الفصل الثاني: وظائف الدين والإيمان الديني
الافتراء والدين الإلهي
تأليف: صادق خادمي
الفصل الثاني: وظائف الدين والإيمان الديني
الدين هو الوسيلة الرسمية لارتباط الإنسان بالله باطمئنان، لتلقي حكمه، وهو برنامج حياة منسوب إلى الله، يتسم بأسلوب عيش إلهي. يمنح الدين الإنسان أنسًا وتآلفًا واتصالًا حقيقيًا بالله، بوصفه الرفيق الثابت والمرافق الأبدي. وعليه، فإن إيجاد الله، بل التمسك به وقدرة تلقي أحكامه الإلهية، وتفسير الغيب وكشف الأسرار المستترة، وتلبية احتياجات كل فرد في هذا الارتباط، هي أهم موضوعات الدين ووظائفه وغايته.
ارتباط كل إنسان بالله خاص به، وتكمن الصحة والسعادة في تحقق هذا الارتباط الفريد وإيجاد الله في القلب والتسليم لأحكامه. تتحقق حرية كل فرد معنىً وتنظيمًا في إطار هذا الارتباط، ويكون حكمه ووظيفته الأساسية إحراز هذا الارتباط، الذي يهديه إلى اختيار أسلوب حياته.
الدين أمر باطني وخاص في ارتباطه بالله، والإكراه والتحكم والتعليم الأحادي والإلقاء المسيطر يُحرف هذا المحتوى الباطني، ويُحدث بدعة، ويُشوب هذا الإحساس الباطني النقي، فيجعله ملوثًا وأعمى وكاذبًا، ويُبقي الفرد محرومًا من فوائد الدين الفطري وآثاره ومقصده.
يُقدم الله ذاته في قلب كل عبد بحسب مقتضى فطرته، فيؤمن به تلقائيًا ويصير تابعًا ومتآلفًا مع الله، فيُعزز هذا الارتباط بالحق تعالى ويصل إلى روحه وملكوته، أو قد يتمرد في عالم الدنيا، فيعصي بصيرته الباطنية ومكتسبات قلبه، فيبتعد عن الحق ويتبع الباطل، أو يتيه في لامبالاة وفراغ، متسكعًا في مسار أفقي، فيصير من الدهماء.
أهم موضوع الدين، وهدفه الغائي، ومقصد التدين، بل ودافع التدين ونتيجته، التي تُعد وحدها وظيفة الدين، هو إيجاد الله باطمئنان في القلب، وتيقظه الإلهي، والإيمان والتصديق الوجداني الصادق به، والانقياد له. في جميع الأديان، محور الإيمان هو الله ووحدانيته، وترجع جميع المبادئ الدينية إلى التوحيد. التدين هو إيجاد الله باطنيًا. العقل والحكمة وسائر معارف البشر تُشكل أرضية لازمة لإيجاد الله، لكنها ليست كافية، ولا بد لإيجاد الله من سلوك مسار بصيرة القلب وإحساسه للوصول إلى الهداية الإلهية.
في علم الدين، بدلاً من المناقشات المنحرفة والمضللة والألغاز الدينية الفارغة، ينبغي مناقشة الموضوعات الحيوية. أحيى وصف الأديان، الذي يمنح الحياة ويُعطي معنى لها ويُشكل أسلوبها، هو التركيز على شخص الله. وأفضل تفسير تنبيهي لله هو توحيد الله الإبراهيمي.
الله الإبراهيمي هو عقيدة عقلانية جامعة مشتركة بين اليهودية والمسيحية والإسلام، وإن كان الله الإسلامي الولائي أعمق وأكثر تعقيدًا من إله الأديان السابقة. الله الإبراهيمي ذات لا تُوصف، وله تعينات ظاهرة، وتجليات مكشوفة، ومظاهر يمكن وصفها. وإبراهيم عليه السلام نبي جمالي، لطيف، رحيم، ومتسامح، وصل إلى ذروة التوحيد والعشق، فكان متحدًا مع الله، خاليًا من البغض والحقد تجاه من عادوه وأعدّوا النار لحرقه، فصارت النار عليه بردًا وسلامًا. والأديان أيضًا يمكنها أن تخمد نار الخلاف والحرب بالتسامح والتعايش والتآلف الديني.
