مقدمة كتاب: الوعي والإنسان الإلهي
مقدمة كتاب: الوعي والإنسان الإلهي
بسم الله الرحمن الرحيم
هو الله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة، هو الرحمن الرحيم
{إن الحكم إلا لله} [الأنعام: 57]
صادق خادمي
الوعي والإنسان الإلهي
1402 هـ.ش | العدد 1
بيانات النشر
سرشناسه: خادمي، صادق، 1356 هـ.ش
العنوان واسم المؤلف: الوعي والإنسان الإلهي / صادق خادمي
بيانات النشر: شيراز: صبح انتظار، 1402 هـ.ش
المواصفات الظاهرية: 496 صفحة
الشابك: 978-622-7426-42-7
حالة الفهرسة: فهرسة في النشر (فيبا)
ملاحظات: يحتوي على قائمة مراجع
الموضوعات:
– الوعي — الجوانب الدينية — الإسلام
– الخلق (الإسلام)
– الفلسفة الإسلامية
تصنيف الكونغرس: BP250
تصنيف ديوي: 297.63
رقم التسجيل الوطني: 9421304
بيانات التسجيل الببليوغرافي: فيبا
تحليل مفهوم الوعي: دراسة تأصيلية في الفلسفة والمعرفة
مقدمة
الوعي هو وصف جامع للإدراك، والفهم، والعلم، والحكمة، والمعرفة، مصحوبًا بالانتباه واليقظة. والعارف هو من يعلم ويعي علمه، فيبني بذلك وعيًا ذاتيًا ويقظة فكرية. أما العلم والمعرفة فهما رواية منهجية موثقة للواقع. هذا الكتاب يقدم تحليلًا عميقًا لماهية الوعي، وكيفية تحققه في الإنسان المادي، وطبيعة عقله، ودراسة الفيزيائية العقلية، مع مقارنة بين الوعي العقلي المادي والعلم، وبين الوعي الإلهي الذي يستقر في القلب، والحكمة، والمعرفة. كما يتناول الفروق بين الوعي العقلي والقلبي، والوعي الذاتي الناتج عنهما، ويسعى للإجابة عن أعمق تساؤلات فلسفة العقل.
العلم والوعي هما جوهر الحياة المميزة لكل ظاهرة وفرد، وهما ما يمنحان الإنسان تميّزه النوعي. إن شخصية الفرد وحقيقته وماهيته الظاهرية – لا الجوهرية – ومعناه تتجلى في علمه، ووعيه، ومعرفته، واكتشافاته عن الحقيقة. فالإنسان هو مجموع معارفه، وأحكامه، ومعتقداته التي يوليها انتباهًا إراديًا. إذ يصبح الإنسان متماهيًا مع ما يرتبط به من وعي، وإيمان، ومودة، ومحبة، وحكم إرادي. وبحسب معارفه وإدراكاته، يتعدد تميّز الإنسان الظاهري، وتتكاثر شخصياته. فبالوعي والأحكام يتشكل الفرد، ويصبح ضيفًا أبديًا لأعلى مراتب وعيه، ومصيره المعرفي، وشبكة أحكامه. وهكذا يرى الله وكل ظاهرة من خلال جودة معرفته وتصديقاته وأحكامه.
الوعي لا يتساوى مع الجهل؛ فالوعي يمنح جودة ويرفع المراتب، بينما الجهل وعدم السعي للمعرفة يؤديان إلى الحيرة، والعبثية، والغرق في الفراغ. وقد وصف أمير المؤمنين الجاهل بأنه «همج رعاع»، فاقد لمقياس الإنسانية والقرب الإلهي. فالعالم والجاهل لا يتساويان في القيمة والمعنى، وإنسانية الإنسان تكمن في علمه، وحكمته، ومعرفته، وأحكامه، وعقيدته. هذا الاختلاف له تبعات فعالة في صحة الحياة الدنيوية وسعادة الخلود، كما حذّر القرآن الكريم: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: ٩).
خُلق الإنسان مكرمًا بالعلم، وبالوعي القلبي يصبح إنسانًا إلهيًا. فقد افتخر الله بعلم آدم القلبي عند خلقه، وتباهى بمعارفه الموهوبة أمام الملائكة. قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} (البقرة: ٣١). ثم طلب من الملائكة أن يذكروا الأسماء، فلما عجزوا، أمر آدم أن يخبرهم بما تلقاه من الله. قال تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ} (البقرة: ٣٣).
