الفصل التاسع عشر: المحبوبية الإلهية
الفصل التاسع عشر: المحبوبية الإلهية
إن لله تعالى عبادًا يتولى تربيتهم بنفسه، لا يُفوِّض أمرهم إلى أسمائه الحسنى ولا إلى اسم “الرب”، بل يتعامل معهم بذاته الإلهية وبمحبته الذاتية الأزلية. هؤلاء هم المحبوبون الإلهيون، الذين يمثلون غاية المعرفة والعبودية، أي التشبه بالله والوصول إلى حضرته العليا.
جوهر المحبوبية الإلهية
المحبوب الإلهي الأصيل يتحقق في ثلاثة أبعاد: في جانب المعرفة، يصل إلى الله تعالى مباشرة؛ وفي جانب العمل، يتمسك بالحق ويتبع الأحكام الإلهية؛ وفي جانب الختام، يكون مع الله تعالى متصلاً بذاته. بمعنى آخر، يأتي المحبوب مع الحق، ويعيش مع الحق، ويذهب إلى الحق. وهذه هي قمة المعرفة الروحية. رزق المحبوب طيب ومبارك، متصل بالله، وهو لا ينشغل بهموم الرزق، بل يسعى لتنفيذ أوامر الله تعالى دون تشتت.
الضرورة الإلهية للمحبوبية
المحبوبية لا تقتصر على القرب من الله تعالى، بل تتجاوزه إلى الوصول إليه بموهبة إلهية خالصة، دون أن يكون للجهد البشري أو الاكتساب الخلقي دور في كمالاتها. إن قدرة المحبوب على تحمل البلاء وهمته الإلهية الرفيعة في مواجهة التحديات تمنحانه صفاءً روحيًا وجلاءً معنويًا. هذه الضرورة الإلهية لا تتعارض مع الحرية والإرادة، فهي ليست جبرًا، بل هي انعكاس للطبيعة الحرة للظواهر الإلهية. فالضرورة تنبع من الحرية ولا تناقضها، بينما الجبر ينشأ من سوء الاختيار والتدبير.
عالم الدنيا هو عالم الاقتضاءات بالنسبة للمحبين والأفراد العاديين، لكن المحبوبين الأصليين يعيشون بحياة تتسم بالعلية والضرورة الإلهية، لا بالجبر أو الاقتضاء. فالظواهر العليا واللوازم الذاتية لله تعالى لا تخضع للاقتضاء، بل تتحقق بالعلية والضرورة، لأنها لا تعتمد على العمل أو الجهد البشري، بل على الحكم الإلهي الذي يتجاوز حدود الفعل.
الوصول إلى ذات الله تعالى
غاية العرفان لدى عامة المحبين هي الوصول إلى مقام الأحدية السارية، لكن المحبوب الأول يصل إلى ذات الله تعالى مباشرة. الأحدية السارية هي الظهور الفعلي المنبسط الذي يمثل الوجه الخلقي للولاية الإلهية، بينما الوجه الحقي للولاية هو مظهر التعين الأحدي. والأحدية تنقسم إلى أحدية ذاتية سابقة على مقام الواحدية، وأحدية سارية موجودة في كل ذرة وجزء من الوجود، بما في ذلك عالم الناسوت، وهي تعبر عن وحدة الفعل والصفات والذات الإلهية.
رؤية الأحدية السارية هي شهود الحق تعالى، حيث يرى المحبوب وجه الله في كل مكان، ويزول الشرك من قلبه تمامًا. هذا المسار أقصر من مسار من يسعى للوصول إلى الأسماء ثم الواحدية ثم الأحدية عبر مفاتيح الغيب، وهو طريق طويل ومعقد.
الحب الإلهي
المحبوبية هي تجسيد الحب الإلهي. المحبوب يعيش في الناسوت بحالة الحب الأزلي الذي يغمرها الله تعالى، وهذا الحب الإلهي يطغى على طباعه البشرية. إنه حب جامع يعكس حب الله لذاته، حيث لا فرق عنده بين الرحمة والقهر، لأنه متصل بالذات الإلهية بموهبة كاملة. علامة المحبوب أنه يستقبل كل شيء بحب يعادل حب الله تعالى، ويحب العالم كله لأنه يرى نفسه فيه، ويكون محبوبًا للجميع بسبب جمعيته الروحية.
