در حال بارگذاری ...
Sadegh Khademi - Optimized Header
Sadegh Khademi

الفصل الثالث عشر: الإرادة وتجميع القوى

الفصل الثالث عشر: الإرادة وتجميع القوى

أهمية الإرادة القوية وتجميع القوى

إن المجال الثاني الذي يثري حياة الإنسان هو الاهتمام بامتلاك إرادة قوية وصلبة وقدرة على تجميع القوى والتنظيم الذاتي. فإذا كان اكتشاف المواهب بمثابة بصيرة، فإن الإرادة هي القدرة على الفعل البشري. والإنسان ذو الإرادة يتمتع بجوهر ومضمون وتصديق وقصد متناغم مع مضمون تفكيره الحكيم أو العقلاني. وفي علم النفس، تُعرف الإرادة بأنها القدرة على التنظيم الذاتي واتخاذ القرارات الواعية، مما يسهم في تعزيز الصحة النفسية والمرونة والنجاح.

بفضل مقام الإنسان الجامع، يمكنه أن يمتلك إرادة، بل همة عالية، تكسر كل زاوية وبعد، فتصبح معرفته وإرادته وشهوته غير محدودة ولا تشبع. فاللامتناهي، أي عدم التقيد بالأبعاد وغياب النهاية أو الحدود والوصول إلى التوسع المطلق، هو وصف الإنسان ذي الإرادة. لكن الجهل والانقباض المتقلب وعدم الضبط يشكلان عائقين رئيسيين في طريق الوصول إلى هذا اللامتناهي.

إن لامتناهية إرادة الإنسان تعني، على سبيل المثال، القدرة على إيقاف عمل الدماغ والقلب بمحض الإرادة، ثم إعادة إحيائهما بعد فترة، حتى وإن لم تعترف الطب الحديث بهذه المدة وأصدر حكمًا بالموت بفقدان العلامات الحيوية. وقد أظهرت تمارين اليقظة الذهنية المتقدمة إمكانية التحكم الإرادي ببعض وظائف الجسم، مثل ضربات القلب، وإن كان إيقاف القلب وإعادة تشغيله ممكنًا لأصحاب الهمة العالية، فإن الأدلة العلمية الحالية لا تدعمه بالكامل.

إن الحركة الإرادية لكل فرد ونيته تعتمدان على الأسس المبنية من التصديقات والمضمون الباطني ودرجة ثقته. فالفرد الضعيف، الذي يعاني من الخوف أو الوهم أو الفراغ الداخلي، لا يمكنه امتلاك إرادة أو قدرة على تجميع القوى.

معنى الإرادة

الإرادة، من جذر “راد”، تعني الرغبة والميل الاختياري وتفضيل أحد الخيارات المتاحة للعقل العملي، مما يجعل الموهبة المكتشفة قابلة للتحقق والتنفيذ، ويحول القدرة البشرية إلى فعل عملي. الإرادة وقدرة الرغبة أو الترك معروفة وملموسة لكل فرد بحضور الوجدان. وفي مقابلها تأتي الإكراه. تختلف الإرادة عن العناد واللجاجة في أداء العمل، اللذين يجعلانه قسريًا وغير طبيعي وغير صحي. وفي علم النفس، تُؤكد الإرادة كضابط ذاتي ضد الدوافع اللحظية والهوى، وتدعم القدرة على اتخاذ قرارات واعية، بينما ترتبط ضعف الإرادة بالقرارات الاندفاعية وانخفاض المرونة.

الإرادة القوية والقادرة تجعل شخصية الفرد سليمة وقوية ومرنة، وتجعله مطيعًا لحكم العقل، وتمنحه القدرة على اختيار التفاعل مع الآخرين دون انعزال قسري، والمقاومة ضد مطالب الآخرين القسرية أو الطمعية، والهوى والرغبات الجامحة. أما الإرادة الضعيفة فتدفع الفرد إلى البرودة والخمول والتسيب في التفكير واللامبالاة في العمل، وتغرقه في هوى عاطفي وخاطئ، مما يحرمه من النجاح. فالإرادة الضعيفة لا تقاوم المطالب غير المشروعة أو المخاوف الوهمية أو العلاقات الضارة، وتستسلم بسهولة لكل قول أو تهديد، وتتسم بالتردد والضعف في اتخاذ القرارات، فلا تستطيع اتخاذ قرارات حاسمة وشجاعة أو المبادرة بأعمال جادة ومبتكرة.

في التنمية الفردية، من الضروري تجنب القيام بالأعمال بلا اختيار أو بحكم العادة، والحرص على اختيار الأعمال بإرادة حرة ووعي. فالأعمال التي يقوم بها الفرد بعادة أو دون انتباه أو إرادة لا قيمة لها في التنمية، بل هي كالأعشاب الضارة. فمن ينام أو يستيقظ دون إرادة، أو يحتاج إلى النوم لاستعادة طاقته لكنه عاجز عن النوم، لا يحقق نومه أو يقظته أي تطور أو صحة. يجب أن يمتلك الفرد القدرة على المحبة أو الكراهية بإرادة، لا أن يحب أو يكره بعاطفة عفوية. فمن يحب بإرادة لا يمكن لأي قوة أن تمنعه، وهو يتغلب على كل قوة، لا يخاف السجن أو العقوبة، لأنه اختار طريقه بإرادة. مثل هذا الفرد يحب محبوبَه حتى لو أجمع العالم على ذمه، ولا قوة قادرة على تغييره.

نسبية الإرادة

من المهم مراعاة نسبية الإرادة في الأعمال. فالإنسان يقوم ببعض الأعمال بطريقة فطرية وتلقائية وبإرادة مطلقة دون تدخل الميول أو العقل، لكن في أعمال أخرى، تتدخل الذكاء والوعي أو الميول، فتمنع الإرادة من إتمام العمل بشكل مطلق، بل تجعله نسبيًا. فأغلب الناس يستخدمون الإرادة بشكل نسبي، أي يقومون ببعض الأعمال بإرادة وبعضها بالميول أو الهوى أو تدخل العقل والعلم أو العادات والملكات. يجب تقييم الأعمال لتحديد ما إذا كانت إرادية أم غير إرادية، خاصة الأعمال الهوائية أو العاطفية، وجعل الأعمال غير الإرادية خاضعة للإرادة.

إن الأعمال غير الإرادية لها دوافع ومحفزات وانعكاسات. فالبعض يتأثرون بالجموع أو نظرات الآخرين أو كلامهم، فيقومون بأعمال بدافع الرياء أو النفاق. ومن يستطيع القيام بعمل أمام الآخرين لكنه يهمل هذا العمل في الخلوة، فهو لا يتحرك بإرادة. الرياء والنفاق هما انفصال عن الذات الطبيعية، وارتداء قناع يخفي الشخصية الحقيقية، وهو كفر بالذات. مثل هذا الإنسان يفقد هويته، وإذا انتقل إلى العالم الآخر بهذه الحالة، سيظل تائهًا عاجزًا عن إيجاد ذاته.

الإرادة الضعيفة تجعل الفرد يعاني من النقص والحسرة والعقد النفسية، أو قد تصيبه بالسادية، فيسلك طريق الفرقة والخلاف ويثير النزاعات. وكلما وجدت الفرقة والخلاف، كان هناك الانكسار والتدهور والفشل والشيخوخة المبكرة.

قدرة تجميع القوى

إن العنصر الأساسي للإرادة القوية هو امتلاك “قدرة تجميع القوى”. وتجميع القوى هو توحيد كل الطاقات المتفرقة في نقطة واحدة وتفعيلها معًا. ويشبه هذا المفهوم التركيز والتنظيم الذاتي في علم النفس، لكنه يشمل جميع القوى، من القدرات الذهنية والذاكرة وأداء الدماغ إلى قوة وسلطة كل عضو، ويجب توجيه هذه القوى نحو هدف محدد لتحقيق تجميع القوى. لذا، من الضروري ألا يصاب أي عضو بالضعف أو الخلل. بفضل تجميع القوى، يمكن للفرد أن يصل إلى الوحدة، فيبكي بحرقة تامة ويضحك بحب كامل، ويجمع بين الرحمة والغضب دون ضعف عاطفي، محترمًا حرمة كليهما. مع تجميع القوى، لا يمنع أي شأن أو ظهور بروز شأن آخر، فيستطيع الفرد أن يصلي وفي الوقت ذاته يحافظ على أحذيته.

