هذه النفسُ الحضراتِ الدنيا وتتصرَّفُ فيها بواسطةِ الملائكةِ، التي تُعدُّ قواها. هذه الملائكةُ، بوصفِها صورًا متعلّقةً بالنسبِ الربانيِّ، تُحبُّ أفعالَها، وتُشكّلُ محلَّ تجلٍّ للأحديّةِ الجامعةِ بقدرِ تعيّنِها، فلا ترى أحدًا أعلى منها. ولعلَّ هذا هوَ سببُ اعتراضِها على خلقِ الخليفةِ الإلهيِّ المطلقِ، إذ إنَّ كلَّ اسمٍ، من حيثُ دلالتُهُ على الذاتِ، يتجلَّى فيهِ الذاتُ بأحديّتِها الجامعةِ وباسمِها الشاملِ، فتظهرُ فيهِ جميعُ الأسماءِ، وإنْ كانتْ تتميَّزُ بحسبِ الظهورِ والبطونِ. وفي بحثِ ولايةِ السيدةِ فاطمةَ الزهراءِ عليها السلام، سنتناولُ النفسَ الكليةَ بالتفصيلِ.
لا تختلفُ فكرةُ النفسِ الكليةِ، التي تُعدُّ النفوسُ الناطقةُ الجزئيّةُ تفاصيلَها، عن نظريّةِ العقلِ الكلّيِّ، الذي يُطلَقُ عليهِ أيضًا الروحُ الكلّيُّ، إلَّا من حيثُ التعلّقِ وعدمِ التعلّقِ بالبدنِ. وهذان الوصفانِ، أيْ التعلّقُ وعدمُ التعلّقِ، اللذانِ يقعانِ خارجَ حقيقتِهما، لا يُسبّبانِ اختلافًا جوهريًّا، بلْ يُؤدّيانِ إلى اختلافِ التسميةِ فقط بسببِ تفاوتِ الصفاتِ. ومع ذلكَ، سبقَ أنْ أشرنا إلى الروحِ الكلّيّةِ التي لها تكوينٌ وحقيقةٌ، بينما لا مجالَ لقبولِ النفسِ الكليةِ.
يذكرُ القرآنُ الكريمُ الذرَّ في الآيةِ الشريفةِ الآتيةِ، مشيرًا إلى العهدِ والميثاقِ الذي أُخذَ فيهِ: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} {الأعراف: ١٧٢}.
تتحدّثُ الآيةُ عن إدراكٍ شهوديٍّ ومظهرٍ تمثيليٍّ صِيغَ بأسلوبٍ رمزيٍّ. يقولُ القرآنُ الكريمُ في شأنِ اللغةِ التمثيليّةِ: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} {العنكبوت: ٤٣}. فمن يبلغُ هذا الشهودَ يرى هذه المظاهرَ مفصّلةً في صورةِ تمثّلٍ. لا تُشيرُ هذه التفسيراتُ إلى حقيقةِ عالمِ الذرِّ، ولا تحملُ دلالةً صريحةً على أنَّهُ مرتبةٌ من مراتبِ الانتقالِ إلى الناسوتِ.
إذا فُسِّرَ الذرُّ بوصفِهِ الوجهَ الحقّيَّ والمربوبَ وملكوتَ الأشياءِ، فإنَّ النقدَ الواردَ عليهِ هوَ أنَّ الجهةَ الحقيّةَ للأشياءِ هيَ جهةُ الوحدةِ، فلا يُمكنُ تفسيرُ الكثرةِ في عالمِ الذرِّ على هذا الأساسِ.
يبدو أنَّ رواياتِ الطينةِ والذرِّ تحملُ لغةً تمثيليّةً تُعبّرُ عن قوسِ النزولِ وعن الإدراكاتِ السابقةِ التي تتمتّعُ بها الظواهرُ النورانيّةُ، وسيأتي بيانُ كيفيّتِها لاحقًا. وقد بحثَ العلماءُ في هذه الرواياتِ بمناهجَ خاصّةٍ، وقد أوردَ عبدُ اللهِ شبَّرْ بعضَها في كتابِهِ “مصابيح الأنوار في حلّ مشكلات الأخبار”.
المقصودُ بالتمثّلِ هوَ ظهورُ الحقائقِ المجردةِ وبروزُها في القوةِ الخياليّةِ دونَ تنافٍ، أيْ أنَّ الحقيقةَ المجردةَ لا تتحوّلُ إلى شيءٍ آخرَ، ولا تُسبّبُ انقلابَ الذاتِ أو تناسخَ المثالِ، بلْ تظهرُ بصورٍ متنوّعةٍ في الخيالِ المتصلِ ضمنَ العقلِ الشهوديِّ، مع بقاءِ صورتِها الأصليّةِ على حقيقتِها. هذا الظهورُ ليسَ تناسخًا باطلاً. وهذا المبدأُ صحيحٌ في موضعِهِ، ويُعدُّ من القواعدِ المهمّةِ لفهمِ نصوصِ المعارفِ، وهوَ فعّالٌ في تفسيرِ كثيرٍ من الأمورِ. ومثالُ ذلكَ شفاعةُ أهلِ البيتِ عليهم السلام وحضورُهم عندَ المحتضَرِ.
سبقَ أنْ أشرنا إلى أنَّ عقلَ الإنسانِ، إلى جانبِ مرتبةِ الخيالِ المنفصلِ النازلِ، يستطيعُ، بحضورِهِ في مرتبةِ الخيالِ المنفصلِ الصاعدِ عبرَ الحواسِّ الباطنيّةِ والخيالِ المثاليِّ، وبسلامةِ التمثّلاتِ وصحّتِها، أنْ يبلغَ إدراكاتٍ معرفيّةً.
نظرية الحكمة المتعالية
يرى ملاصدرا أنَّ مقامَ الروحِ الإنسانيّةِ الكاملةِ يتحقَّقُ قبلَ البدنِ في عالمِ العقولِ المجردةِ والأنوارِ الإلهيّةِ. هذا العالمُ هوَ تجلٍّ عقليٌّ وصورةٌ علميّةٌ فعليّةٌ إلهيّةٌ، فانيةٌ في ذاتِ الحقِّ، باقيةٌ ببقائِهِ، لا تُعدُّ من ماسوى اللهِ، وتُشكّلُ باطنَ الأنواعِ الماديةِ وحقيقتَها، وعلَّتَها، ومدبِّرَها، بينما العالمُ الماديُّ ظلالُها وأشباحُها. لا تُلقي هذه الصورُ النورانيّةُ التفاتًا إلى ذواتِها، بلْ تَفنى في الحقِّ بعبوديّتِها التامّةِ، فلا تكونُ حقيقةُ وجودِها مغايرةً لحقيقةِ وجودِ اللهِ سبحانه. وبما أنَّ هذه الأرواحَ تُمثّلُ علمَ اللهِ وصفتَهُ، فإنَّها لا تستلزمُ تعدّدَ القدماءِ، ولا تُناقضُ استكمالَ الذاتِ الأحديّةِ.
تُعدُّ هذه الصورُ كلماتٍ إلهيّةً تامّةً، لا تنفدُ ولا تجفُّ، يَفيضُ من خلالِها الفيضُ الوجوديُّ والرحمةُ على الأجسادِ والجواهرِ الجسمانيّةِ. يقولُ القرآنُ الكريمُ: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} {الكهف: ١٠٩}.
