الوحي والقرآن الكريم
الوحي: منشؤه وخصائصه
ماهية الوحي
الوحي هو إفاضةُ معرفةٍ نزوليةٍ من لدن الحقِّ تعالى، تتحقَّقُ بضرورةٍ إلهيةٍ وبفعلٍ مباشرٍ إلهيٍّ دون وساطةٍ، محفوظةٍ من الخطأ. لا دخلَ للاقتضاءِ، أو الجهدِ، أو الاكتسابِ، أو الظروفِ الناسوتيةِ، أو التنشئةِ، أو النبوغِ، أو الخيالِ، أو الغريزةِ، أو التجربةِ، أو الترجمةِ في صيغةِ هذا التعيّنِ الفعليِّ الفريدِ، الخاصِّ، الرمزيِّ، المحجوبِ، والمقفَّلِ الذي يُعدُّ لمتلقّي الوحي. وعليه، فإنَّ مسارَ الوحي هو نزولٌ معرفيٌّ وعلميٌّ، منشؤه الحقُّ تعالى، ولا يرتبطُ بسيرِ الصعودِ أو الارتقاءِ.
في جميعِ حالاتِ الوحي، يكونُ الحقُّ تعالى هو المُنشئُ المباشرُ بطريقةٍ نزوليةٍ، لكنَّ هذا الفعلَ في مرحلةِ النزولِ قد يتمُّ عبرَ وسيطٍ، دون أن يكونَ لهذا الوسيطِ دورٌ في فاعليةِ الوحي الحقِّ الكاملِ.
التمييز بين الوحي والرؤيا والرؤية
إنَّ كونَ الوحي حقًّا كاملًا يميّزُهُ عن الرؤيا، التي هي كليًا ناسوتيةٌ ومرتبطةٌ بالنفسِ، وعن الرؤيةِ والتجلّي والانكشافِ العامِّ، الذي يكونُ إمَّا ارتقائيًّا أو ناسوتيًّا. ومن ثمَّ، لا يمكنُ الاحتجاجُ بإمكانيةِ الرؤيا أو الرؤيةِ، أو الكشفِ، أو الشهودِ، أو النبوءةِ، أو التجلّي العامِّ، أو الانكشافِ على مصداقيةِ الوحي. فشرطُ الوحي النبويِّ أو الرساليِّ أو الإمامةِ الإلهيةِ الموهوبةِ ليسَ الرؤيةَ أو الحالَ أو الكشفَ. وعليه، لا يصحُّ الاستدلالُ بهذه الظواهرِ على النبوةِ الإخباريةِ أو الإمامةِ.
الوحي، وإنْ كانَ عمليةً نزوليةً، لا يصحبُهُ انفصالٌ أو تعرٍّ، بل هو حقيقةٌ حاضرةٌ بضرورةٍ، متّصلةٌ وممتدةٌ من المبدأِ إلى الهدفِ، تتدرّجُ في نزولِها فتصبحُ أكثرَ رقّةً ولطافةً واتساعًا.
يمتلكُ متلقّي الوحي، بفضلِ هذا اللطفِ الإلهيِّ الخاصِّ الممنوحِ لهُ، تصديقًا وإيمانًا وطاعةً واعيةً واختياريةً خاليةً من الخطأ.
محتوى الوحي الواجب
يتضمّنُ الوحي الملقى أفعالًا وطاقاتٍ إعجازيةً، أو معارفَ تتجاوزُ حدودَ العلمِ والعقلِ والغريزةِ والحواسِّ والقدرةِ البشريةِ الاعتياديةِ. وعليه، فإنَّ الوحي فراعلمٍ وفراعقلٍ وما يتجاوزُ الجسدَ وفراقدرةٍ بشريةٍ، ولا يمكنُ للعلمِ أو العقلِ أو الجسدِ أو القدرةِ أن تحلَّ محلَّهُ. كما أنَّ الوحي لا يتدخّلُ في المجالِ العاديِّ للعلمِ والعقلِ والقدرةِ، ولا يجوزُ تعطيلُ ملكاتِ العلمِ والعقلِ والقدرةِ بدعوى الوحي. فميدانُ الوحي، الذي هو الإنباءُ الإلهيُّ، لا يُعدُّ كشفًا علميًّا أو رؤيةً شهوديةً. وإذا اتّجهَ العلمُ أو العقلُ في مسارِ إغواءِ النفسِ الأمّارةِ بالسوءِ، يتدخّلُ الوحي لتصحيحِ اعوجاجِ العلمِ وانحرافِ العقلِ، وإقامةِ منطقِهما الصحيحِ.
وعلى أيِّ حالٍ، فإنَّ نموَّ العلمِ وازدهارَ العقلِ يُسهمانِ في تعزيزِ الوحي. كما أنَّ الوحي، في سياقِ الحضارةِ العلميةِ والعقليةِ، يصبحُ ضروريًّا لإدارةِ العوائقِ القويةِ والمقتدرةِ التي تُنازعُ الإلهَ وتدّعي عليه، بقوةٍ أعلى، ولضمانِ حياةٍ جسديةٍ صحيةٍ، وارتقاءِ المعارفِ، وتطويرِ أداءِ متلقّي الوحي.