إن أعظم قدرة تجميع القوى ومقاومة الإرادة تُستمد من النوم العميق، الذي تُوضح تفاصيله أسس نظافة النوم. كما أن جودة التغذية تؤثر مباشرة على مستوى الإرادة وقوتها أو ضعفها. فالنوم العميق والتغذية السليمة يعززان الأداء المعرفي والإرادة. وكذلك، تساعد التحديات الصغيرة مثل الصيام أو الرياضة المنتظمة على تعزيز الضبط الذاتي وزيادة الانضباط الشخصي وتحسين الصحة النفسية.

يمكن تعريف توحيد الطاقات بأنه تمرين للباطن والنفس. وتُستمد جزء من هذه القدرة من العبادة والارتباط بالله تعالى. فتوحيد الطاقات هو تجميع كل الإمكانات اللامتناهية، من التاريخ والواقع. فكل فرد يستفيد من الأسماء والصفات الإلهية، ومن عالم الناسوت إلى ذخائر المعاد، وفي الطعام والهواء والنوم والرياضة والعمل والمعرفة العقلية والقلبية، من رزق وقوى يمكن استدعاؤها وجمعها بالتركيز وتجنب التشتت، دون أن يُغفل شيء. لكن حمل كل هذه القوى مستحيل ويؤدي إلى الموت. فالفرد قادر على تمريرها ضمن إطار محدد وشروط خاصة، دون أن يتحمل ثقلها، مما قد يسبب التوتر والضغط المرهق.

يُنسب العمل إلى الفرد ويحمل خصائصه إذا كان مصحوبًا بالانتباه والتركيز وتجميع القوى. فإذا لم يكن انتباه الأب أو الأم حاضرًا أثناء الجماع، لا يأخذ الجنين صورتهما. وإذا لم يكن تجميع القوى موجودًا أثناء الأكل، لا يتكامل الطعام مع الجسم، فيرهق الجهاز الهضمي بإخراج الفضلات. وإذا لم يكن توحيد الطاقات في العبادة، لا تتحقق عبادة الله وتسبيحه.

توحيد الطاقات، في المقام الأول، هو القدرة على استحضار الذات، ثم استحضار ظواهر القوة الأخرى وإضافة طاقتها إلى طاقة الفرد. الاستحضار هو قوة جذب الطاقة، كالمغناطيس في الجسم، فإذا كان حيويًا ومتحركًا ومرنًا، يمكنه الانسجام مع الظواهر البيئية والاستفادة من طاقاتها. والفرد ذو تجميع القوى واستحضار هو كتلة من الطاقة والثبات والصمود، لا يقع فريسة للشياطين، وإرادته القوية تمنع اختراقهم له.

يُقسم تجميع القوى إلى نوعين: دفعي وتدريجي، يتحقق تدريجيًا مع تكوّن الظروف المناسبة. ولا يمكن للفرد أن يحقق تجميع القوى إلا إذا عرف حكمًا وشرطًا إلهيًا مسبقًا واستعداداته، وسار نحو تمكين نفسه دون تعريض سلامته أو سلامة الآخرين للخطر.

لتحقيق الرغبات، قد يفتقر الفرد إلى السيطرة على نفسه، فيصاب بالنفاد الصبر والتعب السريع، وينسى هدفه، وتتشعب رغباته. للتغلب على هذه الحالات، يجب جمع كل الطاقات الكامنة في الذات، وتحرير هذه الطاقات الموجودة كإمكانية داخلية، واستخدامها لإنجاز العمل. فتجميع القوى هو نتيجة تجميع القوى المتفرقة، التي يمكن جمعها تدريجيًا. ولتحقيقه، يجب اتباع نظام كامل للرعاية الذاتية، واستخدام الأمور المادية والمعنوية الإلهية باعتدال.

بفضل تقوية الإرادة، يمكن للإنسان تفعيل مواهبه غير النشطة أو قدراته الراكدة. أما ضعف الإرادة والاستسلام للأمور القسرية فلا يحققان تنمية، بل يعكسان ضعف الشخصية وفقدان السلطة.

مجرد الجهد والمثابرة والصبر في العمل لا يكفي، بل الشرط الأساسي هو تهيئة الجسم لإحياء الروح من خلال اكتشاف المواهب وتقوية الإرادة.

الصلابة والأمان

تتحقق الإرادة مع الشعور بالأمان والثقة، وهذا المضمون يحدد درجة صلابة الفرد وقوته. فالصلابة هي المقدمة الضرورية للدخول القوي في أي عمل، بما في ذلك الدخول إلى العوالم التجريدية. وفي علم النفس، يُعتبر الأمان النفسي والتوازن العاطفي ضروريين لتقوية الإرادة والتنظيم الذاتي.

بدون الأمان وشعوره الباطني والنفسي، لا يتمتع الفرد بالصحة والسلامة، بل يصاب بالقلق ويضعف أعصابه، ويخاف ويستيقظ مفزوعًا من النوم، ويفتقر إلى الراحة والطمأنينة. فاللا أمان يعني الاضطراب والقلق والتوتر.

تتطلب الصلابة الهدوء والوقار والتوازن النفسي ومضمونًا معنويًا سليمًا، وصحة روحية، وقدرة على التدبير والسياسة، وشعورًا بالأمان والثقة، وقدرة على تحمل أعباء الخلافة الإلهية، والسير القوي وفق طبيعة الفرد. وهي ليست مجرد قوة جسدية. ولا ينبغي الخلط بين الصلابة والشدة أو العنف أو القوة القسرية، فالصلابة هي القدرة على السير في المسار الطبيعي. والصلابة، كالصحة، ضرورية للتنمية الفردية، والإرادة إحدى مكوناتها.

الفرد قليل الكلام يتمتع بقوة وصلابة وكفاءة أكبر مقارنة بالفرد كثير الكلام. فالمتحدث الثرثار ضعيف وغير كفء، يتعب بسرعة، وعقله وفطنته ضعيفان، وذهنه سطحي، لا يستطيع الإشراف أو التخطيط الدقيق، بل يكتفي بالثرثرة والدعاية غير المتسقة مع الواقع وقدراته.

الأمان والعدل النظامي

إن النجاح أو الفشل، والسعادة أو الشقاء، يتوقفان على الأفعال ويتناسبان مع الاختيارات الإرادية والمتوازنة للإنسان، ويرتبطان بحكم الله وحياته وتوفيقه في نظام جماعي عادل وذكي، قادر على استيفاء الحقوق بطريقة منظمة ومناسبة، يحدد مصير الفرد إما بالجنة أو بالنار.

إن النظام الذكي الطبيعي يجعل الفرد يتذوق نتائج أفعاله ومعرفته بشكل جماعي، ويضمن الأمان الناسوتي والعدل الإلهي. فبدون الأمان، لا يتحقق التوازن، والأمان يتأثر بمكافآت الطبيعة الذكية. فالطبيعة الواعية هي دار الجزاء لأفعال الإنسان الخيرة والشريرة حسب قدرة الناسوت. في هذا العالم، من يعطي بيد يأخذ باليد الأخرى، وما يصنعه الفرد للآخرين تعيده الطبيعة الواعية إليه. فمن يشدد على نفسه أو على الآخرين، تشدد عليه الدنيا وتوقعه في المصاعب. نظام الجزاء الطبيعي قد يتأخر أو يتقدم، لكنه لا يفشل أبدًا، ولكل عمل رد فعل طبيعي، ولكل فعل جزاء يتناسب معه.