يستندُ ملاصدرا في كتبِهِ المتعدّدةِ إلى أدلّةٍ كثيرةٍ لإثباتِ المُثُلِ الإلهيّةِ، غيرَ أنَّ هذه الأدلّةَ، كما أُشيرَ سابقًا، تَحملُ طابعًا فلسفيًّا، ولا تعتمدُ النفسُ في حدوثِها، ولا العقلُ في إدراكِها، على هذه المُثُلِ. ومن جملةِ هذه الأدلّةِ ما يُسمّيهِ بالحكمةِ المشرقيّةِ، حيثُ يرى أنَّ الصورةَ الطبيعيّةَ والفصلَ الأخيرَ لكلِّ ظاهرةٍ يُشكّلانِ كاملَ حقيقةِ تلكَ الظاهرةِ، فتكونُ فعلَ الفيّاضِ، وفرعَهُ، بينما تُعدُّ الفصولُ والأجناسُ الأخرى مُهيِّئةً لظهورِ الفصلِ الأخيرِ، فتُعدُّ المادةَ لقبولِهِ حتى يَفيضَ الفيضُ من المبدأِ إليها. وكما أنَّ الفصلَ الأخيرَ في عالمِ المادةِ بسيطٌ، ويُشكّلُ ذاتَ الأفرادِ الماديّةِ وحقيقتَها، فإنَّ فاعلَهُ، الذي تكونُ ذاتُهُ من عالمِ العقولِ بسيطةً وجامعةً لجميعِ كمالاتِ هذه الصورةِ، يكونُ، لخلوِّهِ من عوارضِ المادةِ، مجرّدًا، وظاهرةً عقليّةً، متّحدًا مع الفصلِ الأخيرِ، وعلَّةً لتحقّقِهِ. وعليهِ، تَسبقُ الأرواحُ الكليةُ والعقولُ القدسيّةُ عالمَ الطبيعةِ، بلْ تَسبقُ النفوسُ في الظهورِ.
لا يتعارضُ هذا الرأيُ مع قاعدةِ أنَّ النفسَ جسمانيّةُ الحدوثِ، روحانيّةُ البقاءِ والتعقّلِ، إذ إنَّ ما هوَ حادثٌ هوَ النفسُ الجزئيّةُ، لا الروحُ الكليّةُ. فوفقَ هذه القاعدةِ، تكونُ النفسُ في بدايةِ حدوثِها بالقوةِ إنسانًا، وفي حكمِ الطباعِ المنطبعةِ في المادةِ، فتحدثُ بحركةٍ جوهريّةٍ للجسمِ وقابليّتِهِ، وبفعلِ ظاهرةٍ مجرّدةٍ، حتى يبلغَ الجسمُ مرتبةً لا يكونُ كمالُها اللاحقُ كمالًا جسمانيًّا، بلْ كمالًا روحانيًّا، لا يحتاجُ للبقاءِ إلى البدنِ الماديِّ، فيستطيعُ، إلى جانبِ التجردِ البرزخيِّ، أنْ يبلغَ بإدراكاتِهِ العلميّةِ ووعيِهِ مرتبةَ التجردِ العقليِّ، ومقامَ ما فوقَ التجردِ، فيصيرَ عينَ وجودٍ ربطيٍّ مع الظواهرِ العقليّةِ وما فوقَ التجرّدِ.
نقد ملاشمسا الجيلاني
أشارَ الحكيمُ المتألّهُ المشّائيُّ ملاشمسا الجيلانيُّ، المعاصرُ لصدرا، في رسالةٍ إلى تناقضِ قاعدةِ الحدوثِ الجسمانيِّ للنفسِ مع ظهورِ رواياتٍ مثل: «إنَّ الأرواحَ خُلِقتْ قبلَ الأبدانِ بألفَيْ عامٍ»، ومع آراءِ العارفينَ. أجابَ ملاصدرا بأنَّ مقامَ الروحِ يختلفُ عن مقامِ النفسِ، فالروحُ خاصٌّ بالأنبياءِ والكاملينَ، باقٍ ببقاءِ اللهِ، بينما النفسُ تابعةٌ للطباعِ، وتخضعُ لحركةٍ جوهريّةٍ. وأشارَ إلى أنَّ أوّلَ مَن نالَ مقامَ الروحِ هوَ إبراهيمُ عليه السلام، فخلقَ اللهُ أرواحَ الكاملينَ من أوليائِهِ قبلَ أجسادِهم التي ظهرتْ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبينَ الزمنينِ ما يقربُ من ألفَيْ عامٍ.
أشارَ صدرا هنا إلى إبراهيمَ عليه السلام، فإنْ كانَ المرادُ من العقلِ الكلّيِّ الإسلامَ الحقيقيَّ، فإنَّ هذا التعبيرَ وردَ في قولِ إبراهيمَ عليه السلام: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} {البقرة: ١٢٨}، حيثُ بلغَ بفتحِ التوحيدِ الحقيقيِّ مقامَ الروحِ الكلّيِّ. غيرَ أنَّ آيةً أخرى تُشيرُ إلى أنَّ أوّلَ مسلمٍ هوَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} {الأنعام: ١٦٣}. وعليهِ، تكونُ أوّلُ روحٍ متعيَّنةٍ في عالمِ الأرواحِ هيَ الروحُ الكليةُ للنبيِّ الخاتمِ صلى الله عليه وسلم.
لم يُدرجْ صدرا هذا الجوابَ في كتبِهِ التحقيقيّةِ، بلْ تبنَّى رأيَ العارفينَ، كما وردَ في شرحِ “مصباح الأنس” لابنِ الفناري، حيثُ ذكرَ، بعدَ بيانِ توقّفِ تعيّنِ الروحِ الإنسانيّةِ على تحصيلِ المزاجِ الطبيعيِّ، قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ: «إنَّ الأرواحَ خُلِقتْ قبلَ الأبدانِ بألفَيْ عامٍ»، ونقلَ عن القونويِّ، خاصةً في بابِ النكاحاتِ، أنَّ وجودَ الأرواحِ يَسبقُ تعيّنَ عالمِ المثالِ، وعالمُ المثالِ يَسبقُ وجودَ الأجسامِ البسيطةِ، فضلاً عن الأجسادِ المركَّبةِ من العناصرِ. وللتوفيقِ بينَ القولينِ، قالَ: إنَّ التقدّمَ خاصٌّ بالأرواحِ الكليةِ، وإنَّ الأرواحَ العاليةَ، المسماةَ بالعقولِ، تتوسَّطُ في تعيّنِ النفوسِ الكليةِ، ثمَّ في تعيّنِ النفوسِ الجزئيةِ بحسبِ المزاجاتِ الطبيعيةِ. فتُعبَّرُ عن كلِّ مرتبةٍ من مراتبِ التقدّمِ بألفِ عامٍ، وهيَ إشارةٌ رمزيةٌ إلى شدّةِ التفاوتِ بينَ هذه المراتبِ. واللهُ أعلمُ.
يؤدّي هذا الرأيُ إلى تالٍ فاسدٍ يتمثّلُ في الجمعِ بينَ النقيضينِ، أيْ بينَ الروحِ الكليةِ والنفسِ الجزئيةِ، وبينَ حاجةِ النفسِ إلى البدنِ الماديِّ لتدبيرِهِ، واستقلالِ الروحِ عن المادةِ. ذلكَ أنَّ نفسيّةَ النفسِ تكمنُ في تعلّقِها بتدبيرِ البدنِ الجزئيِّ، بينما الروحُ، بوصفِها جوهرًا مجرّدًا، لا تحتاجُ إلى بدنٍ لتحقّقِ وجودِها. ولا يتوقّفُ حدوثُ النفسِ، ولا سيرُها التكامليُّ القائمُ على الإدراكاتِ العلميةِ والوعيِ، على عقلٍ فعّالٍ أو كائنٍ مجرّدٍ عقليٍّ. بلْ إنَّ النفسَ كائنٌ مستقلٌّ ذاتيًّا، تتحقّقُ بالحركةِ الجوهريةِ من القوةِ إلى الفعلِ، فتبلغُ مراتبَ كماليةٍ تجمعُ في بساطتِها وحدةً جامعةً لمقاماتِ الوعيِ المتعدّدةِ.