تنوع الوحي وتعدد أشكاله
يذكرُ القرآنُ الكريمُ الوحيَ إلى الملائكةِ {الأنفال: ١٢}، وإلى أمِّ موسى {القصص: ٧}، وإلى حواريّي عيسى {المائدة: ١١١}، وإلى النحلِ {النحل: ٦٨}، وإلى السماءِ {فصّلت: ١٢}، وإلى الأرضِ {الزلزلة: ١-٥}. وعليه، فإنَّ الوحيَ الحقَّ لا يقتصرُ على الأنبياءِ الإلهيّينَ، بل يشملُ حتى كائناتٍ غيرَ بشريةٍ مثلَ النحلِ، الذي يتميّزُ بتركيبٍ معقّدٍ ومتميّزٍ ومتّجهٍ نحوَ الارتقاءِ أو القفزاتِ النوعيةِ، فما بالُ البشرِ المختارينَ الذين ليسوا أنبياءَ؟ يقولُ القرآنُ الكريمُ: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} {النحل: ٦٨}. أيْ: وأوحى ربُّكَ إلى النحلِ أنْ تأخذي من الجبالِ بيوتًا، ومن الأشجارِ، وممَّا يُعرَّشُ من البناءِ.
كذلكَ اختيرتِ الأرضُ الإلهيةُ للوحي، فهي مزوَّدةٌ بمعرفةٍ وتغذيةٍ من مصدرِ علمٍ معقّدٍ، يمنحُها القدرةَ على تحمّلِ الوحي الإلهيِّ والإخبارِ بهِ، متميّزةً عن غيرِها من الكواكبِ، وموضوعةٌ في مدارٍ موهبٍ للحياةِ. يقولُ القرآنُ الكريمُ: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} {الزلزلة: ١-٥}. أيْ: حينَ تُزلزلُ الأرضُ زلزالَها، وتُخرجُ أثقالَها، ويقولُ الإنسانُ: ما لها؟ يومَئذٍ تحدّثُ أخبارَها، لأنَّ ربَّكَ أوحى إليها.
الوحي يتّخذُ أشكالًا فعليةً متنوّعةً، ولا ينحصرُ في النبوةِ أو الرسالةِ أو الشريعةِ، أو في زمانِ الحضورِ أو الغيبةِ، بل هو صفةٌ قد تتحقّقُ في أيِّ كائنٍ، وبالأخصِّ الإنسانَ. فالخلقُ النورانيُّ المحبَّبُ مثالٌ للوحي الإلهيِّ. وعليه، لا يُستبعدُ أنَّ الوحيَ لا يختصُّ بالأنبياءِ والأولياءِ المعروفينَ، ولا يقتصرُ على الوحي الرساليِّ. فاللهُ تعالى يختارُ من عبادِهِ من يشاءُ ليجعلَهُ مُدبِّرًا مباشرًا لأمرهِ.
الوحي لا يقتصرُ على صفةٍ معيّنةٍ، حتى الإيمانِ، أو زمانٍ محدّدٍ، بل يخضعُ للضرورةِ الإلهيةِ في زمنِ الغيبةِ وفي كلِّ أمّةٍ. يظهرُ الوحي بينَ جميعِ الأقوامِ والأممِ، وقد ينقلُ إلى متلقّيهِ أنواعَ المعارفِ الهادفةِ التي لا تُدركُ بالنبوغِ أو العلمِ أو العقلِ العاديِّ أو الذهنِ البشريِّ. وقد تُبلَّغُ هذه المعارفُ أحيانًا إلى كافرٍ، ويتمُّ تنفيذُها على يدِ غيرِ مؤمنٍ، فتؤدّي إلى الإعلامِ وإتمامِ الحجةِ. ولا ينبغي الخلطُ بينَ هذا الوحي العامِّ والوحي الرساليِّ.
الوحي الرسالي
الوحي إلى الأنبياءِ الإلهيّينَ، إضافةً إلى ما ذُكرَ في الوحي العامِّ، يتضمّنُ دعوى الرسالةِ، وهو وحيٌ رساليٌّ، ويتميّزُ بامتلاكِهِ بنيةَ الإظهارِ القويِّ والتحدّي في مواجهةِ المدّعينَ والمنكرينَ، وبإظهارِ الإعجازِ الفعليِّ.
الوحي الرساليُّ هو أمرٌ نزوليٌّ وملقى، ولا يتحقّقُ بسيرٍ ارتقائيٍّ أو بضرورةٍ إلهيةٍ قابلةٍ للإدراكِ أو الاكتسابِ.
الوحي الرساليُّ، الخاصُّ بالأنبياءِ الإلهيّينَ، إذا كانَ مصحوبًا بكتابٍ وحيانيٍّ وتشريعٍ جديدٍ ومستقلٍّ، قد يواجهُ فترةً من انقطاعِ الوحي عن الناسوتيّينَ. يقولُ اللهُ تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {المائدة: ١٩}. أيْ: يا أهلَ الكتابِ، قد جاءَكمْ رسولُنا يُبيّنُ لكمْ في فترةِ انقطاعِ الرسلِ، لئلاَّ تقولوا يومَ القيامةِ: ما جاءَنا من بشيرٍ ولا نذيرٍ، فقد جاءَكمْ بشيرٌ ونذيرٌ، واللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
لكنَّ الوحيَ، إذا كانَ خاليًا من تشريعٍ مستقلٍّ، يتّبعُ نظامًا مستمرًّا ومتواصلاً دونَ انقطاعٍ، فيكونُ لهُ أنبياءُ متتابعونَ وورثةٌ تابعونَ لرسولٍ صاحبِ شريعةٍ وكتابٍ موحىً بهِ. يقولُ القرآنُ الكريمُ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ} {البقرة: ٨٧}. أيْ: ولقدْ آتينا موسى الكتابَ، وأتبعناهُ من بعدِهِ بالرسلِ، وآتينا عيسى ابنَ مريمَ البيّناتِ، وأيّدناهُ بروحِ القدسِ، أفكلَّما جاءَكمْ رسولٌ بما لا تهوى أنفسُكمْ استكبرتمْ، ففريقًا كذّبتمْ وفريقًا تقتلونَ.