في نظام الرعاية الذاتية، يجب على من يريد السلامة من البلايا والأضرار أن يعيش حياة إنسانية وطبيعية وعلمية وإلهية، وألا يظلم أحدًا، حتى نفسه. يمكن الهروب من بلايا عالم الناسوت والمادة، لكن لا مفر من مكافآت الطبيعة. وإذا أرادت الطبيعة الذكية وقوى الكون الواعية معاقبة أحد، فلا مخرج إلا التوسل إلى الله وأوليائه.

في بيئة وفيرة الإمكانات والرفاهية، إذا ارتفعت التوقعات، تتكاثر الاضطرابات. فالتوقعات المبالغ فيها، حتى من الله، تمنح الفرد آمالًا كاذبة وتجعله سريع التأثر، فيطالب بكل شيء دون ارتباط أو تناسب. لكن رحمات الله ونعمه تُمنح بحكمة وتناسب، وقد تكون مصحوبة بالألم. فالتوقعات غير المنطقية، مثل توقع امتلاك منزل من زيارة عاشوراء أو جوائز البنوك أو تذاكر اليانصيب أو الاتجار غير المشروع بالسجائر أو المخدرات، هي استغلال للناس وتفريغ لحساباتهم، وليست إنتاجًا للثروة بجهد مشروع أو عمل ثابت أو دخل قانوني أو أمل حقيقي متناسب مع الناسوت، مما يدمر الأمان ويبدد السكينة.

الإرادة: معنى السلوك

الإرادة هي العنصر النهائي لأفعال الإنسان، فهي تمنح السلوك معنى وهوية، وتشكل شخصيته. كل وعي ومضمون ذهني يتحقق بالإرادة. فإذا كان الإنسان باقيًا ببقاء الله، وإرادته إرادة الحق تعالى، فإنه ينال القوة والسلطان الإلهي والثبات الربوبي.

كما يستطيع الفرد أن يشرب لترين من عصير الليمون دفعة واحدة بإرادة، أو يأكل قدرًا من الأرز مع عشرات أسياخ الكباب في جلسة واحدة، فبالإرادة يمكنه الاستفادة من الواردات القلبية والنزولات الربوبية والمعارف العارمة دون الاعتماد على الحواس الجسدية. فالحواس الجسدية، إذا لم تكن مدعومة بالإرادة وتوحيد الطاقات، تصبح عائقًا أمام المعارف الروحية. لذا، في النوم، حيث تستريح الحواس الجسدية وتتوقف عن التشتيت، ويتجاوز الفرد مرتبة الحواس الظاهرة، تصبح الحواس الباطنية والروحية قادرة على النشاط والانتباه والوعي، فتتمكن الإرادة من إدراك النزولات الربوبية. والموت، لخلوه من إزعاج الحواس، يتيح للفرد الوصول إلى مواهبه الباطنية ومعارفه الداخلية، بما في ذلك كتاب أعماله، بل إذا كان ذا ولاية قوية، يمكنه الانتباه إلى كل الظواهر وصفاتها وسلوكياتها.

إذا كانت الإرادة قوية، يستطيع الفرد أن يدرك في اليقظة ما يحصله في النوم. فاليقظة، وهي أولى مراكز الذكاء فوق الحسي، تعمل بنظام باطني معقد وبإرادة معززة بالوحدة، منقطعة عن التشتت والتفرق. ومثل هذه الإرادة قادرة على إدارة الجسم وتلبية احتياجاته بالسلطان الباطني والروحي، والحفاظ على صحته وسلامته.

الرعاية الذاتية والإرادة

الرعاية الذاتية واحترام حق الاختيار والإرادة في الأمور المعنوية مبدأ أساسي في التنمية الفردية. فعلى سبيل المثال، وإن كان المحافظة على الصلاة في وقتها مؤكدة، إلا أن ذلك يجب أن يكون بإرادة واختيار وانشراح، لا بقسر أو تحمل للجسم أو عبادة خالية من الإرادة. يجب أن يكون الجسم مهيأ مسبقًا للصلاة، ليؤديها بإرادة وسكينة. فإذا كان الجسم متعبًا أو جائعًا أو مثقلًا بالطعام أو يعاني من امتلاء المثانة أو التوتر أو دين يُطالب به، فإن الصلاة في أول وقت تفتقر إلى الانتباه والإرادة وتوحيد الطاقات، ولا تتفاعل مع الباطن.

كذلك، يجب أن تكون الإرادة قوية ليتمكن الجسم من توفير الحرارة الداخلية في البرد، وتحقيق التوازن في الحرارة في الجو الحار. وصاحب الإرادة يستطيع إدارة أكله وشربه، والتحكم في شهيته وشبعه وجوعه.

إرادية المناسك

في الرعاية الذاتية، يجب أن تكون المناسك والمعتقدات الدينية اختيارية وإرادية ومنسجمة مع الفطرة والطباع، لتضمن صحة الحياة وروحانيتها وسعادتها الأبدية. فالوضع السائد في الحياة، حيث تكون الإرادة والاختيار ضعيفين وخاضعين للعادة أو الإكراه، لا يحقق تنمية، بل قد لا يجلب سوى الحرمان. وفي علم النفس، تُدرس الإرادة كمزيج من العوامل الواعية وغير الواعية، ويمكن أن تحد السلوكيات العادية من التنمية ما لم تُصحح بوعي.

صحة الجسم وسلطان الإرادة

صحة الجسم تتطلب قوة الإرادة وحرية الاختيار. فمن لا يستطيع العيش بإرادة ويخضع للإكراه، يكون جسمه مضطربًا ومشوشًا. وفي علم النفس، ترتبط الإرادة والضبط الذاتي بالسلوكيات الصحية، مثل النظام الغذائي والرياضة، التي تؤثر على الصحة الجسدية.

من يمتلك إرادة قوية وتجميع القوى يستطيع العناية بجسمه، ومنع هشاشة العظام، مثلًا، لأن قوته تمنع ضعف عظامه. فالإرادة هي المكابح والحافظ للجسم، وإلا فإن الجسم الخالي من الرعاية الذاتية يأكل بشراهة حتى يتضرر من الإفراط وعدم انتقاء كمية الطعام. وكذلك إذا لم يكن النوم إراديًا. فإذا كانت إرادة الجسم قوية، يمكن للفرد أن يزيد قوته أو برودته أو حرارته حسب رغبته، ويستجيب الجسم لهذا الاختيار. لكن إذا كانت الإرادة ضعيفة، لا يستطيع الجسم النوم أو الأكل حسب إرادة صاحبه، بل تسوقه إرادة مهترئة إلى الضعف والمرض والألم، وتحرمه من السعادة والرضا والأمل.

الإنسان ذو الإرادة القوية يستطيع فرض اختبارات وتحديات على جسمه ونفسه لتقويتها، وجعل نفسه أكثر قدرة على اختيار الأفضل. وهو من يستطيع إجراء حوار ونقاش، بينما الضعيف يتسم بالخطاب الأحادي والإكراه.

في نظام الرعاية الذاتية، يجب امتلاك الإرادة أولًا لاختيار النظافة والتغذية والوقاية والعلاج والثقافة والعقيدة بسلطة الاختيار. وهذا يتطلب القدرة على استنباط التصديقات الصحيحة واكتشاف المعرفة المتوافقة مع الذات. فالمعرفة المكتسبة والإرادة القوية هما أساس نظام الرعاية الذاتية. لكن الإنسان الخالي من الإرادة والنظام والتفكير، الذي يقوم بأي عمل دون هدف، لا يستطيع الرعاية الذاتية. فميوله وهواه يعيقان إرادته، ويدفعانه إلى أفعال يعلم أنها ضارة.

الإنسان الخالي من التفكير والإرادة أدنى من الحيوان، لأن الحيوان يمتلك قدرة الاختيار وفق غريزته، فيتماشى مع حياته الطبيعية بأقل الأخطاء. لكن اختيار الإنسان، لكونه إراديًا، إذا تخلى عن الإرادة وقام بأي عمل، يكون قد خالف فطرته. وكثرة هؤلاء، الذين لا يعرفون علم الحياة ولا يمارسون مهاراتها، تزيد الخلافات الاجتماعية والطلاق وتفكك الأسر وتكثر القضايا الجنائية، مما يولد أزمات اجتماعية.