علم الإلهيات، وفهم الدين، وإدراك مراد الله، يتوقف على معرفة الله وإيجاده باطنيًا والتمسك به قلبيًا. الإيمان بـ(الله) مقبول لدى المسيحيين والمسلمين، والإيمان بالله هو أعلى نقطة اشتراك ووحدة بين الأديان. مهما بلغت كمالات البشر من صحة، وجمال، وشباب، وذكاء، وحكمة، وثروة، فإنها إن لم تكن مرتبطة بالله، وخالية من القدسية والاتصال بالحق تعالى، فإنها تزول بالموت ولا تحظى بالخلود والأبدية. وحدها الاستفادة من قدرة الله وعنايته، والتقديس، والحكمة، تربط الإنسان بالله وبالأبد. التقديس ليس فقط تسخير ميدان العلم، بل كسر حصار الحس والمفهوم، والتجاوز إلى معنى ينقل معنى جميع الحقائق في مسار يتسم بالصحة والصدق والمعرفة والعصمة، ويُشكل لكل ظاهرة سارة أو غير سارة نظامًا معنويًا يتبع نمط المعنى المكتشف، ويمنح الإنسان في كل حدث بيئي حماية من تهديد تحريفات المعنى أو أضرار اللامعنوية، ويصون العلم والعقل، ويجعلهما يستسلمان لساحة الدين والإيمان، ليحظيا بحماية السلطة التي يملكها الدين والوحي في المعرفة والوصول إلى غيب العالم، فيحفظان ذاتهما.
يُميز بين حقيقة الدين، التي هي نسبة المعرفة والعمل الديني الوحياني إلى الله، وبين التدين والديانة، وهي تعامل الإنسان مع هذه الحقيقة. كما ينبغي عدم الخلط بين فوائد الدين وغاية التدين.
تشكيل الهوية بالدين
الدين، لأنه يتضمن تصديقًا مطمئنًا، وإقرارًا جازمًا، وإيمانًا بمحتوى الوحي الرباني، فإنه يمنح الإنسان معنىً وهوية وأمانًا. الهوية هي الحقيقة والجوهر الذي يميز الفرد عن غيره، متجذر أولاً في فطرته، ثم في معارفه وبصائره وميوله وأفعاله الإرادية الحرة، التي تمنحه شخصيات متعددة وأنماطًا متنوعة في آن واحد، متماسكة ومنسجمة، وفي الهوية الدينية، حياة متناغمة مع الحق تعالى ومنسوبة إليه بثبات، تُحدد قيمة الإنسان وغاية خلقه وموقعه في نظام الوجود والظهور، وتُعطيه معرفة بقدراته وعجزه. هذه الحقيقة الفريدة تجيب عن سؤال “من أنا؟”، وتمنح الفرد معرفة تنموية أو متعالية تتناسب مع العيش الإلهي، ونورًا وطهارة ربوبية، تفصله عن جيفة الذاتية وتجعل الحياة نعمة سارة، مطمئنة، وخالية من القلق. وعليه، فالطمأنينة والبعد عن القلق وسعادة الحياة هي لوازم الإيمان بالله.
تشكيل الهوية بالدين يعني إبراز السمة التأسيسية لوجود الإنسان وظهوره، وذاته الحقيقية، وشخصيته الأصلية في مسار التقرب الإلهي، وهي حياته الفريدة غير القابلة للتكرار، والوجه الذي خُلق من أجله.
الدين الباطني هو إرادة الله لفصل الإنسان عن الجهل، خاصة في معرفة الله وحكمه، ومعرفة العوالم والظواهر الخفية ومصير الإنسان الغيبي، ولحمايته من الظلم في مرحلة العمل من خلال الوصول الحقيقي إلى الله كمصدر الحقيقة وكل معرفة، ضمن بنية الوحي الإلهي. المعرفة التي تؤدي إلى التصديق والإيمان هي معنوية ومشكلة للهوية.
صدق الدين وكماله
يوصل هذا الدين إلى خلق نوراني أو ناري، ويُحقق وصولًا إيصاليًا، راسخًا، حقًا، ومنجيًا. ونتيجته إما قبول الحق والكمال والنجاة، أو معاداة الحق والحرمان والشقاء الظاهر.