وفقَ التلقّي العرفانيِّ السائدِ، يظهرُ فيما وراءَ البدنِ حقيقتانِ مجرّدتانِ من المادةِ: الأولى الروحُ، والثانيةُ النفسُ. فالإنسانُ الكاملُ يمتلكُ روحًا جبروتيًّا تكونُ في طولِ النفسِ ومنشأَ حدوثِها، ونفسًا ملكوتيّةً تُعدُّ مرتبةً نازلةً من الروحِ، كما أنَّ بدنَهُ مرتبةٌ نازلةٌ من نفسِهِ. أمَّا الإنسانُ الطبيعيُّ، المنبثقُ من الطبيعةِ والمادةِ، فتَنشأُ نفسُهُ من الطبيعةِ، وتكونُ حادثةً جسمانيةً، متولّدةً من عالمِ الطبيعةِ. ومن ثمَّ، لا تمتلكُ النفوسُ الجزئيةُ وجودًا سابقًا أو كينونةً متقدّمةً، على عكسِ نفسِ الإنسانِ الكاملِ، التي تتمتّعُ بكمالٍ يُمكّنُها من خلقِ بدنِها الماديِّ. فتظهرُ هذه النفسُ من روحٍ منزّهةٍ عن المادةِ، من مبدأٍ عقليٍّ، بآثارٍ وأحكامٍ باطنيةٍ غيرِ متناهيةٍ.
أمَّا تقسيمُ الروحِ في العرفانِ، كما وردَ في “مصباح الأنس”، إلى روحٍ كلّيّةٍ وجزئيةٍ (نفسٍ)، مع افتراضِ كينونةٍ ناسوتيّةٍ سابقةٍ للروحِ الكلّيّةِ، التي لا ترتبطُ بالبدنِ الناسوتيِّ، وحدوثِ النفسِ الجزئيةِ من المادةِ وبعدَ البدنِ الناسوتيِّ، فلا يُحلُّ التناقضَ المذكورَ. إذْ يبقى إشكالُ ملاشمسا الجيلانيِّ قائمًا بقوّتِهِ، موجَّهًا إلى العرفانِ وفلسفةِ صدرا على حدٍّ سواءٍ. فالنفسُ، بحكمِ تعلّقِها بالبدنِ، لا يُمكنُ أنْ تكونَ سابقةً عليهِ في الوجودِ، بينما الروحُ الكلّيّةُ، بوصفِها مجرّدةً، لا تحتاجُ إلى بدنٍ لتحقّقِ كينونتِها. وهذا التمييزُ بينَ الروحِ والنفسِ، وإنْ كانَ مقبولًا في السياقِ العرفانيِّ، لا يزيلُ الإشكالَ الفلسفيَّ الذي أثارَهُ الجيلانيُّ، إذْ يظلُّ التساؤلُ حولَ كيفيّةِ التوفيقِ بينَ الحدوثِ الجسمانيِّ للنفسِ وبينَ الرواياتِ التي تُشيرُ إلى تقدّمِ الأرواحِ قائمًا.
ويُمكنُ القولُ إنَّ هذا الإشكالَ ينبعُ من اختلافِ المنظورينِ: الفلسفيِّ الذي يركّزُ على الحدوثِ الجسمانيِّ للنفسِ كنتيجةٍ للحركةِ الجوهريةِ، والعرفانيِّ الذي يُؤكّدُ على التقدّمِ الوجوديِّ للروحِ في مراتبَ عليا كالجبروتِ والملكوتِ. ففي حينِ يرى الفلاسفةُ، كملاصدرا، أنَّ النفسَ تتكوّنُ مع البدنِ وتتطوّرُ عبرَ الإدراكاتِ العلميةِ والوعيِ، يُشدّدُ العرفاءُ على أنَّ الأرواحَ الكلّيّةَ تسبقُ الأبدانَ في الوجودِ، كما تُشيرُ الرواياتُ مثل: «إنَّ الأرواحَ خُلِقتْ قبلَ الأبدانِ بألفَيْ عامٍ». وهذا الاختلافُ في المنظورِ يُبرزُ تعقيدَ المسألةِ، إذْ يتطلّبُ التوفيقُ بينَهما إعادةَ تأويلٍ للرواياتِ بما ينسجمُ مع الأسسِ الفلسفيةِ، أو توسيعَ الإطارِ الفلسفيِّ ليشملَ الدلالاتِ العرفانيةِ.
وفي ضوءِ هذا النقاشِ، يُمكنُ أنْ نستنتجَ أنَّ النفسَ الإنسانيةَ، سواءٌ كانتْ كلّيّةً أو جزئيّةً، تظلُّ مرتبطةً بمسارٍ تكامليٍّ يبدأُ من الناسوتِ ويمتدُّ إلى مراتبَ الملكوتِ والجبروتِ. فالإنسانُ، بما هوَ كائنٌ مركّبٌ من بدنٍ ونفسٍ وروحٍ، يتجاوزُ حدودَ المادةِ عبرَ وعيِهِ وإدراكاتِهِ، ليبلغَ مقاماتٍ نورانيةً تجمعُ بينَ الوحدةِ والكثرةِ، والحدوثِ والبقاءِ. وهكذا، تُشكّلُ هذه الرؤيةُ إطارًا جامعًا لفهمِ منشأِ النفسِ، يتجاوزُ الإشكالاتِ الفلسفيةِ والعرفانيةِ، ويُبرزُ التكاملَ بينَ الأبعادِ الماديةِ والباطنيةِ في الوجودِ الإنسانيِّ.
يتمتّعُ الإنسانُ الكاملُ، المُشارُ إليهِ عرفانيًّا بالإنسانِ الإلهيِّ، في سيرهِ عبرَ الحضراتِ نحوَ الناسوتِ، بخلفيّةٍ نورانيّةٍ تتجلَّى في نزولٍ علميٍّ. فيَبلغُ الطبيعةَ وذرّاتِ البدنِ الماديِّ. وفي الناسوتِ، تتحوّلُ طباعُ البدنِ الماديِّ، المؤلَّفِ من العناصرِ، إلى لطافةٍ عبرَ ارتقاءٍ تكامليٍّ. يُصاحبُ هذا الارتقاءَ نزولٌ علميٌّ نورانيٌّ يتلاقى مع الوعيِ والبدنِ. ثمَّ تتحوّلُ تلكَ العلومُ النازلةُ، عبرَ ارتقاءٍ أو تدلٍّ، إلى قلبٍ مجرَّدٍ، ثمَّ إلى روحٍ فائقةِ التجرّدِ. وبناءً عليهِ، لا يملكُ الإنسانُ إلَّا نفسًا واحدةً، وقلبًا واحدًا، وروحًا واحدةً في سيرهِ الارتقائيِّ. وليسَ الأمرُ كما لو أنَّهُ في التحوّلِ النورانيِّ يملكُ روحًا وقلبًا ونفسًا، وفي التحوّلِ الارتقائيِّ يملكُ نفسًا وقلبًا وروحًا أخرى. بلْ، وفقَ التفسيرِ الخاصِّ المُقدَّمِ، يتمتّعُ الإنسانُ الكاملُ، في حضراتِهِ الروحيّةِ والمثاليّةِ ضمنَ التحوّلِ النورانيِّ، بخلفيّةٍ ربوبيّةٍ نورانيّةٍ وعلميّةٍ.