لمعالجة الأزمات الاجتماعية، يجب تعزيز تجميع القوى المجتمعي من خلال بناء ثقافي يستخدم الأفلام والموسيقى والحفلات والكتب والإعلام.

لتحسين جودة الحياة بعد فهم معنى الحياة واكتشاف المواهب، يجب تعلم كيفية العيش. ومن العوامل التي تعزز جودة الحياة وتيسر العيش وفق الذات، الإرادة وتجميع القوى، اللذان يرفعان سلطان الإنسان إلى ما فوق مرتبة الملائكة الروحية والجبروتية.

إذا تحرك الإنسان بالهوى والميول والعواطف الضعيفة، لن يصل إلى شيء، لأن الميول بلا قاعدة. أما الحركة بالإرادة، الخاضعة للعقل، فتوفر التعليم المناسب والعمل الجيد والاختيار المتوافق، وتطور الفرد وتكمله وتزدهر به.

الهوى والميول تتدخل حتى في الصلاة، فتجعل الصلاة في الخلوة تختلف عن الصلاة في العلن أو في المحراب، مع أن الصلاة والعبادات تهدف إلى إعطاء الجسم والنفس قالبًا ثابتًا وصراطًا مستمرًا، لئلا يتمردا، ومع ثبات الإرادة وضبط الرغبات، لا يُهمل نظام الرعاية الذاتية.

من يمتلك الإرادة لا ينظم حياته بالهوى أو الضغوط أو الميول أو الأحلام أو وساوس الآخرين، ويتخذ قراراته الحياتية بوعي، مستصحبًا معرفته دون نسيان أو غفلة.

ضعف الإرادة

الفرد الضعيف يمتلك قدرة تحمل ومرونة منخفضة، ولا يستطيع الحفاظ على صحته، فيهاجمه المرض من كل جانب. فالقوة والصلابة الجسدية تمنعان تنشيط الأمراض الكامنة غير النشطة في الجسم. فعند ضعف الجسم أو باطن الفرد أو عواطفه أو إيمانه، تنشط الأمراض الكامنة، وتظهر الاضطرابات، وتؤثر على أداء الدماغ والمعدة وسائر الأعضاء والباطن.

الفرد الضعيف، عندما يعلم بشيء، لا يستطيع كتمانه، بل يسارع إلى إخبار الآخرين به، فيشعر بالراحة والخفة. مثل هذا الفرد يعاني من النسيان الكثير، فالمعارف الذهنية تثقل عليه، ويشعر بالخفة بعد الامتحان، ثم ينسى بسرعة ليتجنب الإزعاج.

الفرد الضعيف، لعدم طبيعيته، لا يستطيع إخفاء ضعفه، وهذا بحد ذاته مرض. بل إنه يظهر عداوته حتى لأعدائه، بسبب نقص الصبر والتحمل والقوة.

الفرد الضعيف يتصادم مع الآخرين ويتشاجر باستمرار، لأنه لا يستطيع لعب دور إيجابي أو التكيف. فهو عاجز عن مراعاة التناسب والتفاعل، ويفتقر إلى الشجاعة، فيكثر من الكذب وعدم الإنصاف ليغطي نقائصه. وبما أنه لا يمتلك الصدق، لا يمكنه أن يكون نقيًا، فالنقاء هو ظهور الصدق. والشعوب الخاضعة للاستبداد، بسبب شعورها بالضعف، تعتاد الكذب والرياء، فيصبح الفرد الضعيف منافقًا ومزدوج الوجه.

الفرد الضعيف، لخوفه، لا يستطيع كسب رزقه أو توفير نفقة زوجته وأبنائه، فضلًا عن الإنفاق والكرم. فهو بخيل وضيق الأفق. والإنفاق يتطلب الشجاعة.

الفرد الضعيف لا يستطيع أن يكون مؤيدًا للحق أو متمسكًا به، بل يتخلى عنه بأقل تهديد أو إغراء، وينضم إلى جبهة الباطل. ولا يستطيع التغاضي عن مشكلات الآخرين أو التسامح مع أخطائهم.

الفرد الضعيف، خوفًا من الفشل أو الهلاك، يضطر إلى إثارة النزاعات، ويحاول القضاء على خصومه جسديًا أو تشويه سمعتهم بالغيبة والافتراء. بينما لا شيء يتعرض للهلاك، والمطلوب هو الفناء في الله والتقرب إليه، وإن كان ذلك لا يخلو من الألم. أما الفرد القوي فلا يحتاج إلى إعدام المخالفين أو تشويه سمعتهم.

الفرد الضعيف، العاجز عن البطولة والحرية، يخاف من قوة مرؤوسيه، ولا يمنحهم الحرية لتعزيز قوتهم، بل يسعى لتحقيرهم ليبدو عظيمًا. فهو يشعر بالنقص الداخلي، وتؤلمه النقد والاعتراضات. بينما الفرد القوي لا يشعر بالصغر في أي موقف، وإن كان متواضعًا ولينًا. أما الضعيف فلا يتواضع أو يلين إلا أمام الأقوياء، فيقبل كل ذل.

الفرد الضعيف يلجأ إلى وسائل قسرية، ولا يسعى للقوة بطريقة طبيعية. فهو لا يمنح الآخرين الطمأنينة أو الشفاء، ولا يستطيع الرحمة، بل يعتاد الغيبة وذم الآخرين.

الإنسان الضعيف ييأس من كل شيء، حتى من الله، ويستسلم لكل شيء لعجزه عن تغييره. وله أحلام طويلة غير واقعية، تحرك عواطفه، خاصة الطمع والجشع والخبث والكذب، فتمنعه من قبول الحقيقة وتستهدف إيمانه وإرادته.

الفرد الضعيف لا يستطيع مراعاة الحرمات، وينتهكها من عجزه. فانتهاك شأن العلم والعلماء والكتب المكتوبة بجهد يوقعه في الحرمان.

لا يمكن مدح الفرد الضعيف، لأنه سرعان ما يصاب بالغرور والادعاء. والمدح غير المناسب يوقع الإنسان في عقوبة الحساب الأخروي، حيث تُحسب كل نفس في نظام جماعي.

يجب ملاحظة أن كون كل شيء ظهورًا للحق تعالى لا ينافي النظام الاقتضائي والاختيار الجماعي والتكليف والحساب والجزاء والعقاب، ويجب مراعاة هذا في النقاش.

كل شخص يجرؤ على التعرض للفرد الضعيف وتهديد مصالحه. فالصحة والأمان في القوة والسلطان. والقوة بحد ذاتها تمنع النزاع، فلا أحد يتحدى القوي. وتكوين المجتمع يهدف إلى تعزيز القوة، فالمجتمع القوي يستطيع الدفاع عن نفسه بعقلانية. والقوة عامل من عوامل النمو والتنمية. ولتحقيق القوة الأولية، يمكن شن هجمات استباقية ضد الأعداء.

الفرد الضعيف لا يستطيع حتى العلاج بالتغذية، فكل ما يتناوله يتعارض مع جسمه ويمرضه. لا يستطيع تناول العسل أو الزعفران أو الثوم، بل حتى الخبز يسبب له الإمساك، ويتعرض للزكام في البرد ويصاب بالإجهاد الحراري في الحر.

الفرد الضعيف يسعى فقط للرفاهية والمتعة، ولا يتحمل أقل ضغط أو مشكلة، فيتجنب أحداث الزمان، ويهرب من المسؤولية عند وقوع أزمة. وهو عاجز عن التضحية والتسامح والمحبة والاحترام، ويتصف بالأنانية.