في الآيةِ المذكورةِ، بينَ وحيَيْنِ تشريعيَّيْنِ رساليَّيْنِ رئيسيَّيْنِ بتشريعٍ مستقلٍّ، يُذكرُ توالي الوحي لرسلٍ آخرينَ يقتصرُ دورهم على الإنباءِ والإخبارِ، ولم يُذكرْ أسماؤهمْ بسببِ كثرتِهمْ، أو تبعيّتِهمْ للوحيِ السابقِ، أو محدوديةِ منطقةِ تبليغِهمْ. وفي الآيةِ التاليةِ، يُشارُ إلى تاريخِ الوحي الرساليِّ المتواصلِ قبلَ موسى عليهِ السلام: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ} {الحديد: ٢٦-٢٧}. أيْ: ولقدْ أرسلنا نوحًا وإبراهيمَ، وجعلنا في ذريّتِهما النبوةَ والكتابَ، فمنهمْ مهتدٍ، وكثيرٌ منهمْ فاسقونَ، ثمَّ أتبعنا على آثارهمْ برسلِنا، وأتبعنا بعيسى ابنِ مريمَ، وآتيناهُ الإنجيلَ.
وعليه، يمكنُ أن يكونَ الوحي متجاوزًا للزمانِ وخاتمًا، أو محدودًا ضمنَ الزمانِ. وقد يتّخذُ الإخبارُ الناسوتيُّ للوحي شكلَ تشريعٍ، أو قالبَ إخبارٍ عامٍّ دونَ دعوى الرسالةِ أو التشريعِ، بكيفيةٍ متميّزةٍ.
شروح افتراضية للروايات والاصطلاحات الفلسفية/العرفانية
في سياقِ تفسيرِ الرواياتِ المتعلقةِ بالوحي، يُشارُ إلى أنَّ الوحيَ يُدرَكُ من خلالِ المقارنةِ والتطبيقِ على التعيّناتِ، أيْ من خلالِ مطابقةِ الحقائقِ الإلهيةِ على الوجوداتِ المحدّدةِ. كما أنَّ سَرَيانَ النورِ وإظهارهُ يُبيّنُ كيفيةَ انتشارِ الفيضِ الإلهيِّ في المراتبِ الوجوديةِ.
ويُوصَفُ التجلّي الباطنيُّ والمعرفيُّ بأنَّهُ سَرَيانُ المعرفةِ الإلهيةِ وظهورُها في جميعِ المراتبِ الوجوديةِ، سواءٌ في العوالمِ العلويةِ أو السفليةِ، بطريقةٍ باطنيةٍ ومعرفيةٍ. أمَّا التجلّي الأدنى فهو الظهورُ الأقلُّ مرتبةً، وهو بمثابةِ ظلٍّ أو انعكاسٍ للتجلّي الأعلى، أيْ الظهورِ الأرفعِ، حيثُ يكونُ الأدنى مرآةً للأعلى.
وفي مقامِ الأحديةِ، الذي هو مرتبةُ الذاتِ الإلهيةِ المطلقةِ، يُشارُ إلى أنَّ الوحيَ يتجلّى بلا واسطةٍ. وفي عالمِ المثالِ، الذي هو عالمُ الصورِ المجردةِ، تظهرُ العقولُ والأرواحُ، سواءٌ كانتْ نزوليةً أو صعوديةً، كجسرٍ بينَ العوالمِ الماديةِ والمجردةِ. ويشيرُ التدلّي أو الارتقاءُ إلى حركةِ النفسِ أو الروحِ بينَ مراتبِ الوجودِ، إمَّا بالنزولِ من التجلّي الأعلى إلى الأدنى، أو بالصعودِ من الأدنى إلى الأعلى، حيثُ يكونُ التجلّي الأدنى ظلًّا أو انعكاسًا للتجلّي الأعلى.
القرآن الكريم: كتاب الوحي وخارطة الوجود
القرآنُ الكريمُ هو التصويرُ المكتوبُ للوحي الإلهيِّ العلميِّ والحكميِّ والمعرفيِّ، وثمرةُ المقامِ الجامعِ الخاتمِ للنبيِّ الأكرمِ (صلى الله عليه وآله)، وخارطةُ الطريقِ التي تُرشدُ إلى الانتفاعِ بأهمِّ الظواهرِ الفعّالةِ في عوالمِ الخلقِ. إنَّهُ كتابٌ يُجسّدُ الفيضَ الإلهيَّ، ويُرشدُ إلى الانتفاعِ بحياةٍ متعاليةٍ تتجاوزُ حدودَ الزمانِ والمكانِ.