كما أنَّ المُثُلَ الأفلاطونيّةَ، أي الأنماطَ العقليّةَ أو ما يُسمَّى الأربابَ الأنواعَ، ليستْ إلَّا وهمًا. ولا يُعدُّ عالمُ العقلِ النورانيِّ وعالمُ الملكوتِ المثاليِّ إلَّا من جملةِ الحضراتِ. فالروحُ كلّيّةٌ سعيّةٌ، والنفسُ جزئيّةٌ محضةٌ. أمَّا النفسُ الكلّيّةُ فهيَ افتراضٌ وهميٌّ، خالٍ من التكوّنِ والإبداعِ.
ومع ذلكَ، لا تُفضي الرواياتُ النورانيّةُ إلى القولِ بأنَّ الروحَ أو النفسَ الإنسانيّةَ كانتْ متعيّنةً قبلَ الناسوتِ تعيّنًا يجعلُها متعيّنةً في قوسِ الصعودِ نتيجةَ العملِ وتجلّي المكنوناتِ. فالنفسُ تتعلّقُ بالبدنِ عندَ اكتمالِها، ولا تُركَّبُ، بوصفِها جوهرًا مخلوقًا مكتملاً، مع البدنِ تركيبًا ميكانيكيًّا أو تجميعًا أو مجرّدَ مصاحبةٍ. ومع ذلكَ، يتمتّعُ الإنسانُ بخلفيّةٍ من الوعيِ والعلمِ والجاذبيّةِ والمحبّةِ، ويحملُ حقيقةً ربوبيّةً تتناسقُ مع نموِّ ذرّاتِ البدنِ الناسوتيّةِ وارتقائِها، عبرَ نزولٍ وتحوّلٍ. فالإنسانُ إمَّا أنْ يملكَ خلفيّةً فوقَ ناسوتيّةٍ نازلةً وفقَ المعنى المذكورِ، وإمَّا أنْ يكونَ خاليًا بالكليّةِ من خلفيّةٍ فوقَ ناسوتيّةٍ، مولودًا من الطبيعةِ، لا تتجاوزُ عناصرُهُ المادةَ. وهذا التنوّعُ الهائلُ في تجلّي الإنسانِ يجعلُ كلَّ فردٍ، وإنْ كانَ ابنَ الناسوتِ وذرّاتِهِ الماديّةِ المختلفةِ، إنسانًا متفرّدًا، بلا نظيرٍ، بمخٍّ متميّزٍ.
تتمتّعُ الذرّةُ الناسوتيّةُ، إذا ما تعايشتْ مع بدنِ الإنسانِ الكاملِ، في باطنِها، وبالتوازي مع ذاتِها، بتعيّنٍ علميٍّ، وسيرٍ في خلفيّتِها، وإدراكِ تجلّياتِها وتعيّناتِها المصاحبةِ. وتكونُ واعيةً بهذا السيرِ وبتلكَ الظواهرِ. ويدركُ الإنسانُ الكاملُ هبوطَهُ ونزولَهُ بعلمٍ ووعيٍ. فيتجلَّى هذا الباطنُ، المحتوي على العلمِ، مع تكوّنِ البدنِ في الناسوتِ. ومع تلاقي النفسِ أو إبداعِها، التي تتباينُ كيفيّتُها في كلِّ ظاهرةٍ، يرتقي الإنسانُ إلى غايةٍ واكتمالٍ يتناسبانِ مع مقامِ بدايتِهِ.
يستطيعُ الإنسانُ صاحبُ الخلفيّةِ، في هذا الناسوتِ ذاتِهِ، أنْ يرتبطَ بخلفيّتِهِ العلميّةِ وحضراتِهِ السابقةِ عبرَ تهذيبِ النفسِ والارتقاءِ إلى قلبٍ حكيمٍ. فإنْ لم يظهرْ وعيُهُ السابقُ، يمكنُهُ أنْ يتبيَّنَ مسارَهُ التحويليَّ ونقطةَ تكوّنِهِ، ويتوجَّهَ إلى تلكَ الحزمةِ النورانيّةِ والعلميّةِ السابقةِ، فيَعيها ويدركُها. أمَّا المحبوبونَ ذاتيًّا، فهم يتمتّعونَ بهذا الوعيِ أثناءَ النزولِ العلميِّ، ويعيشونَ تحوّلاتِهم بإدراكٍ شاملٍ، محيطينَ بجميعِ أبعادِ التحوّلِ. وبناءً عليهِ، تُعدُّ الخلقةُ النورانيّةُ للإنسانِ الكاملِ طباعًا من العلمِ والوعيِ الربوبيِّ، تتجلَّى في كلِّ حضرةٍ بمظهرٍ. وقد عبَّرتِ الرواياتُ عن هذا التلبّسِ الباطنيِّ بمصطلحاتٍ تمثيليّةٍ كالأرواحِ، والأظلةِ، والطينةِ، والنورِ. فمع تكوّنِ البدنِ الناسوتيِّ، وبالتوازي مع الوعيِ النازلِ حتى نقطةِ تلاقي البدنِ، يتمتّعُ الإنسانُ بتلكَ الإدراكاتِ.
ومع ما تقدَّمَ، لا يُفترضُ أنْ تُركَّبَ نفسٌ أو روحٌ مُسبقةُ الإبداعِ على البدنِ الجسمانيِّ أو تُجمَّعَ معهُ. بلْ يتمتّعُ الإنسانُ بخلفيّةٍ مجرَّدةٍ تُديرُ الذرّةَ الماديّةَ، وتنمّيها وتهذّبُها في سيرٍ ارتقائيٍّ، بينما تتحوّلُ خلفيّتُهُ العلميّةُ في سيرٍ نازلٍ. وعندَ تحقّقِ التناسبِ اللازمِ، تتلاقى نقطةُ الذرّاتِ الكثيرةِ، التي تُشكّلُ تعيّنَ الشخصيّةِ الإنسانيّةِ ووحدتَها الناسوتيّةَ. فيصبحُ الإنسانُ الكاملُ في الناسوتِ، عبرَ اتّحادِ المادةِ بالإدراكاتِ المجرَّدةِ، متمتّعًا بحياةٍ فائقةِ التجرّدِ عبرَ الارتقاءِ والصعودِ. يُنشئُ البدنُ، بفضلِ نزولِ علومٍ خاصّةٍ، وبالتوازي مع ارتقاءِ الذرّاتِ البسيطةِ والماديّةِ، شخصيّةً إنسانيّةً تتناسبُ مع أصلِها وجذرِها. وفي هذا الإنشاءِ الجديدِ، تكمنُ خلفيّتُهُ الباطنيّةُ العلميّةُ، وارتباطُهُ بالربِّ والحقيقةِ الأصليّةِ. ومن هذا الإنشاءِ، يتحوّلُ إلى مجرَّدٍ، ثمَّ إلى فائقِ التجرّدِ، في سيرٍ تدريجيٍّ ارتقائيٍّ، أو عبرَ تدلٍّ وجذبٍ فوريٍّ.
يُعدُّ الباطنُ العلميُّ، بما هوَ من سنخِ العلمِ، خيرًا محضًا. أمَّا الآثارُ الشائنةُ والشرورُ فتنبعُ من البدنِ الماديِّ في الناسوتِ، ومن المعلومِ الحادثِ الذي يتمتّعُ بالاختيارِ والإرادةِ والتضادِّ. غيرَ أنَّ الذرّاتِ الماديّةَ، والجيناتِ، والبدنَ الكاملَ، في وجهِهِ النورانيِّ النازلِ، والمحبوبِ ذاتيًّا، تتصرَّفُ باستقلالٍ ذاتيٍّ ونظامٍ آليٍّ، وبإدراكاتٍ موهوبةٍ، فتدفعُ كلَّ نجاسةٍ، ولا تتلوّثُ بالمعاصي والمحرّماتِ، فتحظى بالطهارةِ. تُبيّنُ الرواياتُ النورانيّةُ أنَّ الإنسانَ الكاملَ يملكُ خلفيّةً علميّةً ونزولًا واعيًا.