الفرد الضعيف دائمًا حزين وقلق، لعجزه عن الصبر والتحمل. ويحسد الأقوياء لأنه لا يرى القوة في نفسه، فيلجأ إلى التدمير الذاتي، ولا يهدأ حتى يؤذي القوي. فالحسد يتعلق بالفضائل والكمالات، لا بالأمور العادية. لذا، يجب على صاحب الكمال تجنب الاقتراب من الضعفاء. والكذب والغيبة والافتراء تأتي من شخصية ضعيفة تشعر بالعجز.

لكي يستعيد الفرد الضعيف إرادته وقوته، يجب عليه، إلى جانب تنظيم التغذية، الاهتمام بنومه. فالنوم العميق الطويل يقلل من التشتت، ويزيل التعب، ويعيد له الطاقة. أما النوم الخفيف فلا يكفي. وإذا عانى من اضطراب النوم، يُنصح بتناول الزبادي مع الخيار أو البرقوق قبل النوم، وتقليل التوابل مثل الزعفران والزنجبيل والقرفة إلى الحد الأدنى.

تقييم الإرادة

ينبغي إجراء اختبار وتقييم للإرادة، ومراقبة قوتها وضعفها ومتانتها وهشاشتها وتطورها باستمرار، والتدقيق في اللحظة التي يتخلى فيها المرء عن العمل عند مواجهة عقبة أو مانع، أو يظل متمسكًا بمتابعته بثبات. ويجب ملاحظة المدة التي يستغرقها الفرد للنهوض من الفراش، وهل يؤدي الصلاة في وقتها الأول أم يؤخرها ويؤجلها باستمرار؟ وهل يمتلك الثبات في الدراسة والبحث أم لا؟ إن مشكلات الإرادة تتجلى عند مواجهة العوائق، وتُعتبر القدرة على الصمود والثبات أمام العقبات وقوة حل المشكلات معايير لتقييم الإرادة. ولتقييم مستوى الإرادة، ينبغي أن يكون المرء مراقبًا محترمًا، متجنبًا النرجسية والتشاؤم تجاه الذات، بل يجب أن يكون واقعيًا، خاليًا من الحب أو البغض غير المبرر تجاه نفسه.

قد تواجه الإرادة عوائق الرغبات والأهواء، فتكون قرارات الإنسان في هذه الحالة غير إرادية، بل انعكاسًا لسيطرة الأهواء وهيمنتها عليه. فالإرادة تستمد قوتها من العقل، بينما تستند الأهواء إلى الأوهام والخيالات التي تجر الإرادة الضعيفة والهشة خلفها، فتجعل الفرد أسيرًا مستعبدًا لرغباته وانعكاساته الجسدية الداخلية. أما الإرادة القوية فتجعل الرغبات والانعكاسات الداخلية تابعة لها. يمكن للإنسان أن يكون صاحب إرادة وفي الوقت ذاته يمتلك ميولًا، لكن الأهم أن تكون قيادته وإدارته بيد إرادته، لا أسير انعكاساته الرغبوية أو المزاجية.

من كانت إرادته ضعيفة، يتناول فقط الأطعمة التي تروق له وتُرضي ذوقه، حتى لو كانت ضارة به، ولا ينهض من النوم إلا عندما يشاء. مثل هذا الشخص لا يتناول الطعام في مواعيد محددة، ولا يمتلك نظامًا غذائيًا منتظمًا، ولا ينهض من فراشه في الوقت المناسب. أما صاحب الإرادة، فإنه يتناول طعامه وينام مستعينًا بالعقل، فإذا كان الطعام مضرًا يمتنع عنه، وإذا كان نومه يمثل إفراطًا في النوم، فإنه يقطع نومه وينهض من الفراش. صاحب الإرادة، عندما يقرر الاستيقاظ صباحًا، ينهض بسهولة، وينام بإرادة ويستيقظ بإرادة، ويكون نومه وطعامه في الوقت المناسب، مراعيًا احتياجات الجسم المتوازنة في الغذاء والنوم. فالإرادة القوية لا تكتفي بجعل العقل مهيمنًا، بل تمنح العقل نظامًا وأساسًا صحيحًا، وتبني له طريقًا مستقيمًا.

تمنح الإرادة الإنسان قوة، بينما من تتحكم في حركاته الرغبات والأهواء لا يمتلك أي قوة، فما إن يواجه صعوبة حتى يتخلى عن العمل؛ لأن رغباته وأهواءه لا تقبل التحديات. أما من يعمل بإرادة، فعندما يقرر القيام بعمل ما، حتى لو كان شاقًا، ينفذه بقوة إرادته، سواء أرضى ذلك ميوله أم لا. من لا إرادة له ويتحرك بميوله الجسدية، يقوم فقط بما يحب، يأكل ما يشتهيه ويروق له، دون أن يهتم بما إذا كان ذلك مضرًا به أم لا. أما صاحب الإرادة فيعمل بموافقة العقل وبحلول مدروسة، فالإرادة هي التي تقرر، وتتبعها الرغبات والأهواء. وهنا يكمن الفرق بين صاحب الإرادة وصاحب الميول، فصاحب الميول يشبه طفلًا مدللًا غير مهذب، يفعل ما يحلو له: يكسر، يضرب، يسكب، ويبعثر؛ لأنه يفتقر إلى الإرادة ولا يملك إلا الرغبة. ففي الطفل، لم تتكون الإرادة بعد، وتسيطر عليه الرغبات والأهواء. وقد يصل الإنسان إلى سن الخمسين ولا يزال يحتفظ بهذه الإرادة الطفولية، أي أن جميع أعماله تقوم على الرغبات والميول.

لتقييم الإرادة، ينبغي للمرء أن يفحص نفسه أسبوعيًا، ويرى أي جزء من أعماله ينبع من الأهواء، وأي جزء ينبع من الإرادة. إن أكبر عوامل فشل الإنسان هي سيطرة الميول والأهواء المدللة. فصاحب الإرادة، إذا لم يرد تناول جزء من الطعام، يفصله بعناية لتجنب الخلط والإسراف. إن صاحب الإرادة هو صاحب التمييز والحسم والعمل، لأنه يتحرك بعقلانية.

يقدم الخواجة نصير الدين الطوسي في كتابه “أخلاق ناصري” مثالًا بليغًا للإرادة، حيث يشبه صاحب الإرادة بإنسان قوي وحكيم يمتطي جوادًا، ويروض أسدًا ليتبعه، ويملك كلبًا وقطيعًا، ويدير الجميع بمهارة. أما إذا كان الإنسان ضعيفًا وفاقدًا للإرادة، فإن الكلب ينبح ويعض قدمه، والأسد يهاجمه وقطيعه، فيختل نظامه ويهلك. فالإنسان الفاقد للإرادة والسلطة يغرق في كم هائل من المشكلات والاضطرابات والأمراض.

تؤثر الإرادة حتى في الأعضاء التي تبدو غير إرادية ظاهريًا، مثل حركة الرئتين أو نشاط القلب ونبضه. فإذا كانت الإرادة قوية، يمكنها أن تؤثر في كل شيء بما يتناسب معها. فبالإرادة القوية يمكن للمرء أن يولد حرارة في جسمه ويبقى حيًا في غرفة التبريد دون أن يتجمد، ويمكنه أن يولد برودة تفوق برودة المجمد. أما من يفتقر إلى إرادة قوية، فلا يستطيع تحمل جوع يوم واحد، ولا حتى الصيام.

من يعاني من ضعف الإرادة والهشاشة، حتى لو جمع ثروة، فإنه بما أنه لم يصل إلى الإرادة ويعيش برغباته وأهوائه، يعجز عن حفظ ثروته وتنميتها، وما يبقى له ينفقه في غير محله، فيظل ضعيفًا حتى في ثروته.

السمنة وزيادة الوزن

السمنة هي كمية الدهون غير الصحية والزائدة في الجسم. وزيادة الوزن والأعباء الزائدة على الجسم، والخلايا الميتة والرواسب والفضلات المخزنة، خاصة اللحوم الزائدة التي تثقل العظام، تدمر القلب وتُعد من أسباب السكتة والموت. فزيادة الوزن، وخاصة اللحوم الزائدة، تضر بالقلب والدماغ، وتُفقد الجسم قدرته على التحمل.