الوحي القرآني: كلام الله المباشر
وحيُ القرآنِ الكريمِ هو إبداعُ ألفاظٍ إلهيةٍ –أي إنشاؤها مباشرةً من لدن الله– أُلقيتْ مباشرةً على قلبِ النبيِّ الأكرمِ (صلى الله عليه وآله). إنَّهُ كلامُ اللهِ المستقيمُ، لم يُنشأْ من معانٍ خالصةٍ أُوحيتْ إلى النبيِّ فاختارَ لها ألفاظًا بحسبِ رصيدهِ الثقافيِّ أو قاموسهِ اللغويِّ، بل هو ألفاظٌ إلهيةٌ مُدوَّنةٌ، مُنظَّمةٌ، وهادفةٌ، أُلقيتْ كما هيَ إلى القلبِ النبويِّ. لا يُشبهُ هذا الوحيَ الإلهاماتِ القلبيةَ للسالكينَ أو الأحاديثَ القدسيةَ، وهي معانٍ قد يتولّى الراوي صياغتَها مع الحفاظِ على جوهرِها، ولا تُعدُّ آياتٍ وحيانيةً أو كتابَ وحيٍ. وسيُفصَّلُ لاحقًا في بحثِ ولايةِ السيدةِ فاطمةَ الزهراءِ (عليها السلام)، مع الإشارةِ إلى الحديثِ القدسيِّ «لولاكَ».
لم يكنْ للنبيِّ الأكرمِ (صلى الله عليه وآله) أو للملَكِ أو أيِّ واسطةِ وحيٍ أيَّ تصرّفٍ أو تحريرٍ في الحقيقةِ الوحيانيةِ النازلةِ على القلبِ النبويِّ المباركِ، سواءٌ في تدوينِ الألفاظِ أو في ترتيبِ الآياتِ أو في تنظيمِ السُّوَرِ. إنَّ القرآنَ الكريمَ هو كلامُ الحقِّ تعالى المباشرُ، يحملُ في طيّاتِهِ تجلّيَ الذاتِ الإلهيةِ دونَ تحريفٍ أو تبديلٍ.
في نزولِ القرآنِ الكريمِ، تكفَّلَ جبريلُ، مَلَكُ الوحيِ، بحملِ الكلامِ الإلهيِّ وإيصالِهِ عبرَ العوالمِ التكوينيةِ دونَ أيِّ تدخّلٍ أو إنشاءٍ أو تعديلٍ في محتواهُ المنشأِ إلهيًّا. إنَّ جبريلَ وسيلةٌ تصيرُ سببًا لنزولِهِ إلى مرتبةِ القلبِ النبويِّ.
الوحي المباشر والبواسطة
يُتلقَّى وحيُ القرآنِ الكريمِ بطريقتين: مباشرةً عبرَ القربِ الوريديِّ –أي القرب الإلهي المطلق المتجاوز للأسباب– والوجهِ الخاصِّ المتعالي عن الأسبابِ، وبواسطةٍ من خلالِ جبريلَ عبرَ سلسلةِ الأسبابِ. يُشيرُ القرآنُ الكريمُ إلى التلقّي المباشرِ في قولهِ: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} {النمل: ٦}. ففي كلتا الحالتينِ، يتّسمُ الوحيُ بسيرٍ نزوليٍّ من المبدأِ الإلهيِّ نحوَ قلبِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله)، وليسَ نتيجةَ ارتقاءٍ أو تدلٍّ من النبيِّ، وإنْ كانَ صاحبُ التدلّي يمكنُ أن يُكرَمَ بمشاهدةِ الوحيِ النزوليِّ وحياتِهِ الكاملةِ الحقّةِ المستمرّةِ.
إنَّ المرتبةَ العليا للوحي القرآنيِّ، التي لم تَعُدْ خلقيةً أو فعليةً، تُتلقَّى عبرَ نورٍ إلهيٍّ، متزامنٍ مع العينِ الثابتةِ –أي التعيّن الأصلي للحقائق– ومن خلالِ الأحديةِ الجامعةِ للجمعِ –أي الوحدة الإلهية الكلية–. يتحوَّلُ هذا الوحيُ من النبوةِ التعريفيةِ والإنبائيةِ في عالمِ العقولِ والأرواحِ، ثمَّ في الملكوتِ، وصولاً إلى النبوةِ التشريعيةِ في العالمِ الماديِّ، حيثُ يُلقَى إلى القلبِ النبويِّ بصورةٍ لفظيةٍ، ويُصبحُ مكتوبُهُ تمثيلاً مكتوبًا لحقيقتِهِ القلبيةِ.
الوحيُ نطاقٌ ربانيٌّ يُعبّرُ عن الذاتيةِ الإلهيةِ، وعن المحبةِ الإيمانيةِ، وعن وحدةِ الوجودِ المُوحاةِ بطابعٍ توحيديٍّ، وعن شخصيةِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله) كمظهرٍ للتجلّي الإلهيِّ.
نزول القرآن وطابعه القلبي
النزولُ عمليةٌ إلهيةٌ ممتدةٌ، كلّيّةُ الحقِّ، تُساوقُ الوحيَ مع كلِّ عالمٍ وحضرةٍ، فتُكيّفهُ وتُبدّلهُ وتُرقّقهُ وتُساكنهُ وتُحوّلهُ وفقَ القصدِ الإلهيِّ، حتى يتمَّ انتقالُهُ من العالي إلى النازلِ بسلاسةٍ. يقولُ القرآنُ الكريمُ: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} {البقرة: ٩٧}، أي مُصدّقًا لما سبقَهُ من الكتبِ، هاديًا وبشرى للمؤمنينَ.