صحيحٌ أنَّ حضراتِ الروحِ والملكوتِ والمثالِ، بوصفِها عوالمَ، تسبقُ البدنَ الماديَّ للإنسانِ. لكنَّ هذه الحضراتِ لا تتصلُ مباشرةً بالنفسِ والقلبِ والروحِ الإنسانيّةِ، التي هيَ جسمانيّةُ الحدوثِ وروحانيّةُ البقاءِ والتعقّلِ. ولا ينبغي الخلطُ بينَ النفسِ الإنسانيّةِ في الناسوتِ وبينَ الظواهرِ المثاليّةِ والملكوتيّةِ والروحيّةِ.
يُعبّرُ القرآنُ الكريمُ عن تكوّنِ النفسِ المجرَّدةِ بمصطلحِ الإنشاءِ، وهوَ يتسقُ مع سيرٍ موازٍ لارتقاءِ البدنِ ونزولِ الوعيِ، ومع الإنشاءِ الجامعِ والمتميّزِ لهما. ولا ينبغي تفسيرُهُ بنزولِ نفسٍ أو روحٍ كاملةٍ تُركَّبُ مع البدنِ. يُبيّنُ القرآنُ الكريمُ سيرَ الخلقِ الطبيعيِّ للإنسانِ في قولهِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} {المؤمنون: ١٢-١٤}. فخلقَ اللهُ الإنسانَ من سلالةٍ من طينٍ، ثمَّ جعلَهُ نطفةً في قرارٍ مكينٍ، ثمَّ خلقَ النطفةَ علقةً، فخلقَ العلقةَ مضغةً، فخلقَ المضغةَ عظامًا، فكسا العظامَ لحمًا، ثمَّ أنشأهُ خلقًا آخرَ. فتباركَ اللهُ أحسنُ الخالقينَ.
تتمتّعُ مراحلُ نموِّ الإنسانِ وتكاملِهِ بشخصيّةٍ واحدةٍ وحقيقةٍ واحدةٍ. وليسَ الأمرُ كما لو أنَّ الإنسانَ يملكُ روحًا نازلةً وروحًا صاعدةً أخرى، أو أنَّ روحًا تنزلُ فتتصلُ بالبدنِ أو تصاحبهُ. بلْ، وفقَ مبدأِ التعايشِ والتناسبِ بينَ الظواهرِ، يبدأُ بدنُ الإنسانِ الكاملِ، بخلفيّتِهِ الجينيّةِ وسيرِهِ في المادةِ، منذُ آلافِ السنينِ، بتعبيرٍ تسامحيٍّ في ذكرِ الزمنِ، من نطفةٍ. وهذه الذرّةُ الماديّةُ، إذا ما ارتبطتْ بمصيرٍ فوقَ ناسوتيٍّ، تتمتّعُ بالتوازي مع علومٍ متناسبةٍ ووعيٍ سابقٍ. وهكذا، ترتقي الذرّةُ الناسوتيّةُ الطبيعيّةُ، وفقَ ما ذُكرَ من خصائصَ، لا على النحوِ الشائعِ بينَ المتقدّمينَ في افتراضِ نفسٍ سابقةٍ. فترتقي وتنمو وفقَ محتوى ذلكَ الوعيِ، حتى تتحقّقَ بينَهما وحدةٌ عاشقةٌ وارتباطٌ، كأنَّ البدنَ هوَ ذاتُ الإدراكاتِ، وهذه الإدراكاتُ هيَ ذاتُ البدنِ، فتُطبَّقُ أحكامُ أحدهما على الآخرِ.
يُعدُّ الإنسانُ الناسوتيُّ مادةً تملكُ خلفيّةً وموازاةً فوقَ ماديّةٍ. وهذه المادةُ ذاتُها، في سيرِها الصاعدِ، ومع لطافتِها وتلاقيها مع الوعيِ النازلِ، تصلُ إلى الذكاءِ، أو النبوغِ، أو العلومِ المفاجئةِ، أو التجرّدِ، أو التجرّدِ العالي، فتصبحُ حقيقةً وعينيّةً مع الوعيِ.
تُعدُّ الخلقةُ النورانيّةُ من سنخِ العلمِ والوعيِ الموازي والنازلِ مع البدنِ. وتُشكّلُ خلفيّةُ كلِّ فردٍ مدى إدراكاتِهِ التي ورثَها. ويتمتّعُ الإنسانُ الكاملُ بوعيٍ وحضورٍ لهذه الإدراكاتِ. فكلُّ فردٍ، بحسبِ قربِهِ ومحبّتِهِ وصفائِهِ وعشقِهِ ووحدتِهِ، ينتفعُ من العلمِ السابقِ أو يُحرمُ منهُ. والجهلُ والنسيانُ ليسا إلَّا بُعدًا عن الحقيقةِ، وضعفًا في تمييزِ الحقِّ، وزنگارًا على القلبِ، وفقدانًا لصفاءِ المرآةِ العقليّةِ والقلبيّةِ.
يُمكنُ اعتبارُ الروايةِ التاليةِ روايةً عن الإبداعِ النورانيِّ والتقديرِ النورانيِّ وسيرِ العلمِ ما قبلَ الناسوتيِّ: «أَحْمَدُ بْنُ إِدْرِيسَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الصَّغِيرِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْجَعْفَرِيِّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ إِذْ لا كَانَ، فَخَلَقَ الْكَانَ وَالْمَكَانَ، وَخَلَقَ نُورَ الْأَنْوَارِ الَّذِي نُوِّرَتْ مِنْهُ الْأَنْوَارُ، وَأَجْرَى فِيهِ مِنْ نُورِهِ الَّذِي نُوِّرَتْ مِنْهُ الْأَنْوَارُ، وَهُوَ النُّورُ الَّذِي خَلَقَ مِنْهُ مُحَمَّدًا وَعَلِيًّا، فَلَمْ يَزَالا نُورَيْنِ أَوَّلَيْنِ إِذْ لا شَيْءَ كُوِّنَ قَبْلَهُمَا، فَلَمْ يَزَالا يَجْرِيَانِ طَاهِرَيْنِ مُطَهَّرَيْنِ فِي الْأَصْلابِ الطَّاهِرَةِ حَتَّى افْتَرَقَا فِي أَطْهَرِ طَاهِرَيْنِ فِي عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلامُ». قالَ الإمامُ الصادقُ عليه السلام: كانَ اللهُ إذْ لم يكنْ شيءٌ، فخلقَ الكونَ والمكانَ، وأبدعَ نورَ الأنوارِ الذي استنارتْ منهُ الأنوارُ، وأجرى فيهِ من نورِهِ الذي استنارتْ منهُ الأنوارُ، وهوَ النورُ الذي خلقَ منهُ محمّدًا وعليًّا عليهما السلام. فكانا نورَيْنِ أوَّلَيْنِ، إذْ لم يُكوَّنْ شيءٌ قبلهما، ولم يَزَالا جاريَيْنِ طاهرَيْنِ مطهَّرَيْنِ في الأصلابِ الطاهرةِ حتى افترقا في أطهرِ طاهرَيْنِ، عبدِ اللهِ وأبي طالبٍ عليهما السلام.