الاتصال الدائم بالله
المحبوب يكون تحت رعاية الله منذ طفولته، ومن لم يشعر بهداية الله له منذ الصغر فليس بمحبوب. بل إن المحبوب يُمنح الروح والوصول الفعال قبل تكوّنه في الرحم، ويولد في الناسوت بهذه الحالة. إنه في حضن الله الذي يتجدد في كل لحظة، وهو نفسه في حركة دائمة لا نهائية، يتشبه بالله باستمرار. اتصاله بالله لا ينقطع أبدًا، وكل ما يملكه يأتيه مباشرة من الله تعالى من الأزل إلى الأبد.
المعرفة الإلهية
المحبوب يتمتع بمعرفة إلهية شاملة، يجيب من خلالها على أي سؤال من الأزل أو الأبد. لكن الاستفادة من هذه المعرفة تتطلب قلبًا نقيًا وعقلًا متسلّمًا للحب الإلهي. المحبوب يعرف جميع شؤون الظواهر دون نسيان أو خطأ، ويفرّق بين مراتب الوجود بدقة، مما يؤهله للقيام بمهمة الهداية بأمر الله.
كرامة المعرفة
أعلى كرامات المحبوب هي المعرفة الإلهية التي ترتقي إلى مستوى الحقيقة ذاتها. هذه المعرفة تتجلى في الحب والوحدة والوصول إلى الحقائق، وهي تفوق بكثير الكرامات الحسية. تظهر هذه الكرامة في الإيصال القلبي أو في البيان الحكيم والكتابة المبتكرة.
النفوذ في العوالم
المحبوب قادر على إظهار ما يشاء في أي عالم بحسب إرادته، مع الحفاظ على هذا الظهور دون نسيان. إنه يرى العالم المحسوس والبرزخ والعوالم الأخرى، ويتواصل مع الكائنات في النزول والصعود، مع الحفاظ على تجرده الذي يمكّنه من رؤية العقول العليا والحضرات الربوبية.
طباع البلاء
المحبوب ينظر إلى كل حادثة بنظرة حقيقية، فالحق يدور حوله وهو يدور حول الحق. إنه يرى وجه الله في كل لحظة، والله يظهر له بصفاء وحب ولطف. هذه الرؤية تجعله مقاومًا للبلاء، مستعدًا لتحمله بحب وإيمان.
الطاقة اللانهائية
المحبوب يتمتع بطاقة خارقة لا تضعف مع التقدم في العمر. إنه يمتلك طاقة لا نهائية تمكّنه من العمل والعروج دون نقصان، مع قدرة على تغيير الظاهر لمواجهة التحديات دون ترك أثر.
ظهور المغضوبين والضالين
مع ظهور المحبوب الإلهي، تظهر النعم الإلهية، ولكن يظهر أيضًا الضالون والمغضوب عليهم الذين يفسدون هذه النعم بحقدهم وعنادهم. هؤلاء يعارضون الرسالة الفكرية والمعرفية للمحبوب، لكن مصيرهم الهلاك المحتوم.
المظلومية والحقانية
المحبوب الإلهي يتسم بالمظلومية والحقانية، مما يكشف زيف الضالين. كلما ارتفعت درجة حقانيته، ازدادت مظلوميته، لكن هذه المظلومية تنبع من الصفاء والحب، وليست من الضعف. إنها تجذب الحق طلبان وتلهمهم لمواجهة الباطل.
القدرة على مرافقة المحبوبين
من لا يملك القدرة على تحمل أحكام المحبوبين أو ثقل حضورهم قد يتضرر نفسيًا إذا أفرط في مرافقتهم. فالتواجد مع المحبوب يتطلب استعدادًا روحيًا، والتكبر هو أسوأ عائق أمام قبولهم.
جمال الأمر بالمعروف
الولي الإلهي هو جمال الأمر بالمعروف، يدعو إلى طاعة الله وينهى عن طاعة غيره. إنه قرآن ناطق يقود الناس إلى حياة عاشقة، بينما الولاية الحرام هي أسوأ صور المنكر.