وفي سورة الرحمن، التي تُعد عروس القرآن، جعل الله أبرز معالم رحمانيته في تعليم القرآن، وخلق الإنسان، وتعليمه البيان. قال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} (الرحمن: ١-٤). فالرحمة الإلهية تتجلى في التعليم والتعلّم، والسؤال، وخلق الإنسان الذي يقتضي التعليم والمعرفة بروح التعاطف والرحمة.
تأمل الله في ذاته بعلمه، فكان أول وعي، ثم تجلى بحب ذاته في خارطة الخلق. فالخلق كله علم، والطبيعة مشبعة بالمعرفة والتعليم. والإنسان ذاته وعي، وفي عوالم الوجود تتعدد أنواع الوعي. فكل ظاهرة تحمل تراكمًا معرفيًا حضوريًا فريدًا. ففي العلم الحضوري، يكون العلم عين المعلوم، والواقع حاضر لدى العارف. والحقيقة ذاتها علم ووعي، لكنها في إطلاقها تخفى بشدة ظهورها، ويصبح ظهورها معلومًا ومدركًا عند التعين.
ماهية العلم والوعي
فما هو العلم والوعي؟ وكيف ندرك الوعي الذاتي؟ وما هي منهجية اكتساب الوعي؟ يتناول هذا الكتاب العلم والوعي من حيث إمكاناته، وحدوده، وقيمته، وأنواعه، وأدواته، ومناهج التعليم والتعلّم، وواقع الوعي كما هو، وحقيقته كما ينبغي أن يكون. كما يبحث في الإنسان الإلهي الذي يصبح معنويًا بوعيه، وأي الوعي يجعله إلهيًا، موثقًا بالله، ومرتبطًا به، وذَا معنى.
الوعي مفهومي ومعنوي ومصداقي، وباختلاف أنواعه يكون كيفيًا ومؤثرًا في الحياة، فيمنح الإنسان معنى ويفرّق بين الأفراد. فمن لا يملك وعيًا حكميًا وقلبيًا، ويقتصر على الوعي المفهومي المنفصل عن الباطن، يصير حائرًا ذا مسار أفقي. أما من يمتلك المعنى والقرب، ويتصل بالحقيقة، فإنه بحكم العناية الإلهية المباشرة، أو بالارتقاء الصعودي، يحيا حياة إلهية طيبة مباركة، ذات مسار عمودي. وهذا الكتاب يتناول مناهج الوعي هذه.
الحضور هو معيار المعرفة. فالوجود أو الظهور لا يكفي ليكون معلومًا للعارف، بل يحتاج إلى حضور يتشكل بربط متناسب وانسجام، يتطور من الارتباط إلى الشوق، فالمحبة، فالاتحاد، فالوحدة. والوحدة درجات، أعلاها الوحدة العقلية المتجردة، التي تحمل أعلى درجات الابتهاج والنشاط، بل وأعلى من ذلك، الوحدة في الله تعالى، في غياب التعين، حيث البداهة القصوى التي لا تقبل التعريف.
دراسة مقارنة للعلم
يقدم هذا الكتاب دراسة مقارنة لمسألة العلم والوعي، ومراتب الإنسان الناتجة عن اختلاف أنواع وعيه، أي الإنسان المادي والإنسان الإلهي، من خلال مقارنة البيانات التجريبية، والاستدلال الفلسفي، والحكمة، والشهود الباطني، والنصوص الدينية، ومصادر الوحي الإلهي. ويوضح الشروط الضرورية والكافية للإدراك، والفهم، والشهود، وأنماطها المفهومية، مؤكدًا أن الإنسان العادي لا يكتسب المعنى إلا بالارتباط الولائي بالإنسان الإلهي، الذي يتصل مباشرة بالله قلبيًا، فيمتلك الوعي، والمعنى، والمعرفة، والحقيقة.
نظرًا لتعدد أوجه مسألة الوعي، فإن الدراسة تتطلب نهجًا متعدد التخصصات، وإلا أدت الدراسة أحادية المنهج إلى تحريف المسألة. فالنهج المتعدد لا يعني جمع الآراء التجريبية، والعقلية، والشهودية، والوحيانية جمعًا ميكانيكيًا، بل يقيّم قدرة كل نهج على كشف المسألة وتبيينها.