يُنسجمُ نورُ الأنوارِ في هذه الروايةِ، إذا ما قُرنَ بالتعيّناتِ، مع مقامِ الأحديّةِ. ويُبيّنُ تعبيرُ «وَأَجْرَى فِيهِ مِنْ نُورِهِ الَّذِي نُوِّرَتْ مِنْهُ الْأَنْوَارُ» سريانَ الأنوارِ وتجلّيَها. يتمُّ هذا الجريانُ والتجلّي في جميعِ الحضراتِ بصورةِ تحوّلٍ باطنيٍّ وعلميٍّ، حتى يظهرَ في الناسوتِ. ومع التدلّي أو الارتقاءِ، يأنسُ الإنسانُ بعالمِ المثالِ أو العقولِ والأرواحِ النازلةِ أو الصاعدةِ، ويحظى بالشهودِ والحضورِ والقربِ والانتفاعِ.
يُرادُ بتجلّي جميعِ الأنوارِ من نورِ الأنوارِ أنَّ المظهرَ الأدنى هوَ شعاعُ المظهرِ الأعلى، وينطبعُ فيهِ كالصورةِ في المرآةِ، لا أنَّ الروحَ العظمى تُشكّلُ طباعًا موحدةً لجميعِ مراتبِ المظاهرِ على نحوٍ متساوٍ.
تتعدّدُ استعمالاتُ لفظِ «النفسِ» في القرآنِ الكريمِ، وقد بلغتْ نحوَ ثلاثمئةِ موضعٍ. ينسبُ القرآنُ النفسَ إلى اللهِ، كما ينسبُها إلى الإنسانِ والأشياءِ الطبيعيّةِ والماديّةِ. وتُشيرُ الصفاتُ المذكورةُ للنفسِ في القرآنِ إلى تفاوتِ النفوسِ، فلا يتساوى جميعُ من يُوصفُ بالنفسِ، ولا يملكُ كلُّ ظاهرةٍ نفسًا واحدةً. يقولُ القرآنُ الكريمُ: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} {آل عمران: ٣٠}. ففي اليومِ الذي تجدُ فيهِ كلُّ نفسٍ ما عملتْ من خيرٍ حاضرًا، وما عملتْ من سوءٍ، تتمنّى لو أنَّ بينَها وبينَهُ أمدًا بعيدًا. ويحذّرُكمُ اللهُ نفسَهُ، واللهُ رؤوفٌ بالعبادِ.
تُطلَقُ النفسُ على مرتبةِ العقلِ والروحِ. وتملكُ النفسُ الإنسانيّةُ مراتبَ من الحسِّ إلى الروحِ. فالنفسُ الحسيّةُ تخضعُ للوفاةِ والموتِ، الذي يتكرّرُ في كلِّ نومٍ، وسيأتي لاحقًا بيانُ كيفيّتِهِ في بحثِ الرجعةِ. أمَّا النفسُ العقليّةُ أو الروحيّةُ فلا تعتريها الوفاةُ أو الموتُ. وتختلفُ النفسُ الأخرويّةُ الباقيةُ عن النفسِ الحسيّةِ الماديّةِ، وتتميّزُ إدراكاتُها عن الحواسِّ المعروفةِ حاليًا، التي قيلَ إنَّها تصلُ إلى عشرينَ حسًّا. فمع وفاةِ النفسِ الحسيّةِ (الموتِ)، تتسعُ إدراكاتُ النفسِ الإنسانيّةِ ووعيُها، وتصبحُ أقوى وأشدُّ.
لا يملكُ الإنسانُ حسًّا إدراكيًّا تجريبيًّا واحدًا، كما لا يملكُ نفسًا واحدةً. بلْ يملكُ نفوسًا متباينةً، تتحرّكُ في الناسوتِ معًا، بشدّةٍ وضعفٍ، وفقَ التعايشِ والمصاحبةِ، إمَّا ظاهرةً أو كامنةً. وفي الناسوتِ، يُمكنُ تنميةُ أنواعٍ مختلفةٍ من النفوسِ، وجعلُها واعيةً ومحطَّ انتباهٍ، والانتفاعُ بها. فكثيرونَ، مع الموتِ، يكتشفونَ أنواعًا متعدّدةً من النفوسِ المثاليّةِ، ثمَّ، مع الدخولِ إلى البرزخِ المثاليِّ، يكتشفونَ نفوسَهم البرزخيّةَ، التي لم يكونوا يدركونَها أو يشعرونَ بها في الناسوتِ. ومع هذه النفوسِ، تتفتّحُ إدراكاتُ كلِّ فردٍ، وتصبحُ نفسُهُ الواعيةُ أكثرَ نشاطًا وتفتّحًا. فكلَّما كانتِ النفوسُ أبسطَ وأوسعَ، ازدادَ الوعيُ والقوةُ، فيحظى العقلُ في الناسوتِ، والشخصيّةُ النفسيّةُ في المثالِ، بمنفعةٍ أعلى.
يؤدّي الانشغالُ بالحواسِّ الظاهرةِ والمادةِ والفيزياءِ في الدنيا إلى ركودِ الإدراكاتِ النفسيّةِ والباطنيّةِ. فالمادةُ تمنعُ جمعَ الوعيِ، إلَّا إذا استطاعَ الإنسانُ الرجوعَ إلى إحدى نفوسِهِ والإدراكُ من خلالِها. فمن يتنبَّهُ إلى بلاءٍ أو حادثةٍ شائنةٍ قبلَ وقوعِها، فيشعرُ بالقلقِ والاضطرابِ، يكونُ قد انتفعَ من إحدى عقولِهِ، التي منحتْهُ وعيًا ذاتيًا.
تناولَ العلّامةُ حسن زاده آملي، في كتابِهِ «عيون مسائل النفس» وفي «فصّ حكمة عصمتيّة»، مباحثَ النفسِ وفقَ المنهجِ الشائعِ في الفلسفةِ الصدرائيّةِ، مقتفيًا أثرَ ملاصدرا. فهذه المدرسةُ الفلسفيّةُ، تبعًا لعرفانِ منظومةِ ابنِ العربي، ترى النفسَ الإنسانيّةَ جسمانيّةَ الحدوثِ وروحانيّةَ البقاءِ والتعقّلِ. وكتبَ في «فصّ حكمة عصمتيّة»: «البدنُ مرتبةٌ نازلةٌ للنفسِ، وتجسّدُها، ومظهرُ كمالاتِها وقواها في عالمِ الشهادةِ. فالمطلبُ الصحيحُ والقويمُ لجسمانيّةِ حدوثِ النفسِ يصدقُ على هذا الأصلِ، فالنفسُ جسمانيّةُ الحدوثِ، لا روحانيّةُ الحدوثِ».
سبقَ أنْ أوردنا سيرَ إبداعِ الإنسانِ وتكوّنِهِ الطبيعيِّ الناسوتيِّ من القرآنِ الكريمِ. فالأنسُ بالآيةِ الشريفةِ يمنحُ علمَ الإنسانيّاتِ. يُفلسفُ القرآنُ الكريمُ علمَ النفسِ في هذه الآياتِ الشريفةِ، مستفيدًا من سيرِ تكوّنِ الجنينِ الطبيعيِّ. وتنقدُ هذه الآياتُ مباحثَ النفسِ في «الأسفارِ»، وتردُّ النظريّةَ التي بُنيتْ عليها كتبُ «عيون مسائل النفس» و«سرح العيون» و«فصّ حكمة عصمتيّة». وسيأتي لاحقًا، في موضوعِ ولايةِ السيدةِ فاطمةَ الزهراءِ عليها السلام، تفصيلٌ عن هذا الكتابِ ومنظورِهِ.