حيل الولاية
المحبوب مليء بالحيل الولائية، يتصرف ويكتب بطريقة تجعل من الصعب إثبات شيء ضده. إنه يحيط أفعاله بظروف تتيح له التفسير بحرية، معتمدًا على الله صاحب كل حكم.
روح الله
الولي ال指标:1 الولي الإلهي ينفخ في الناس روح الله، فهو مظهر أسماء الله وصفاته. الوفاء به هو وفاء بالله، ومن لا يتبعه يبقى بلا روح. الولي يهدي الناس إلى النور، ويوضح الحق من الباطل، ويساعد من يطلب الحق.
الصراط المستقيم
الصراط المستقيم هو طريق الأولياء الإلهيين المحبوبين. المحب يحتاج إلى الاقتداء بالمحبوب ليقطع المسافة بسرعة ويصل إلى الله تعالى بحب وعشق. إن الشوق والحب هما ما يمنح حياة المحب معنى ويطرد الملل.
جوهر العرفان الإلهي
العرفان هو الوصول إلى الله تعالى بصورة مباشرة وعينية من خلال الباطن، تحت ظلال التربية الإلهية والرعاية الربانية. وموضوع العرفان هو المعرفة، التي تتحول في مرحلة التعليم الأولية إلى علم. لكنه ليس من قبيل العلوم الذهنية أو المفهومية، بل هو أمر قلبي، قوي، وعملي. وإن كان السلوك يتطلب المعرفة والوعي، فإن معرفة الطريق لا تعني السير فيه. فالعلوم المعنوية يجب أن تُعاش، وإن كان كل علم يتمتع بخاصية التأسيس فهو بحد ذاته قوة، إلا أن العلوم المفهومية – أو “المعلومات” بالتعبير الدقيق – التي تحمل طابع الحكاية والرواية، ليست سوى مفاهيم وأخبار محضة.
الحب والمعرفة لا يُكتسبان من مطالعة الأوراق أو من طعام الزوايا الروحية، بل هما نتاج الإخلاص والسير الواعي والقرب من الله تعالى، وهو ما يمنح القدرة على التمكين والاستقامة.
السالكون ومراتبهم
السالك الناسوتي أو المجاهد الذي يحمل في قلبه الرغبات والطمع قد يكون مذمومًا وناريًا كفرعون، أو ممدوحًا ونورانيًا. والممدوح قد يكون سالكًا خيّرًا يسعى لخير نفسه دون إيذاء الآخرين، أو سالكًا أفضل يطلب خير نفسه وخير غيره. أما السالكون المحبون فيتميزون برغبات أرضية محدودة وأنانية، ويسعون لتحقيقها، ولذا يُطلق عليهم الناسوتيون. وهم قسمان: المبتدئون والمريدون. المحبون المبتدئون يسلكون حياة صحية ومتناغمة مع الناس، ولا تقتصر همتهم على متعلقات الدنيا. أما السالكون المريدون فيجدون سعادتهم في التعلق بأحد الأولياء الإلهيين، مما يقلل من أنانيتهم، لكنهم لا يرضون بالبلاء، ويرغبون في الابتعاد عن الذنوب والوصول إلى الفضائل بشرط عدم التعرض للشدائد. كمالاتهم ناسProcessesion، وعرفانهم لا يتجاوز مرتبة شكر النعم، وهم يفتقرون إلى الصبر عند مواجهة الصعوبات، مفضلين الفرار.
من بين السالكين الناسوتيين يبرز السالكون القربيون والمحبوبون المحبون، الذين يبدأون مسيرتهم كغيرهم لكنهم لا يقتصرون عليها، بل يرتقون إلى ما هو أعلى. فهم يملكون الناسوت لكنهم يتخلون عنه بإرادتهم حتى يفقد جاذبيته بالنسبة إليهم. بعضهم يموت دون أن يملك شيئًا من متاع الدنيا، حاصدًا منها البلاء فقط. وغاية سير المحبوبين القربيين هي الوصول إلى إحدى الأسماء الإلهية، سواء كانت من الصفات الفعلية أو الوصفية. وكثير من الأنبياء كانوا من المحبوبين القربيين، أي من المحبين الذين وصلوا إلى إحدى أسماء الله تعالى عبر الجهد والرياضة في أزمنة وأعمار مختلفة.