تكفَّلَ النبيُّ الأكرمُ (صلى الله عليه وآله) بتلقّي القرآنِ وتبليغهِ دونَ أيِّ تصرّفٍ فيهِ. لم يُنشئِ اللهُ الوحيَ بمعانٍ خالصةٍ قابلةٍ للصياغةِ البشريةِ، سواءٌ لجبريلَ أو للنبيِّ. فجبريلُ ليسَ مبدعَ معنىً، ولا حاملَ معانٍ صرفةٍ يُلبسُها ألفاظًا، بل هو حاملٌ للألفاظِ الإلهيةِ ذاتِها ومُوصلٌ لها إلى قلبِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله) كما أُنزلتْ.
يُصرّحُ القرآنُ الكريمُ بأنَّ الوحيَ أُلقيَ إلى قلبِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله) بطابعٍ إنشائيٍّ. إنَّ النبيَّ، بفضلِ موهبتهِ الإلهيةِ وجذباتهِ وتدلّيهِ في المسيرِ الصعوديِّ، امتلكَ قلبًا مُعدًّا لتلقّي الوحيِ. في مرتبةِ القلبِ، التي تتجاوزُ الخيالَ النفسيَّ بمرتبتينِ، يُتلقَّى الوحيُ بنظامٍ يحملُ المعنى والمحتوى والفاعليةَ الإلهيةَ. إنَّ هذا التلقّيَ يتمُّ بيدِ اللهِ وحدهِ، لا بيدِ مخلوقٍ أو جبريلَ أو حتى النبيِّ نفسهِ، وهو ناقلٌ لهُ عبرَ مسارٍ خاصٍّ.
لأهميةِ الموضوعِ، يُؤكَّدُ أنَّ الوحيَ الإلهيَّ يُلقَى إلى القلبِ، لا إلى العقلِ أو الخيالِ النفسيِّ، اللذينِ هما من مراتبِ النفسِ. فالنبيُّ (صلى الله عليه وآله) يتلقَّى الوحيَ في صورةِ كتابٍ مُدوَّنٍ في مرتبةِ القلبِ، دونَ حاجةٍ إلى تحويلٍ إضافيٍّ في مرتبةِ الخيالِ المتصلِ. ويُدركُ الخيالُ المتصلُ الوحيَ كما نَزَلَ، نقيًّا وواضحًا، دونَ تدخّلٍ أو تحريفٍ. كذلك، يستطيعُ العقلُ أن يتّصلَ بالكتابِ الإلهيِّ، فيُفسّرهُ ويُبيّنهُ في إطارِ المعاني والمفاهيمِ، لكنَّ الوحيَ ليسَ فهمًا عقليًّا ولا تعيّنًا خياليًّا، بل هو كتابٌ قلبيٌّ مُبينٌ، حيٌّ، ذو ربطٍ مستمرٍّ باللهِ، قابلٌ للشهودِ القلبيِّ والروحيِّ. لا يُمكنُ إدراكُهُ بدراساتٍ ماديةٍ عصبيةٍ، إذ تفتقرُ إلى جوهرِ الوحيِ، وإلى وسائلِ دراستِهِ، وإلى منهجيةِ فهمِ هذا الأمرِ القلبيِّ المتعالي عن الذهنِ.
هوية النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)
القرآنُ الكريمُ، في قوسِ نزولِهِ، تجلٍّ لشخصيةِ النبيِّ الأكرمِ (صلى الله عليه وآله)، وهو معجزتُهُ العلميةُ الفعليةُ ذاتُها. الوحيُ، وإنْ كانَ كلّيَّ الحقِّ، فهو متّسقٌ مع مرتبةِ المتلقّي. لذا، يختلفُ الوحيُ والتشريعُ باختلافِ مراتبِ الرسلِ، كما يقولُ القرآنُ الكريمُ: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} {البقرة: ٢٥٣}. فالوحيُ هو ذاتيةُ النبيِّ الأكرمِ (صلى الله عليه وآله)، ونطاقُ علمهِ الوحيانيِّ، الذي أُلقيَ إليهِ من مصدرٍ غيبيٍّ، لينقلَ الحقائقَ إلى المستحقّينَ بانطباقٍ على الواقعِ.
ليسَ القرآنُ الكريمُ كاملَ علمِ اللهِ، فالعلمُ الإلهيُّ هو ذاتُ الحقِّ تعالى وتعيّناتُهُ غيرُ المحدودةِ. أمَّا تعيّناتُهُ الفعليةُ في الناسوتِ، فهي خاضعةٌ للتحوّلِ عبرَ العصورِ، ولكلِّ عصرٍ خلقُهُ ورسلُهُ وقيامتُهُ الخاصةُ. والقرآنُ الكريمُ كتابُ هذا العصرِ الأخيرِ، الذي لم تكتملْ غيبتُهُ بعدُ، ولم يحِنْ زمنُ إشراقِهِ التامِّ، حيثُ يتجلَّى مقامُ الولايةِ والعصمةِ، ويعودُ الأولياءُ الإلهيونَ، فيصيرُ القرآنُ ناطقًا ومُفصحًا. ففي معركةِ صفّينَ، حينَ استدلَّ جيشُ معاويةَ بالقرآنِ المكتوبِ على الرماحِ ليحجبَ الحقيقةَ، قالَ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام): «أنا القرآنُ الناطقُ»، مُشيرًا إلى أنَّهُ مظهرُ الوحيِ الحيِّ الكاملِ.