تبدأُ الآيةُ الشريفةُ ببيانِ مراتبَ متباينةٍ لسيرِ البدنِ الماديِّ الإنسانيِّ، ثمَّ تُخبرُ عن إنشائيّةِ النفسِ التي تتعلّقُ بالبدنِ الماديِّ، وتصفُها بـ«خلقٍ آخرَ». سبقَ أنْ ذكرنا أنَّ القرآنَ يُخبرُ عن نفوسٍ متعدّدةٍ. والنفسُ هنا هيَ النفسُ الإنسانيّةُ الكاملةُ، التي ليستْ من جنسِ المادةِ والجسمِ، ولا تملكُ منشأً جسمانيًا ماديًا، ولذا وُصفتْ بـ«آخرَ». تُشيرُ صفةُ «آخرَ» إلى أنَّ النفسَ ليستْ محصورةً في الناسوتِ، وبحسبِ استعمالاتِ النفسِ في القرآنِ، يُمكنُ أنْ تكونَ ناسوتيّةً، أو مثاليّةً، أو ملكوتيّةً، أو عقليّةً، أو ربوبيّةً. يعني قولهُ {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} أنَّ إبداعَ النفسِ هوَ خلقٌ آخرُ فوقَ خلقِ البدنِ الناسوتيِّ، أعظمُ منهُ شأنًا، يمنحُ البدنَ قيمةً أعلى، ويُمكنُ أنْ يكونَ مصدرَ طاقةٍ وقوةٍ ووعيٍ وإدراكٍ أرفعَ للبدنِ الماديِّ.
تناقضُ نظريّةُ الحدوثِ الجسمانيِّ للنفسِ، على الأقلِّ في الأولياءِ ذوي المنشأِ الربوبيِّ، ظاهرَ هذه الآيةِ الشريفةِ. فإبداعُ النفسِ أمرٌ إنشائيٌّ، يتناظرُ مع حركةِ البدنِ ويتناسقُ معها. فالبدنُ يمرُّ بسيرٍ تكامليٍّ ونموٍّ ماديٍّ من نقطةٍ طبيعيّةٍ، كالنباتِ والحيوانِ، حتى نطفةِ الإنسانِ. ومع ارتقاءِ طبيعةِ البدنِ، يُصبحُ مؤهّلاً لاستقبالِ النفسِ، التي تنزلُ من الأعلى، فتتآلفُ مع هذا البدنِ الراقي، وتتولّى إدارتَهُ وتدبيرَهُ. فيتعايشانِ عاشقَيْنِ. وبعبارةٍ أخرى، يُعدُّ إبداعُ النفسِ أمرًا روحانيًا، بينما نموُّ البدنِ ينبعُ من الطبيعةِ. وتتمُّ نقطةُ التلاقي والتعايشِ في المثالِ الناسوتيِّ (لا البرزخِ المثاليِّ أو الملكوتِ) أو في المادةِ. يتزامنُ سيرُ البدنِ في الناسوتِ مع حركةِ النفسِ النازلةِ، التي تنطلقُ من مرتبةٍ عليا كالعليّينِ أو السجّينِ، وهي تعابيرُ روائيّةٌ، أو من مراتبَ أدنى، حتى يتصلَ البدنُ الماديُّ الراقي بتلكَ النفسِ. يقتصرُ زمنُ تكاملِ البدنِ الناسوتيِّ، خلالَ المرحلةِ الجنينيّةِ، على أشهرٍ قليلةٍ. لكنَّ نزولَ النفسِ، بتعبيرٍ تسامحيٍّ، قد يمتدُّ إلى مئاتٍ أو آلافِ السنينِ الناسوتيّةِ، ليُنشئَ البدنَ بطريقةٍ مشاعيّةٍ، وقد يستغرقُ سنواتٍ حتى يتجاوزَ البدنُ الطباعَ المحضةَ، ويبلغَ درجةً من اللطافةِ تمكّنُ النفسَ من الاتّصالِ بهِ والتعايشِ معهُ.
يُشاهدُ الإنسانُ الكاملُ النورانيُّ وأولياءُ اللهِ سيرَ طبيعةِ أبدانهم مع نفسِهم المثاليّةِ في الناسوتِ المثاليِّ، ويدركونَ ذلكَ بعلمٍ. وتُشكّلُ النفسُ النازلةُ المتحوّلةُ، مصدرَ الوعيِ والعلمِ، قناةً أو سبيلًا يربطُ البدنَ بالمثالِ الناسوتيِّ وبالباطنِ. فتُجري قوةَ الباطنِ وطاقتَهُ غيرَ المتناهيةِ، بحسبِ قوتِها وضعفِها، إلى الخلقِ الناسوتيِّ للبدنِ، وبالأخصِّ إلى قلبِ البدنِ. وبناءً عليهِ، تنبعُ قوةُ الإنسانِ وضعفُهُ، بعدَ طبيعتِهِ وجينومِهِ، التي قد تتأثّرُ بالبيئةِ والعوائقِ، من النفسِ التي ترافقهُ. فالنفسُ بمثابةِ محرّكٍ دافعٍ وبرمجيّاتٍ وآليّاتٍ للبدنِ، فكلَّما ازدادتْ قوتُها، ازدادَ تأثيرُ الفردِ في الناسوتِ قوةً.
تنعكسُ جميعُ خصائصِ البدنِ الماديِّ، في سيرهِ الطبيعيِّ، على النفسِ التي ستتصلُ بهِ وتتناظرُ معهُ في نزولِها. كما تؤثّرُ خصائصُ تلكَ النفسِ على جميعِ الجزيئاتِ والذرّاتِ وما هوَ أدقُّ منها، حتى قبلَ أنْ تصبحَ نطفةً، فتُحدثُ معركةً من التداخلِ والمصاحبةِ والتعايشِ. وبالأخصِّ، إذْ ليستْ نفسًا واحدةً تنزلُ، فكما أنَّ البدنَ الإنسانيَّ، وفقَ ما يقولُ العلماءُ التجريبيّونَ، هوَ تعايشُ أكثرَ من سبعةٍ وثلاثينَ تريليونَ خليّةٍ، فإنَّ نفوسًا متعدّدةً جدًا، عبرَ المصاحبةِ والتعايشِ، تُشكّلُ النفسَ والذاتَ، ومن ثمَّ الوعيَ النفسيَّ لظاهرةٍ ما، فتنقلُها من الوعيِ الطباعيِّ إلى الوعيِ النفسيِّ. وعلى هذا الأساسِ، إذا أرادتْ نطفةٌ في الناسوتِ أنْ تتكوّنَ من طريقٍ محرّمٍ، فإنَّها تجذبُ نفسًا بمقدارِ السجّينِ. بينما النفوسُ العليّونيّةُ، المرتبطةُ بولايةِ أهلِ البيتِ عليهم السلام وأولياءِ اللهِ، التي سنتناولُ امتدادَ ولايتِها لاحقًا، تميلُ إلى اللقمةِ الحلالِ والنطفةِ المشروعةِ، وتنجذبُ إلى مراكزِ الطهارةِ والصفاءِ والعشقِ والمعرفةِ الربوبيّةِ. وكما ذُكرَ سابقًا، يُمكنُ، عبرَ التدخّلاتِ الجينيّةِ، جذبُ نفسٍ واعيةٍ وقويّةٍ ومتمتّعةٍ بولايةٍ موهوبةٍ للطفلِ، فتحظى في الناسوتِ بحياةٍ واعيةٍ ومقتدرةٍ.
الجينوم البشري: معجزة الخلق
لقد نجح العلمُ الحديثُ في كشفِ الجينوم، وهو مجموعُ المادةِ الوراثيةِ لكلِّ كائنٍ حيٍّ، يتضمّنُ الحمضَ النوويَّ (DNA) للخليةِ والتعليماتِ الوراثيةَ اللازمةَ لبناءِ الكائنِ الحيِّ وتطويرِهِ وصيانتِهِ. يتألّفُ الجينومُ من الجيناتِ (Genes) ولاحقةٍ (ome) تُشيرُ إلى الكليةِ، مستمدّةٍ من مصطلحِ الكروموسوم. تنقسمُ الجيناتُ إلى قسمين: الإكسوناتِ (Exons) المشفّرةِ، والإنتروناتِ (Introns) غيرِ المشفّرةِ. ولكلِّ كائنٍ حيٍّ جينومٌ فريدٌ يُشكّلُ مجموعةً كاملةً من التعليماتِ الوراثيةِ الخاصّةِ بهِ.