نفي الطمع وتحقيق القرب
السالكون القربيون يستطيعون التشبه بالمحبوبين الحقيقيين، وجعل بعض رغباتهم إلهية. فمثلاً، ينبغي عليهم نفي الطمع من الغير، بحيث لا يحمل تحيتهم طمعًا بممتلكات الآخرين، أو رغبة في التخلص من الوحدة، أو السعي وراء المنفعة أو حتى الخير. بل ينظرون إلى الناس كمظهر لله وباعتبارهم عبادًا له. ثم يأتي نفي الطمع من النفس، وهي مرتبة أصعب، حيث لا يستفيد السالك من ذاته. وفي المرحلة الثالثة، يُنفى الطمع من الله تعالى، بوصفه رب العالمين، فتصبح الصداقة مع الله قائمة على المودة الصرفة، دون أن تتدخل ممتلكاته أو قدراته أو جنته أو ناره أو عوالمه في هذه العلاقة. ولا يمكن لأحد أن يصاحب الله إلا إذا تخلى تدريجيًا عن السعي لتحقيق رغباته والتسول، ولم يعد يمد يده لأخذ شيء لنفسه. بهذه الطريقة يمكن الاقتراب من مقام الحب الإلهي، وبإذن الله، الوصول إليه.
منزلة التلمذة للأستاذ المحبوب
في العرفان والقرب من الله، تُقاس قيمة الفرد بأستاذه ومعرفته بمقام هذا الأستاذ. والفرد الذي يحظى بتلمذة أستاذ محبوب حقيقي، بناءً على المعرفة والوعي وليس التقليد، يحتل مرتبة أعلى. فمبدأ “الأستاذية” هو أحد أركان السلوك، بل هو الركن الأهم والمحوري. فباطن الفرد وقربه من الله تعالى يرتبطان ارتباطًا مباشرًا بقوة ومنزلة أستاذه. لذا، تُعرف مرتبة الفرد من خلال أستاذه. ولا يمكن لأحد أن يكون من أهل الغيب إلا إذا كان واضحًا بالنسبة إليه من الذي تلقى منه الأوامر والتوجيهات، ومن الذي قبله وأوصله إلى الحق.
في المسار الروحي، لا يمكن الارتباط بشيخ مجرب أو أستاذ محبوب إلا بالانجذاب الباطني إليه، وبالحب والولاء الفطري له. فحب التلميذ وإخلاصه لأستاذه يجعله لا يشك فيه، ولا يضع شروطًا لمواكبته، بل يصاحبه بصدق تام وانسجام قلبي. تحقيق القلب والحكمة القلبية والمعرفة الروحية يتطلب الثقة واليقين بالأستاذ، وهما العاملان اللذان يمنحان قوة السير والقدرة الإنسانية. ومع ذلك، يجب التحقق من صدق الأستاذ وصحة طريقه، لكن من لا يجد أستاذًا يثق به ويوقن به لن يصل إلى القلب والمعرفة. وفي البداية، قد يكون من الصعب الوثوق بالأستاذ وصحة طريقه، مما يعرض المرء للخطر، فيصبح متزعزعًا ويفقد اليقين والثقة. وهذا هو أكبر عائق أمام النجاح. وبعد تحقيق اليقين والاعتقاد الكامل بالمرشد، لا يجوز الشك أو وضع الشروط.
السالك المحبي
السالك المحبي يجب أن يكون مجربًا، متمرسًا، بعيدًا عن الترف، يتغذى بالرزق الحلال، ويولي أهمية للخلوة والظلام، ويستمد العون من التسامح والإيثار، ويعكس في سلوكه أخلاق أهل المعرفة. عليه أن يثق بسلوكه ويؤمن به، ويكتسب المعرفة تدريجيًا عبر الرياضة والجهد، ويخصص لذلك وقتًا، ويطرد اليأس من قلبه، فقد يتطلب الأمر عقودًا من الجهد حتى يُفتح باب. عليه أن يؤدي عمله بإتقان ويعلم أن الباقي لا يعنيه.