روى أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام)، مُشيرًا بجلالٍ إلى ما قبلَ البعثةِ وأيامِ عبادةِ النبيِّ في غارِ حراءَ، شهودَهُ لنزولِ الوحيِ، فقالَ: «وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ، وَلَا يَرَاهُ غَيْرِي…». كانَ يُشاهدُ نورَ الوحيِ ورسالتَهُ، ويستشعرُ عبيرَ النبوةِ، وسمعَ أنينَ الشيطانِ عندَ نزولِ الوحيِ، مؤكّدًا أنَّهُ يرى ويسمعُ ما يراهُ ويسمعهُ النبيُّ، لكنَّهُ وزيرٌ وليسَ نبيًّا.
في الشهودِ الروحيِّ، تُكشَفُ الحقيقةُ والمصداقُ، ويظهرُ نزولُ القرآنِ كمظهرٍ للمعاني الحقيقيةِ والمراداتِ في روحِ الإنسانِ الإلهيِّ. وقد قدَّمَ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام) نفسَهُ مرارًا كالقرآنِ الناطقِ، متلبّسًا بجميعِ ساحاتِ نزولِ القرآنِ الكريمِ.
إشراق القرآن المتعالي عن الزمان
القرآنُ الكريمُ كتابٌ متعالٍ عن الزمانِ، يزدادُ إشراقًا كلَّما تقدَّمَ الزمنُ وتطوَّرَ علمُ البشرِ وعقلُهُ. فكلَّما ازدادتْ معارفُ البشرِ تقدمًا وتعقيدًا، تجلَّتْ دقائقُ القرآنِ المعنويةِ والعمليةِ بوضوحٍ أكبرَ. إذْ يُدركُ البشرُ قدرتهُ على فكِّ رموزِ المعارفِ القرآنيةِ، فيتخذُ كتابَ اللهِ رائدَ علمهِ وعملهِ. وسيُدركُ يومًا أنَّ أعظمَ مصدرٍ للمعرفةِ والعلمِ هو النصُّ القدسيُّ الوحيانيُّ للقرآنِ الكريمِ، الحيُّ، الفعّالُ، النازلُ باستمرارٍ، كما يقولُ تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} {الإسراء: ٩}.
في كلِّ مسألةٍ يتوقفُ فيها البشرُ عندَ حدودِ الفهمِ، عليهِ أن يتوجَّهَ إلى المعرفةِ الكاملةِ الحقيقيةِ التي تُقدّمُها رؤيةُ القرآنِ الكريمِ، بدلاً من الاعتمادِ على العلومِ الظنيةِ. وكما قالَ أميرُ المؤمنينَ (عليه السلام): «يَعْطِفُ الْهَوَى عَلَى الْهُدَى، إِذَا عَطَفُوا الْهُدَى عَلَى الْهَوَى؛ وَيَعْطِفُ الرَّأْيَ عَلَى الْقُرْآنِ، إِذَا عَطَفُوا الْقُرْآنَ عَلَى الرَّأْيِ». فالواجبُ ردُّ الأهواءِ إلى الهدايةِ الإلهيةِ، في مقابلِ من يجعلُ الهدايةَ تابعةً للأهواءِ، وجعلُ الآراءِ تابعةً للقرآنِ، في مقابلِ من يُحرّفُ القرآنَ ليتوافقَ مع آرائِهِ.
القرآنُ الكريمُ كتابُ علمٍ، يحملُ معارفَ غيبيةً أفاضَها النبيُّ الأكرمُ (صلى الله عليه وآله) على البشرِ دونَ نقصٍ أو إخفاءٍ أو تحجيبٍ. يقولُ القرآنُ الكريمُ: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ…} {التكوير: ١٥-٢٩}. فالقرآنُ كلامُ رسولٍ كريمٍ، ذي قوةٍ، مكينٍ عندَ اللهِ، مطاعٍ وأمينٍ، ليسَ بمجنونٍ، بل رأى الوحيَ في الأفقِ المبينِ، ولم يبخلْ بالغيبِ، وليسَ كلامُهُ من شيطانٍ رجيمٍ، بل هو ذكرٌ للعالمينَ لمن شاءَ الاستقامةَ.
عربية الوحي القرآني
عربية القرآن الكريم: تجلي الإبداع الإلهي
تُعدُّ عربيةُ القرآنِ الكريمِ جزءًا لا يتجزأ من جوهرِ الوحيِ القرآنيِّ وإبداعِهِ الإلهيِّ –أي الهويةِ المميزةِ التي تجسدُ طبيعةَ الوحي–. إنها لغةُ البيانِ الإلهيِّ التي تجلَّتْ في كتابِ اللهِ ببيانٍ متميزٍ يجمعُ بينَ البساطةِ والوضوحِ، وبينَ الهدايةِ الشاملةِ للبشريةِ جمعاءَ. وقد أودعَ اللهُ تعالى في هذه اللغةِ رموزًا دقيقةً، جعلتْها قادرةً على احتواءِ علومٍ متخصصةٍ متعاليةٍ عن الظواهرِ، تُفصحُ عن أسرارِ الغيبِ المتعلقةِ بأهمِّ الظواهرِ التي يواجهُها الجنُّ والإنسُ، وتُهيئُ أسبابَ فهمِ هذه الأسرارِ وتطبيقِها. ولذلك، فإنَّ عربيةَ القرآنِ ليستْ لغةً عربيةً خالصةً كالتي كانتْ سائدةً بينَ العربِ، بل هي لغةٌ إلهيةٌ متميزةٌ، متفوقةٌ في قواعدِها الأدبيةِ وخصائصِها اللغويةِ المتعاليةِ، مستخدمةً ألفاظًا نابضةً بالحياةِ الكاملةِ، منسجمةً مع الحكمةِ الفلسفيةِ، وتتحققُ فيها أعلى درجاتِ التناسبِ بينَ الألفاظِ والمعاني، وبينَ الأهدافِ الإلهيةِ والتطبيقاتِ الواقعيةِ –أي التطبيقاتِ المحققةِ في الواقعِ الخارجيِّ–. تُظهرُ هذه اللغةُ نمطًا فريدًا في اختيارِ أدقِّ الألفاظِ لنقلِ أرقَّ المعاني، وهو نمطٌ نادراً ما يُوجدُ في المعاجمِ اللغويةِ المتعلقةِ بالاستخداماتِ العرفيةِ.