للحياة الصحية، يجب أولاً تطهير الجسم من هذه الفضلات والزوائد وإخراجها. فالوزن الزائد والرواسب تتراكم فيمن تسيطر على جسمه الميول وانعكاسات الأهواء بقوة وهيمنة. أما إذا كانت الإرادة هي القائدة للجسم، فإن الإنسان لا يصاب بالسمنة حتى لو أكثر من الأكل؛ لأن الإرادة تعتبر نفسها مسؤولة، فتحرق السعرات الزائدة بالعمل والفكر والفعل، بل وحتى بالإرادة ذاتها، دون أن تكون المعدة والأمعاء هما المسؤولتان الأوليان عن حرق السعرات. بل إن الإرادة تحرق السعرات الزائدة أولاً، ثم تهضم المعدة والأمعاء الطعام وتخرجه بسرعة في المرحلة الثانية بعد الإرادة.

امتلاك ميزان لمراقبة وزن الجسم باستمرار من الأمور الضرورية للصحة. فالوزن المتوازن هو أحد أهم مؤشرات صحة الجسم. وتتسبب معظم الأمراض الشائعة في الدهون والسكر وارتفاع ضغط الدم، وكلها مرتبطة بالسمنة أو النحافة. يحتاج الجسم إلى دهون صحية ومفيدة وضرورية، وتركيب كيميائي للكوليسترول الجيد للبقاء، وتأمين الطاقة والحرارة للجسم، وتحسين أداء الدماغ وتقوية القلب.

زيادة الوزن والسمنة، خاصة في السن المتقدمة حيث يضعف الجسم ويتراجع، مع الشراهة والتغذية غير السليمة، قد تكون من العوائق أمام التطور والارتقاء الروحي. فمثل هذا الشخص يفتقر إلى القدرة على النهوض وخوض التجارب الروحية.

ترتبط السمنة وارتفاع ضغط الدم واضطراب نظم القلب بمخاطر الحوادث والسكتات الدماغية. ويسهم تقليل الملح في النظام الغذائي، وتخفيف التوتر، والحصول على نوم كافٍ وصحي، والاستهلاك المستمر للفواكه والخضروات في تقليل مخاطر السكتات والحوادث الدماغية. كما أن العيش باعتدال واكتفاء، وعدم الانشغال بكثرة المال ووفرته التي تؤدي تقلباتها إلى اضطراب ضغط الدم، له أثر كبير. كذلك، العيش في المناطق المرتفعة يزيد من ضغط الدم.

الاعتدال في استهلاك الطعام والماء يساعد على التحكم في السمنة. ويمكن تقدير هذا الاعتدال بنسبة ثلاثة إلى واحد، حيث يتطلب كل ثلاثمائة غرام من الطعام حوالي مائة وثلاثين مليلترًا من الماء. فإذا زاد عن ذلك، يؤدي إلى السمنة، وإذا قل عنه، يصاب الجسم بالجفاف والتيبس.

استهلاك المشروبات مع الطعام عادةً

من كانت إرادته ضعيفة، يستهلك كميات وفيرة من الماء مع الطعام، ولأن ذوقه يتعب ولا يستمتع بطعم الطعام، يضطر إلى شرب المشروبات الغازية أو غيرها مع الطعام ليتمكن من الاستمرار في الأكل. فيصبح جسمه متراكمًا بالدهون وثقيلًا، وتفقد فقرات الظهر قدرتها على تحمل هذا الوزن الزائد، فيصاب بالآم الظهر. فإذا لم يخفض هذا الشخص وزنه، فقد يصاب مع مرور الوقت بالتهاب المفاصل أو انزلاق غضروفي.

قد تظهر السمنة في الأشخاص ذوي الإرادة الضعيفة الذين تسيطر عليهم أهواؤهم ويفتقرون إلى إرادة قوية وفعالة. ولحرق الدهون، يمكن استهلاك الماء، وكذلك كميات قليلة من المشروبات الصناعية أو عصير الليمون أو عصير العنب أو الفواكه. في نظام الرعاية الذاتية، لا ضرر من استهلاك كميات قليلة من المشروبات الصناعية، حتى بالنسبة للمعدة، فالاستهلاك المعتدل لهذه المشروبات لا يمكن أن يؤذي معدة صحية قوية.

مع أن استهلاك كمية قليلة من الماء مع الطعام لا يشكل مشكلة، بل يساعد على الهضم، إلا أنه لا ينبغي شرب الماء مع الطعام الدهني، بينما يساعد استهلاك كمية قليلة من المشروبات الغازية على هضمه وحرق الدهون.

الوقوف على اليدين

من علامات الإرادة القوية النهوض من الأرض دون استخدام اليدين، فمن يضع يديه على الأرض أولاً ثم يرفع ظهره ومن ثم يقف، فهو ضعيف الإرادة. أما من ينهض مباشرة على قدميه ويقف، فهو يمتلك إرادة أقوى من الأول.

النهوض والوقوف على اليدين يضعف الإرادة مع مرور الزمن، ويُوهن القوة العقلية والقدرة على التفكير. لذا يجب ممارسة تمارين القدم وتقويتها للحفاظ على الإرادة والدماغ. ولا ينبغي خلط الأحكام الفقهية للضعفاء والسلوكيات الناتجة عن الضعف والهشاشة مع أسلوب حياة الأصحاء والأقوياء.

الضعف والضمور في عضلات الجسم يؤدي إلى ضعف العقل. لذا يجب تقوية عضلات القدمين من خلال تمارين رياضية لامتلاك إرادة قوية والحفاظ على قوة الإرادة حتى في سن الشيخوخة. فالإرادة القوية تجعل الإنسان في شيخوخته قادرًا على عيش الشباب، وتصنع منه أسدًا، وإن كان مسنًا، فهو أسد.

الدخول إلى ماء البحر

من اختبارات تقييم الإرادة طريقة دخول الأفراد إلى ماء البحر أو الأنهار أو الينابيع. فالأشخاص الذين يفتقرون إلى الثقة بالنفس ويعانون من الخوف ويمتلكون إرادة ضعيفة يرمون أنفسهم في الماء، بينما الأشخاص ذوو الإرادة القوية يدخلون الماء منتصبي القامة ويخطون فيه بخطوات واثقة.

تربية الإرادة وتقويتها

الإرادة قابلة للتربية والتقوية. وتتعزز الإرادة من خلال تمارين مثل التنظيم الذاتي واليقظة الذهنية. فالإرادة القوية قادرة على إدارة الجسم تحت سيطرة العقل. ويمكن لمثل هذا الجسم، بقيادة الإرادة، أن يدير الأمراض والاضطرابات والتقلبات والرواسب، ويطهر الجسم.

من يمتلك إرادة قوية يصبح تدريجيًا صاحب نفس مطمئنة، ويصل إلى جنة الله، أي إلى نقاء الخلق، والراحة، والفرح، والسعادة (زيادة العواطف الإيجابية)، والحلاوة، والرضا عن الحياة.

الإنسان الذي ربّى إرادته وقواها وجهزها، عندما يجد عملًا سيئًا يعيق حرية الجسم وازدهاره، يمتنع عنه.

من عوامل ضعف الإرادة وتفريغها من محتواها الحديث عن الأعمال التي ينوي الإنسان القيام بها. فعندما يتحدث اللسان عن عمل مقصود، تضعف الإرادة تجاهه، ويشعر الفرد بضعف داخلي يمنعه من تنفيذه.

الدوش بالماء الفاتر والاستحمام

من طرق تقوية الإرادة صب الماء الفاتر على الجسم، والاستحمام في حوض أو بركة، أو أخذ دوش يومي أو على الأقل كل يومين، خاصة للنساء. فاستخدام الماء الفاتر أو المائل قليلًا إلى البرودة للأصحاء يولد الفرح والنشاط، ويساعد على نضارة البشرة والحفاظ على الجمال، وتقوية جهاز المناعة، وتحسين جودة النوم.