يجب أن يتحلى بالرياضة، العبادة، النوم المنتظم، صفاء الباطن، الصحة، الصدق، الخلوة، والابتعاد عن التعددية، الكذب، الظلم، والحرام. لكن ما يحدث وما يترتب على ذلك قد لا يكون مفهومًا للسالك المبتدئ، إلا في بعض الآثار كالوجد والحزن. في العرفان، لا ينبغي السعي وراء ما سيحصل من الرياضة، بل يجب أن يكون المرء عبدًا راضيًا بما يضعه الله في طريقه.
القلب المحبي
في سلوك المحبين، يصبح المرء صاحب قلب إذا تجاوز البدايات، الأبواب، المعاملات، والأخلاق، ودخل في القسم الخامس من المنازل، وهو “الأصول”. مثل هذا الفرد يكون قد اكتسب “أصلاً”، فيُمكن الوثوق به واعتباره أمينًا يُسلم إليه الأمانات، لأنه يملك “قلبًا” وثمرة هذا القلب. قلبه، بفضل التدريبات السلوكية، قد نال القرب و”السر” أيضًا. لا يظهر شيئًا من ذاته، ولا يدعي شيئًا، وهو أمين موثوق على أسرار الله التي أُودعت إليه بموهبة. فمن أصله القلب، ومرتبة “السر” هي زهرة قلبه. في الحقيقة، الأسرار الإلهية هي نماء القلب وفيض الله، ونتيجة نماء صاحب القلب هي العطاء الإلهي.
“السر” وموهبة السلوك يجب أن تكون موهبة باطنية في الفرد، وإلا فلن يصبح أحد صاحب سر بمجرد العرفان المكتسب أو التعليمي أو العلم الأكاديمي. يجب أن تكون موهبة السلوك فطرية، ومن خلال قبول المرشد الروحي والعمل بتوصياته الروحية، يمكن صقل هذا الكنز الخفي. العارف هو من يكتشف مواهبه الباطنية ويصل إليها بوعي ويعايشها.
المعرفة وتحقيق الذات
في السلوك الروحي، لا يسعى الفرد للحصول على شيء، بل عليه أن يكتشف ما يملكه من مواهب خفية ويجدها. المعرفة ليست تعليمية، بل هي قربية، واكتشاف للأسس الباطنية بمساعدة المرشد، وهي أمر وصولي وتحققي. في السلوك، يجب أولاً أن يكتشف المرء ذاته، ثم يتخلص منها ويفقدها، حتى يصبح الله تعالى وحكمه هو الحاكم والمدير له.
في النظام الإلهي الأحسن، كلما ظهر العقل أو القلب أو “الأنا” والاستقلال الوهمي، يتم تكسير هذه الأنا. يجب تطهير العقل والقلب من الاستقلال الوهمي والاعتقاد بامتلاك ذات مستقلة إلى جانب أو في إطار الذات الإلهية المباركة.
الإلهامات العقلية والقلبية
بنفي الطمع، يمكن الوصول إلى سكون العقل والتحرر من الإلهامات العقلية والنفسية، وكذلك الوصول إلى القلب وتشغيل محرك الوعي هذا، ثم تجاوز المراتب الثلاث الخاصة: السر (المحو وتوحيد الأفعال)، والخفي (الطمس وتوحيد الصفات)، والأخفى (المحق وتوحيد الذات)، للوصول إلى حالة اللّاتعين.
الإلهامات النفسية، التي تختلف عن الإلهامات العقلية وتدخل إلى العقل، قد تكون صورية (ذات شكل وتمثل) وشيطانية، أو معنوية رحمانية. الإلهامات الصورية الشيطانية قد تنشأ من تدخل العقل والجسد الملوثين وخيال غير صحيح، أو من تدخل عوامل معنوية كالشياطين التي لا صدق فيها. لكن هذه التدخلات لا تؤثر على المحبوبين الأوائل والذاتيين، الذين يتمتعون بعصمة نسبية بموهبة إلهية.