يؤكّدُ العلمُ أنَّ جينومَ الإنسانِ يتكوّنُ من ثلاثةِ ملياراتٍ ومئتي مليونِ زوجٍ من القواعدِ النوويةِ في الحمضِ النوويِّ، تُشبهُ الحروفَ في لغةِ البشرِ. فكم من الوقتِ يلزمُ لكتابةِ هذا العددِ الهائلِ من الحروفِ أو قراءتِها؟ وكم من الصفحاتِ والمجلّداتِ تحتاجُ لاحتوائِها؟ إنَّ هذه المكتبةَ الضخمةَ، التي أقرَّ العلمُ بكشفِها، تُضمَّنُ ضمنَ نواةِ خليّةٍ واحدةٍ، لا تكادُ تُرى بالعينِ المجرّدةِ بسببِ صغرِ حجمِها. ومع ذلك، تنشئُ هذه النواةُ وعيًا ذاتيًّا مستقلًّا، وتُنفّذُ التعليماتِ بدقّةٍ مدهشةٍ.
في العصرِ الحديثِ، برزَ العلاجُ الجينيُّ كوسيلةٍ لتصحيحِ الجيناتِ المعيبةِ أو المسبّبةِ للأمراضِ، واستبدالِ الجيناتِ غيرِ الطبيعيةِ أو فاقدةِ القيمةِ المعنويةِ والوظيفيةِ بجيناتٍ طبيعيةٍ تحملُ دلالاتٍ معرفيةً ومعنويةً. يتحقّقُ ذلكَ عبرَ استخدامِ النواقلِ البيولوجيةِ (Vectors)، التي تُمكّنُ من إيصالِ الجيناتِ الجديدةِ إلى الخلايا، فتُعزّزُ قدراتِها وتُحسّنُ وظائفَها.
النفس: جوهر الحياة وتجلياتها
لا تقتصرُ النفسُ على الإنسانِ فحسب، بل تكونُ ثابتةً لبعضِ الحيواناتِ وبعضِ الكائناتِ الماديةِ الأخرى. فالحيواناتُ التي تمتلكُ نفسًا تتمتّعُ، بحسبِ قوّةِ هذه النفسِ ووعيِها، بإدراكاتٍ مرموزةٍ ومعقّدةٍ. تتفاوتُ النفوسُ في منشئِها، وفي المضمونِ الذي تحملُهُ من أصلِها السابقِ، وفي قوّتِها وضعفِها، وفي مسارِ نزولِها إلى العالمِ الماديِّ، وفي الجسدِ الذي تتعلّقُ بهِ.
تستطيعُ النفسُ أن تبلغَ التجرّدَ، فترتقي إلى عالمِ الأمرِ، أو تبقى في النطاقِ الناسوتيِّ الخَلقيِّ أو ضمنَ الجسدِ الماديِّ الذي تتعلّقُ بهِ. تبني النفسُ الجسدَ الماديَّ وتُدبّرُهُ بحسبِ قدراتِها، وتتعلّقُ بهِ حصرًا بناءً على تناسبٍ محدّدٍ. فعندما يتكاملُ الجسدُ الناسوتيُّ وتبلغُ الطبعُ كمالَها المناسبَ، تتعلّقُ النفسُ بهِ، سواءٌ أكانتْ ماديةً أم مجرّدةً، ضعيفةً أم قويّةً.
يُشارُ إلى أنَّ الجسدَ، خلالَ تكوّنِهِ في الناسوتِ، وفي مرحلةِ الانعقادِ في الرحمِ، وطوالَ فترةِ التكوّنِ الجنينيِّ، يتمتّعُ بنفسٍ نباتيةٍ. أمَّا تكوينُ النفسِ الإنسانيةِ، فهو إيجادُ حقيقةٍ إنسانيةٍ تحتاجُ في عملِها وتطبيقِها في الناسوتِ إلى الجسدِ. ومع ذلك، إذا بلغتْ النفسُ كمالَها، فإنَّها تستطيعُ أن تكونَ فعّالةً في الناسوتِ دونَ الحاجةِ إلى الجسدِ.
إنَّ أدنى مراتبِ النفسِ الإنسانيةِ الماديةِ هي النفسُ الأمّارةُ، التي يمتلكُها جميعُ الأفرادِ العاديّينَ الذين تجاوزوا الطبعَ والحياةَ النباتيةَ. فإذا تطوّرتْ هذه النفسُ، اكتسبتْ ذهنًا يُدركُ، إلى جانبِ المحسوساتِ والجزئياتِ الوهميةِ والخياليةِ، المفاهيمَ الكليةَ، ويمتلكُ القدرةَ على التفكيرِ المفهوميِّ والانتزاعيِّ. والشيطنةُ تُعدُّ من نوعِ الإدراكاتِ الذهنيةِ. في هذه المرحلةِ، يمتلكُ الذهنُ قدرةً على الحسابِ، والتوصّلِ إلى القياسِ والبرهانِ، أو المشاغبةِ والمغالطةِ. تُسمَّى هذه النفسُ بالنفسِ الحيوانيةِ، ويُطلقُ على هذا الذهنِ اسمَ الذهنِ الكاسبِ.
أمَّا إذا استسلمتْ النفسُ للقلبِ والحكمةِ، فإنَّها تصبحُ إنسانيةً بحقٍّ. إنَّ المطالبَ والميولَ المتجاوزةَ للجسدِ والمتعلقةَ بالنفسِ تُعدُّ من خصائصِ النفسِ الحيوانيةِ. لكنَّ النفسَ، بتعبيرِها القرآنيِّ الذي أُطلقَ حتى على اللهِ سبحانه، تمتلكُ سيرًا كماليًّا يشملُ العقلَ والنفسَ، والقلبَ النورانيَّ، والروحَ الولائيةَ الإلهيةَ. في الحقيقةِ، إطلاقُ لفظِ “الإنسانِ” على مَن يمتلكُ نفسًا حيوانيةً فحسب، هو من بابِ التبادرِ، وليسَ دليلًا على الحقيقةِ. إذ إنَّ أصلَ هذا التبادرِ يكمنُ في كثرةِ استعمالِ لفظِ “الإنسانِ” على جميعِ البشرِ، وفي وجودِ مانعٍ، وهو قلّةُ الذين يمتلكونَ القدرةَ العقليةَ. فالعرفُ لا يجدُ الإنسانَ العقليَّ ليُطلقَ عليهِ لفظَ “الإنسانِ” حصرًا. وإلَّا فإنَّ الإنسانَ، في استعمالهِ الحقيقيِّ، يُطلقُ فقط على مَن يمتلكُ، على الأقلِّ، نفسًا عقليةً ووعيًا مفهوميًّا وانتزاعيًّا. وقد أشارَ القرآنُ الكريمُ مرارًا إلى هذا المانعِ، كما في قولهِ: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} {العنكبوت: ٦٣}.
بعدَ مرتبةِ العقلِ المفهوميِّ، تأتي مرتبةُ القلبِ النورانيِّ المتعلّقِ بالحكمةِ، التي تُعدُّ خاصّةً بأهلِ المعنى. ثمَّ تأتي مرتبةُ الروحِ، وهي حصريةٌ بالأولياءِ الإلهيّينَ.