يُوصى بهذا العلاج المائي، إلى جانب طرق أخرى، للمساعدة في علاج الاكتئاب والوسواس القهري. فالاستحمام في الماء البارد، خاصة في برودة الليل، يجعل الجسم منتشيًا ونشيطًا ويقويه.

الإرادة والعشق

في كتاب “الإدارة والسياسة الإلهية” ذكرتُ أن القصد هو التركيز الواحد على حركة معينة، على عكس “الطلب” و”الرغبة” اللذين هما مجرد هوى وإرضاء، ولم يصلا إلى القصد. فمن يمتلك الطلب، لأنه يفتقر إلى العزم والإرادة، يصبح حساسًا وسريع التأثر.

بعد القصد يأتي العزم والإرادة. فمن يمتلك الإرادة هو مريد، والمريد لا يتغير في عمله مطلقًا، ولا يقبل الهوى والرغبة، ويقف بثبات وحزم. فالإرادة تكون فيمن لديه مراد، أي هدف.

العشق يولد الإرادة والثقة، ويخلق ميلًا في نفس الإنسان ليثق بمن يعشقه، ويربط نفسه به ارتباطًا دائمًا ليتوجه نحو النجاح ومسيرته الطبيعية؛ لأنه لا يمكن أن ينشأ عشق أو ارتباط بين ظاهرتين دون وجود مناسبة طبيعية بينهما.

النظام التعليمي يحتاج إلى إقامة علاقة مودة وعشق بين الطالب والأستاذ أو المربي. فإذا لم يكن للطالب إيمان بأستاذه أو مربيه، فمهما أنفق من وقت في حضرته، لن ينتفع، حتى لو تعلم شيئًا.

المعلومات التي يكتسبها الإنسان دون عشق تذهب إلى الذاكرة، وتصبح مجرد روايات وحكايات يُنقل عنها، لكنها ليست علمًا، ولا يستطيع الفرد أن يبدعها أو ينتجها بنفسه. أما من يمتلك العشق، فكل ما يفهمه يتبعه، ولا يمكن لشيء أن يعيقه أو يمنعه.

الإرادة الإلهية

يصل أصحاب الإرادة إلى كمال يجعل إرادتهم إرادة الله تعالى، فتحركهم إرادة الله. أعمالهم ليست إرادية، بل تأتي من خلال باطن مطمئن متصل بإرادة الله وقوته، ومن خلال همة سرية وجذب إلهي. هؤلاء الأشخاص المتميزون هم أصحاب النفس المطمئنة والقلب السليم والزكي والعقل القدسي. في القرآن الكريم، يُطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول:

(إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحْيايَ وَمَماتي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ لا شَريكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمينَ) [الأنعام: 162-163].

قل: إن صلاتي ونسكي وحياتي ومماتي لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أُمرت، وأنا أول المسلمين.

لا يمكن لأحد أن يحقق (محياي ومماتي لله) إلا إذا عاش بإرادة الله ومات بإرادة الله، وكانت إرادته هي إرادة الله ذاتها.

إذا تقوى الوعي والإرادة والصدق والشجاعة والإيمان، يمكن للإنسان أن يتغلب على الأهواء والعواطف العمياء غير المبررة والمضطربة.

الإرادة تتطلب ذاتًا واستقلالًا، ولأن نظام الظواهر يقوم على الفعل الجماعي المشاع، والذات لله وحده، والظواهر هي أفعال، فإن هذه الإرادة المشاعية تُسمى “الأمر بين الأمرين”، أي أن الإرادة والاختيار التام ليسا في ظاهرة ما، والظواهر البشرية مختارة مشاعيًا واقتضائيًا، وغيرها مجبورة مشاعيًا واقتضائيًا، لا مجبورة. لكن الحب يحكم الكون، وهذا الحب يجعل بعض الأفعال حبية، قربية، تقديرية، وسرية القدر. فمن يجلس سنوات في زاوية ويقوم بالبحث العلمي رغم كل المشقات دون أن يتقاضى أجرًا، أو حتى دون أن يحتاج إلى هذا البحث، بل ربما يسبب له ضررًا اجتماعيًا، فهو عاشق، وهذا الحب هو تقديره الذي يخلق جاذبية تجعله غير قادر على التخلي عن هذا العمل، والحب يجعله مقدرًا حتميًا. مثل هذه الأعمال التي تتجاوز الجبر والاختيار تُنفذ بحب.

ما يتعلق بسر القدر هو عين العدل والحكمة. أما الظلم والتعدي فهو اقتضاء الناسوت ومتعلق بهذا العالم. وتعبير آخر عن الاقتضاء هو قول: “العبد يدبر والرب يقدر”، بمعنى أن تدبير العبد هو بتقدير الرب، وليس أن العبد يدبر باستقلال والحق يقدر باستقلال، بل إن تدبير العبد في الأمور الاقتضائية هو من تقديرات الله، وما إن يستقر في ذهن العبد حتى يكون تلك المقص الذي يقص به الحق نسيج الفعل.

المشيئة الإلهية هي الفعل النظامي والمنهجي الذي يدير الأمور بناءً على العلم والقدرة والحكمة والإرادة بطريقة ديناميكية وحيوية. فالمشيئة الإلهية هي القوانين الطبيعية النابعة من ذات الله وأسمائه، والحاكمة على الخلق والظواهر ونظام الكون. هذا الفعل الإلهي هو نتيجة ظهور الفعل الذي تحدثه الظواهر، ويقوم على أسماء الجلال الذاتية الثانوية وبطريقة مشاعية جماعية. لذا فإن كتابات قلم الصنع كلها اقتضائية، ولا تتعارض مع الاختيار المشاعي والفعل الجماعي للإنسان. فظواهر الوجود تمتلك نظامًا مشاعيًا، والفعل يتحقق بطريقة جماعية، ولا يمكن للـ”أنا” أن تكون السبب التام في تحقيق الفعل. فكل فعل يتحقق بمساهمة السياقات الاجتماعية، ودور الأب والأم واللقمة والنطفة، والزمان والمكان، والعلم والاقتصاد، والفكر والثقافة، والظواهر الغيبية – من الجن والملائكة إلى شخص الله تعالى – ولا يمكن لأحد أن يدعي القيام بعمل بمفرده أو تحمل مسؤوليته بمفرده.

الاختيارات المتصلة والمنفصلة

للإنسان نوعان من الاختيارات: اختيارات عامة ومنفصلة بالعقل الحسابي التجاري ذي الخيارات المحدودة والقصيرة الأمد بطابع عقلاني، واختيارات خاصة ومتصلة بالقلب الحكيم والنوراني أو الولائي.

يكمن الفرق بين البشر العاديين الخاسرين والجسديين وبين الإنسان الإلهي في طبيعة الاختيارات وامتلاك أحد هذين النوعين من الاختيار.

تُفقد الاختيارات المنفصلة مع الموت، وقد تثقل حسرتها وعقدتها على الجسم بعد الموت. فالاختيارات العامة والمنفصلة تجعل رغبات الإنسان وتلبية احتياجاته مشابهة للحشرات ولكن بأبعاد أكبر، ولا تمنح الإنسان قيمة وجودية أكثر من ذلك؛ تعينًا يشبه الطوب غير المشوي الذي لا يقاوم الماء، وهو ضعيف وهش، ولا إرادة ولا نظام ولا إطار ولا حرية فيه. فالاختيارات العامة لا تجلب للإنسان السعادة والنجاة.

في الاختيار الخاص، ينظر الفرد إلى السعادة الأبدية وبناء حياة خالدة، ويعطي كل شيء لله، فيمنح بذلك كل شيء بقاءً وديمومة. كما قال إبراهيم عليه السلام:

(إِنَّ صَلاتي وَنُسُكي وَمَحْيايَ وَمَماتي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ) [الأنعام: 162].

إن صلاتي ونسكي وحياتي ومماتي لله رب العالمين.

التأمل في هذه الآية الكريمة يفصل الإنسان عن أهل الدنيا وعن الاختيارات العامة والإنسان الجسدي، ويجعل باطنه لينًا ومتوافقًا مع العالم الآخر، ويجعله إلهيًا.