فاعل وغاية الإلهامات الرحمانية هو الله تعالى، والقرب هو غايتها، والرب هو فاعلها. هذه الإلهامات تحمل طابع القرب والربوبية، بينما الإلهامات الصورية تخلو من هذا الطابع. الإلهامات الرحمانية قد تمنح معرفة بالحقائق الثابتة أو بالأمور المتغيرة والحوادث. وهذه الأمور، سواء كانت معنوية أو صورية، قد تكون بلا وساطة أو بوساطة كالسحر والشعوذة، وهي أمور غيبية وباطنية وليست عقلية (على عكس الخدع والألعاب التي ليس لها طابع معنوي أو غيبي وهي عقلية)، أو كاستخدام الجن والملائكة، أو تعيين موكل، أو قبول مكمل كامل.
الفرق بين العقل والقلب
الوعي العقلي، إذا كان الباطن صافيًا، يمكن أن يخضع ويطيع قلبًا يحمل نور العناية الإلهية، وبتسليمه للقلب يصبح عقلًا متّقدًا بالقلب، دون أن يتعارض معه، بل يستمد من جهاز القلب صفاءً ونورانية أكبر. وكذلك، يمكن للعقل والباطن القويين أن يجعلا الرغبات والهوى خاضعة لهما، ويطردا الطباع الأمارة بالسوء. وعلى العكس، إذا كانت الرغبات أقوى من العقل والوعي الصحيح، فإنها تضعف العقل وتتغلب عليه وتتدخل في قراراته.
العقل يقدم طريق الكمال وخريطة التطوير، لكن القلب هو الذي يقود الطريق ويوصل الحقائق ويحقق التطوير. العقل يتحدث عن صفات الظواهر وفي النهاية ينتج فلسفة، بينما القلب يوصل التعيّن ذاته والحقيقة نفسها، وهو حضور الحقيقة ورؤيتها أو الوصول إليها. وغاية الوعي القلبي والمعرفة هي الحيرة، حيث يؤمن العارف بالحقيقة ل مجازًا ولكنه لا يدرك كنهها.
قرب الفرائض والنوافل
تحدثت في كتاب “الوعي والإنسان الإلهي” عن الأقسام الأربعة للقرب، وعن قسمين منها: قرب النوافل وقرب الفرائض. الفريضة هي القرب الحقيقي والإلزامي، وهي سريان الحق في الخلق، حيث يكون الحق فاعل العمل في جوارح وجوانح العبد. أما النافلة فهي قرب غير إلزامي، لأنها سريان الخلق في الحق، والفرد مشارك في العمل وفاعل له على جوارح الحق تعالى. هذا التعبير مستمد من التراث الشرعي وانتقل إلى العرفان.
أقرب الطرق وأفضل ما يقرب إلى الله هو الفرائض، ويجب الاهتمام بها. قرب الفرائض يؤدي إلى الفناء والريزش. فناء العارف أمر حقيقي وعيني، وليس علميًا. ذروة قرب الفرائض هي الولاية والعصمة، وهما موهبتان تُمنحان للفرد بصورة فطرية، وتخضعان كليًا لإرادة وعناية الله وحبه. لذا، فإن المحبوبية تؤدي إلى الولاية، النبوة، الرسالة، والإمامة. العصمة والولاية هما باطن النبوة والرسالة والإمامة، وهما أشرف كمالات الإنسان. الولي والنبي هما وسطاء الله تعالى مع الظهور والفيض، والإمام يستمر في ذلك ويضمن بقاءه بعصمته العلمية والعملية.
إذا شاءت إرادة الله أن يمنح فردًا عناية خاصة، فإنه يطهره من الرجس والدنس، ويمنح ذراته المادية كرامة على مدى مئات السنين، ويجمعها في لحظة انعقاد النطفة، فيتشكل معجزة المحبوب الحقيقي والذاتي، كما تخرج الناقة من قلب الجبل في لحظة. هذه القوة هي خلاصة وجوهر متراكم نابع من عناية وإرادة ومحبوبية الله تعالى.