تتميزُ لغةُ القرآنِ الكريمِ بقدرتِها على تيسيرِ التفكيرِ البشريِّ وتنشيطِهِ، بفضلِ الترابطِ الواضحِ والدقيقِ بينَ معانيها، كما يُشيرُ إلى ذلكَ قولُهُ تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ۞ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 1-2]. فالعربيةُ هنا صفةٌ جوهريةٌ تُشيرُ إلى الفصاحةِ الواضحةِ والقدرةِ على كشفِ الخفايا وتفصيلِ المعاني بصدقٍ يُطابقُ الظاهرَ مع الحقيقةِ. ويُمكنُ تشبيهُ هذه اللغةِ بصفاتِ الحورِ العينِ في الجنةِ، اللواتي يُوصفنَ في القرآنِ بأنهنَّ {أَبْكَارًا ۞ عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة: 36-37]، أي متميزاتٍ بالصدقِ، وبشفافيةِ النفسِ، وبتعلقِهنَّ العاطفيِّ المخلصِ بأزواجِهنَّ دونَ غيرِهم، خالياتٍ من الغموضِ أو الفسادِ. وهكذا تُظهرُ لغةُ القرآنِ صدقَها وشفافيتَها في نقلِ الحقائقِ الإلهيةِ.
فصاحة اللغة العربية وتميزها
لقد اعتبرَ الأدباءُ الحكماءُ من العربِ لغتَهم مركزَ المعاني الدقيقةِ، متسمةً بالترابطِ المتناسقِ والقدرةِ على إظهارِ المعاني الخفيةِ بوضوحٍ وشفافيةٍ. وفي المقابلِ، رأوا اللغاتِ الأخرى فاقدةً للترابطِ، وعاجزةً عن التعبيرِ الكاملِ، ومثقلةً بالغموضِ والاضطرابِ، واصفينَ إياها بالعجمةِ، أي عدمِ الفصاحةِ والوضوحِ. ومن هنا، فإنَّ لغةَ القرآنِ الكريمِ تتجاوزُ هذه الحدودَ؛ إذْ هي لغةٌ علميةٌ، عقليةٌ، شاملةٌ، ومتينةٌ في نقلِ المعاني، ومبينةٌ للحكمةِ والمعرفةِ. إنها لغةٌ متعاليةٌ عن الزمانِ، مع قدرتِها على التأثيرِ في الثقافةِ العامةِ عبرَ الزمانِ، فإذا شاعتْ في الاستخدامِ العامِّ، صارتْ ثقافةً شعبيةً تُوحدُ الجماعاتِ وتُعززُ انسجامَها. فالثقافةُ، بوصفِها المشتركاتِ التي تُوحدُ الجماعاتِ، تَعظُمُ بقوةِ اللغةِ العلميةِ التي تُعبّرُ عنها. وإذا اعتُمدتْ لغةُ القرآنِ، بما تحملهُ من دقةٍ عقليةٍ وتعبيرٍ عن علومٍ متنوعةٍ، لغةً مشتركةً بينَ العلماءِ والمثقفينَ، فإنها ستُحوّلُ اللغةَ الطبيعيةَ العرفيةَ إلى لغةٍ علميةٍ عقليةٍ، مُشكّلةً ثقافةً عامةً متماسكةً.
لغة العلوم المتخصصة المرموزة
لقد أبدعَ اللهُ تعالى، بقدرتِهِ وبيانهِ الخاصِّ، جميعَ العلومِ التي يحتاجُها الإنسانُ، وهي علومٌ لا يُمكنُ للذهنِ البشريِّ العاديِّ أنْ يُدركَها بوسائلهِ التقليديةِ. وقد رمزَ اللهُ هذه العلومَ في القرآنِ الكريمِ بأسلوبٍ متعالٍ، مضمنًا إياها في كتابِهِ الإلهيِّ. فالقرآنُ ليسَ مجردَ سجلٍّ للمعارفِ البشريةِ المتاحةِ، بل هو منبعُ الإبداعِ والابتكارِ العلميِّ. إنَّ فهمَ القرآنِ يتطلبُ التفسيرَ والتأويلَ، حيثُ يُعدُّ علمُ التفسيرِ فرعًا معرفيًّا يُجيبُ عن الأسئلةِ التي لا تُحلُّ بالعقلِ أو العلمِ العاديِّ، مع ضرورةِ تدقيقِ هذه الإجاباتِ عبرَ البحثِ العلميِّ والاستدلالِ العقليِّ.