الطمأنينة
من أعظم آثار الدين تحقيق الكمال المطلوب، والاطمئنان، والطمأنينة. فالمتدين يرجو رحمة الله، ويطمئن إليها دون قلق أو اضطراب أو تردد، ويستبشر بها. والارتباط الباطني بالحق تعالى هو أعظم مصدر استبشار وأمل للمتدين، وهذا الانتساب الإلهي يزيل اضطرابات الفرد، ويجعله مطمئنًا وهادئًا. الطمأنينة شرط لازم للوصول إلى الله وجوهر الدين؛ إذ إن الله لا يترك الإنسان وحيدًا، بل هو مصدر قوته، يحميه من الضعف والوهن، ويمنعه من الشعور بالعزلة أو الوقوع في الشك والتردد واضطراب الخاطر. وعليه، فالدين المعرفي مصدر اطمئنان وطمأنينة لنفسية الإنسان، يُبعد عنه أزمات القلق والضيق، وأزمة الهوية، ويرسخ فيه المحبة الأخلاقية، والمسؤولية، والإيثار، والشعور بالأمان، بدافع التقرب إلى الله، ضمن بنية الولاية العامة، بمساندة إلهية دائمة. والولاية والمحبة العامة أعلى قيمة من العدالة الأخلاقية والاجتماعية.
الدين، بفضل عنصر الإيمان، يُشكل الهوية، وبفضل الاطمئنان، يزيل الشكوك. فالمتدين، باطمئنانه الإلهي، يتوقع مستقبله، ويثق بحكمه. أما من لا يملك الاطمئنان، ولا يستطيع توقع مستقبله، فيقع فريسة الشكوك العمياء، والظلمات المدمرة، والمشاعر السلبية، من قبيل السخط وكراهية الأحداث، فيصير تائهًا، حائرًا، معلقًا، عاجزًا، ميالًا إلى العدمية، أو في كلمة واحدة، من الدهماء أو المتسلطين. والتدين، لمن يملك جوهر الانتساب الإلهي النقي، يمنحه حصانة من كل هذه الآثار السلبية وغير المرغوبة.
غاية الدين والإيمان هي كمال البشر برضا الله الواحد، والتقرب إليه، والعبادة الخالصة بعيدًا عن الشرك، والتسبيح المحب للحق تعالى، والنجاة الأبدية من خلال الوصول المعرفي إلى الحقيقة عبر المسار الإلهي، أو التمتع بالحجية الشرعية والأمان الولائي. في مثل هذا الدين تكمن الطمأنينة، والصفاء، والنقاء، وراحة الحياة، والرضا عن النفس والآخرين، والشعور بالعزة بالحق، والكرامة الخَلْقية، والتوسع الإلهي. وعليه، فإن التدين، لأنه يؤدي إلى الرضا الفردي والعام، يُعد أحد الجذور الرئيسية لكبح النـزاع والعنف، اللذين مصدرهما عدم الرضا، وذلك بالتدين الصحيح والواعي.
الحرمان من اكتشاف التدين الفطري، أو التمرد على التدين المكتسب بالمنطق المدني والإنصاف وتمييز الحق والمواكبة له، والتكبر والاستعلاء أمام الحق تعالى، الذي يتضمن تضخمًا غير منضبط وغير متناسق، يساوي بين كل شيء ويُلغي التنوع، يُوقع في النفس المصابة بالغرور والنرجسية حسرة موجعة.
بناءً على صفات الدين وخصائصه ووظائفه، فإن من يملك معرفة صادقة، وعقلًا سليمًا، وإنصافًا صحيحًا، لا يمكن إلا أن يكون متقبلًا للدين النقي، بل من المحال ألا يتوق إليه ويطلبه. ذلك لأن الحاجة إلى الدين والانتساب إلى الذات المطلقة، غير المحدودة والوجودية، الواحدة الأحد، التي لا تقبل وجودًا آخر من جنسها، والتي لا تفنى، وتمتلك الحب والاستغناء الذاتي، هي حاجة فطرية وجوهرية للكائنات التي تشعر بالتآلف المشترك والعلاقات المتنوعة، بما في ذلك التشبه بالله، وأهم من ذلك، شأن المنبعية منه والظهور الربوبي. وليس لهذا الوجود والظهور بديل.