المؤمن بالاختيارات المتصلة، كل ما يجمعه بشق الأنفس، يبيعه أو يسلمه لله الذي هو السبب والوارث، فيجعله متصلًا بالله الأزلي والأبدي ومن خلاله بنفسه. في هذه الحالة، لا يقلق الفرد على أمواله وأولاده، فقد سلمها جميعًا لله الباقي أبدًا.

من يمتلك اختيارات متصلة وخاصة يخرج من بيته وهو يفكر أنه لن يعود. لا يحتاج إلى وصية، فالوصية لأهل الاختيارات العامة.

الاختيار الخاص هو “قربة إلى الله”، والفرد لا يترك شيئًا في الدنيا، ولا يحسب حسابًا للدنيا ولا للآخرة.

إذا وُضعت الاختيارات العامة عند بوابة البرزخ، فقد تمتلك كل شيء، لكن لا يمكن استخدام أي منها، ولا يمكن دخول البرزخ بها. فالبرزخ بلا أبواب ولا مداخل، وهو مدينة خربة لأن الاختيارات العامة لا تعمل فيه، وتتوقف وتتعطل. فصاحب الاختيارات العامة الذي تحبس رغباته ومطالبه في الدنيا، يضطر للسير في الحياة بعد الموت خالي الوفاض، حافي القدمين، أو أحيانًا بلا يدين ولا رجلين، في ظروف قاسية. لكنه يفتقر إلى القدرة، ويجب دفعه وتحريكه بالقوة، فيكون تحركه في الحياة بعد الموت مليئًا بالمشكلات والمصائب.

الاختيار العام يقتصر على المدة القصيرة للحياة الدنيوية، ويدير ظواهر الحياة الدنيا، لكنه عند الموت لا يشفي ألمًا من الإنسان، بل يجعله يموت بحسرة. فمع الموت، تنفصل جميع الممتلكات المنفصلة عن الفرد، وتبقى حسرتها في قلبه، وهذه الحسرة تخنقه بضغط ثقيل. أما في الاختيار الخاص، فقد أرسل الفرد كل شيء مقدمًا، ولا يملك شيئًا في هذه الدنيا. مثل هذا الشخص لا يصبح هدفًا لإغراء الشيطان، ولا يملك شيئًا في الدنيا يستطيع الشيطان تهديده بحرمانه منه لمنعه من الشهادة بالتوحيد.

الشهادة هي رؤية الحقيقة والإقرار بها، وقيمة الشهيد تكمن في شهوده وتضحيته وإيثاره بروحه في سبيل الحقيقة وبدافع القرب والوصول إلى الله تعالى.

الرعاية الذاتية تقول إنه يجب التفكير في النجاة الأبدية والحياة الخالدة والوصول إلى الحبيب، وتخزين مخزون من الوعي والمعرفة والحب والإيمان، بل والوحدة، ورؤية الله الوارث جل جلاله إلى جانب الله السبب تعالى. في هذا المنظور البحثي، ينبغي للمرء أن يتحلى بالنقاء حتى لا يغرق ويختنق في غفلة كثرة الدنيا ومظهرها الخادع، بل يختار الآخرة في إطار الصراط المستقيم لأولياء الله ونظام المعنى والروحانية الباطنية، ليتجنب العقد والحسرة والحزن والنقص المادي والمعنوي.

من يتبنى أسلوب حياة الرعاية الذاتية الشاملة للظاهر والباطن، يشبه أمير المؤمنين عليه السلام حين يهتف عند الوصول: «فزت ورب الكعبة»، فيستمتع بموته، أو كما قال نبي الحب، الإمام الحسين عليه السلام: «إلهي رضا برضاك»، أي إنني في طاعة أمرك، وإن أمرت بالرحيل والشهادة، ألجأ إلى السيوف. أو كما تغنت السيدة زينب عليها السلام: «ما رأيت إلا جميلاً»، فترى كل القهر والجلال والمصائب غارقة في الجمال والروعة.

كمال نظام الرعاية الذاتية يكمن في أن يغادر الفرد الدنيا بعد عمر من العافية والسعادة، دون أن يصل في لحظاته الأخيرة إلى محطته الآخرة بحسرة أو عقدة أو حرمان أو نكبة، مضطرًا إلى «حفرة من النيران». كما قال الشاعر:

عمر إذا مر في هناء، حياة نوح قليلة
وإن مر في مرارة، فنصف نفس كثير

إذا لم تتحقق الرعاية الذاتية الشاملة، فإن كل السعادات والعافية تتحول في لحظات النزع الأخير إلى صعوبات وأعباء ثقيلة، تجعل الفرد يفقد كل ما تمتع به من سعادة، حتى لو كانت تلك السعادة علمًا ومعرفة؛ لأن الاختيارات العامة ليست إلهية بأي حال.

من يمارس الرعاية الذاتية يتحرك نحو الاختيارات الخاصة والإلهية، وإن لم يملك سوى طبقة واحدة من الثياب المنفصلة، فإنه في تلك الانفصالات المحدودة والظاهرية التي اكتست في باطنها اللون الإلهي والارتباط، يعيش أفضل حياة بجودة عالية. كما يقول المثل:

في بيتنا إن لم يكن رخاء، فالصفا موجود
حيث الصفا، فهناك نور الله يقينًا

الاختيار المتصل يربط كل عمل بالإنسان الداخلي وبالروح، ولا يجعل شيئًا خارجيًا أو منفصلاً. هذا المفهوم يتماشى نسبيًا مع علم النفس الإيجابي الذي يركز على المعنى والهدف في الحياة، والاختيارات القائمة على القيم طويلة الأمد.

إن الإرادة القوية، عندما تتربى وتتجهز، تصبح أداة للسيطرة على الجسم والعقل، وتمكن الفرد من إدارة حياته بتوازن وحكمة. فالإنسان الذي يملك إرادة صلبة لا يقع فريسة للرغبات العابرة أو الأهواء اللحظية، بل يسير وفق خطة واضحة وهدف سامٍ يرتبط بالقيم الروحية والإنسانية العليا. هذه الإرادة تمنح الفرد القدرة على مواجهة التحديات، سواء كانت جسدية كالسمنة والأمراض، أو نفسية كالاكتئاب والوساوس، أو روحية كالابتعاد عن الصراط المستقيم.

إن الصحة الشاملة، التي تشمل الجسم والعقل والروح، تتطلب نهجًا متوازنًا يجمع بين الرعاية الذاتية والإرادة القوية والتوجه الروحي. فالإنسان الذي يسعى إلى تحقيق التوازن بين هذه الأبعاد يستطيع أن يعيش حياة مكتملة، خالية من الأعباء المادية والمعنوية، ويصل إلى حالة من الرضا والسكينة التي تجعله مستعدًا للانتقال إلى الحياة الآخرة بنفس مطمئنة وقلب سليم.

آیا این نوشته برایتان مفید بود؟

دیدگاهتان را بنویسید

نشانی ایمیل شما منتشر نخواهد شد. بخش‌های موردنیاز علامت‌گذاری شده‌اند *

منو جستجو پیام روز: آهنگ تصویر غزل تازه‌ها
منو
مفهوم غفلت و بازتعریف آن غفلت، به مثابه پرده‌ای تاریک بر قلب و ذهن انسان، ریشه اصلی کاستی‌های اوست. برخلاف تعریف سنتی که غفلت را به ترک عبادت یا گناه محدود می‌کند، غفلت در معنای اصیل خود، بی‌توجهی به اقتدار الهی و عظمت عالم است. این غفلت، همانند سایه‌ای سنگین، انسان را از درک حقایق غیبی و معرفت الهی محروم می‌سازد.

آهنگ فعلی

آرشیو آهنگ‌ها

آرشیو خالی است.

تصویر فعلی

تصویر فعلی

آرشیو تصاویر

آرشیو خالی است.

غزل

فوتر بهینه‌شده