منهجية فهم العلوم القرآنية
إنَّ العلومَ المرموزةَ في الوحيِ القرآنيِّ تتطلبُ نهجَ بيانٍ خاصٍّ يعتمدُ على الأنسِ والتعلقِ العاطفيِّ والروحيِّ بالنصِّ، حيثُ تُكشفُ أسرارُها من خلالِ الانسجامِ والتآلفِ العميقِ مع روحِ الوحيِ. فمنْ لا يمتلكُ هذا الأنسَ يبقى عاجزًا عن الولوجِ إلى علومِ القرآنِ، وقد يظنُّ أنَّ هذا الكتابَ يقتصرُ على القراءةِ أو الهدايةِ الأخلاقيةِ أو التحفيزِ العمليِّ، دونَ أنْ يحملَ معارفَ معرفيةً. إلا أنَّ هدايةَ الإنسانِ، بتعقيداتِهِ المعرفيةِ، لا تتحققُ دونَ تمكينِهِ بمعارفَ تُزودُهُ بالقوةِ والقدرةِ على مواجهةِ التحدياتِ. إنَّ إعجازَ القرآنِ يكمنُ في كونِهِ كتابًا علميًّا يحتوي على معارفَ قادرةً على تسخيرِ العوالمِ اللامتناهيةِ، وفي حالِ تبنّي المراكزِ العلميةِ العالميةِ لهذا النهجِ وإتقانِها لفكِّ أسرارِهِ، فإنها ستُمهدُ لتحولٍ علميٍّ جذريٍّ يُحققُ مقاصدَ اللهِ تعالى للجنِّ والإنسِ.
الإعجاز العلمي والعقلاني
يتمثلُ الإعجازُ العلميُّ والعقلانيُّ في رسالةِ النبيِّ الأكرمِ (صلى الله عليه وآله)، وهو إعجازٌ حكيمٌ، واعٍ، وقادرٌ على توجيهِ المعرفةِ وإلهامِها بحكمةٍ، متمحورٌ حولَ مركزِ المحبةِ والأنسِ والودِّ. فالقرآنُ كتابٌ ذو طابعٍ عمليٍّ، لا نظريٍّ بحتٍ، ومفتاحُ الولوجِ إلى بحرِ معارفِهِ اللامتناهيةِ هو الأنسُ التطبيقيُّ. إنَّ القرآنَ كتابٌ علميٌّ وحكميٌّ، لا يُدرَّسُ ولا يُتعلَّمُ إلا ضمنَ إطارٍ من الحبِّ والعشقِ، في نظامٍ تعليميٍّ عمليٍّ قائمٍ على التعلقِ العاطفيِّ. فعلى سبيلِ المثالِ، يبدأُ التعلّمُ القرآنيُّ بذكرِ اللهِ، الذي هو مصدرُ كلِّ الكمالاتِ، فيُشعلُ في النفسِ حبَّ اللهَ وحبَّ القرآنِ، فيُحيطُ بكيانِ المتعلمِ روحيًّا وعمليًّا، وفقَ نظامٍ تعليميٍّ منسجمٍ مع حقيقةِ الوجودِ وطباعِ الإنسانِ.
نظام التعليم القرآني العشقي
في النظامِ التعليميِّ القرآنيِّ القائمِ على الحبِّ، يتحققُ التعلّمُ عبرَ الإخلاصِ والتعلقِ والفناءِ في الذاتِ الإلهيةِ –أي الاندكاك في الله تعالى–. فالقلبُ، بمساندةِ العقلِ المنفتحِ، يُمكنُ أنْ يبلغَ مقامَ الجمعِ القرآنيِّ، حيثُ يفنى في الذاتِ الإلهيةِ التي هي اللهُ تعالى. إنَّ العقلَ المنفتحَ يُوجهُ القلبَ ويستمدُّ منهُ الإرشادَ في آنٍ واحدٍ، لكنَّ هذا الفناءَ لا يتحققُ إلا بعدَ تحملِ مشقاتِ التطهيرِ والتحولِ الروحيِّ، حتى يصيرَ القلبُ نقيًّا وصافيًا يُدركُ كنزَ الذاتِ الإلهيةِ. وفي عالمِ الناسوتِ، يتجلى هذا الكنزُ في وجودِ إنسانٍ كاملٍ، طاهرٍ، يُمكنُ اللجوءُ إليهِ والارتباطُ بهِ بحبٍّ عميقٍ. إنَّ هذا الارتباطَ الروحيَّ والانسجامَ العميقَ يُسهمُ في نقلِ المعارفِ القلبيةِ والإدراكِ الروحيِّ.
من خلالِ هذا الأنسِ بالقرآنِ الكريمِ، يُمكنُ إقامةُ حوارٍ عقليٍّ يُحققُ السلامةَ في الدنيا والسعادةَ في العوالمِ الأخرى. لكنْ هذا الأنسُ لا يتحققُ إلا من خلالِ التعلقِ بإنسانٍ إلهيٍّ متصفٍ بالتوحيدِ والولايةِ العينيةِ، متمحورٍ حولَ مركزِ الحبِّ والوحدةِ الربوبيةِ، وصلاً إلى اللهِ تعالى بطريقٍ ولاييٍّ. فبدونِ هذا الإطارِ، يبقى القرآنُ صامتًا، ولا يُمكنُ لمجردِ الرجوعِ إلى المفرداتِ اللغويةِ أنْ يُتيحَ للإنسانِ الولوجَ إلى كنوزِ معاني الوحيِ الإلهيِّ.