المنهج التجريبي
المنهج التجريبي والاستقرائي هو الطريق الأبسط والأقصر والأكمل لفهم الوعي واكتسابه، ونقطة انطلاق ناجحة وملهمة. وقد استفاد هذا الكتاب من أدق الروايات المختبرية القابلة للقياس البيولوجي، ودراسة الأنشطة الحيوية للجسم، وعلاقتها بالبيئة، وعلم الأعصاب، وآلية عمل الدماغ، والقلب، وسائر الأعضاء، ودور الكون في تجربة الوعي والمعرفة، بأسلوب مبسط خالٍ من التعقيدات الاصطلاحية، وبما يتناسب مع متطلبات الكتاب.
المنهج الفلسفي
يعتمد الكتاب، في دراسة الوعي والعلم، على المعرفة التجريبية، ثم ينتقل إلى التفلسف المفهومي، مستخدمًا العقلانية للبحث عن معنى الوعي، وآلية المعرفة، ومنهجية إنتاج العلم. ويحلل البيانات الفلسفية الشرطية المتعلقة بمعرفة المعرفة. وقد حُرص على منهجية متناسقة تستند إلى أدلة بين-ذاتية، وتتناول الوعي، والعلم، وآثاره، وأحكامه، والأنثروبولوجيا، بأسلوب فلسفي برهاني. ولتجنب الوقوع في الاصطلاحات الفلسفية المتخصصة، ركز الكتاب على الوجود وأحكامه وأحواله، والقضايا البرهانية المطمئنة، دون التقيد بمذهب فلسفي معين، مع الحرص على الإيجاز وتجنب الإطناب.
من نتائج هذا البحث أن الجهود العقلية والفلسفية التقليدية، رغم عظمتها، لم تنجح تمامًا في فهم الوعي، سواء في الذهن المادي، أو في الوعي الموهوب المنزل كالوحي الإلهي، أو في السير الصعودي القلبي. ويعود ذلك إلى افتراضات خاطئة في مسائل الفلسفة التقليدية الأساسية. حتى الحكمة المتعالية لصدر الدين الشيرازي، ورؤى ما بعد الصدرائيين، تعاني من أخطاء منهجية أبعدتها عن تحليل دقيق للوعي والولاية. فالفلسفة، بطبيعتها، ترفض التقليد، وبخاصة إذا تم نقلها بمحتواها التاريخي إلى العصر الحديث دون تجديد، مما يؤدي إلى تحريف الواقع.
الفلسفة المفهومية، عندما تتكامل مع الحكمة القدسية، والطبيعة، والتجربة، والمختبر، تصبح منطقًا ماديًا متجددًا، فلا تبقى محصورة في التاريخ، بل تتحول إلى معرفة قوية، فعالة، حديثة، ومتفاعلة مع المجتمع. إن مشكلة الفلسفة المفهومية تكمن في انفصالها عن أهل الحكمة القلبية والولاية الباطنية خلال عصر الغيبة الطويل. فمنذ أن فقدت الفلسفة الحكماء القلبيين، وأصبحت حكرًا على الفلاسفة المفهوميين، انحدرت إلى التجريد الذهني المنفصل عن الواقع، خاصة أن الله، مصدر الكمال والظهور، لا يُدرك إلا بالقلب، بينما يعجز العقل عن إدراك ذوقه.
الوعي الحضوري
العلم في ذاته حضور كلي، والعلم الحضوري يتجاوز الوصف، وإن كان مدركًا. يمكن، كما سنبين، الوصول إليه بمعرفة مفهومية وعقلية، لكنها معرفة مشوبة بالحدود الأداتية، تمثل معبرًا مؤقتًا. أما إذا بلغ العارف الحضور بلا واسطة، مستعينًا بقلب عاشق وتجربة باطنية نقية، فإنه ينال معرفة واضحة جلية. لذا، يعتمد هذا البحث منهجًا وجدانيًا يركز على الحضور في مشهد الإدراك والمعرفة، مع الاستفادة من الروايات الموثقة لهذا الحضور، وتحويله إلى مفاهيم بين-ذاتية، لفهم العلم والوعي عقليًا.
المعرفة الحضورية هي نظام من الآراء المنسجمة، المستندة إلى الشهود، حول الوجود والحق تعالى، وكيفية الوصول إلى الحقيقة بذوق وانغماس. لا يقصد بها النصوص المكتوبة أو الآراء العرفانية المتداولة، التي قد تتعدد أو تتناقض. للوصول إلى ينبوع الشهود النقي، يلزم نظام معرفي تراكمي، قائم على نظرية بحثية للإنسان الإلهي، خصوصًا الإنسان المحبوب إلهيًا بمنحٍ إلهي نازل. هذا الإنسان يمتلك تجربة حب نقي، وعلمًا جامعًا، ووعيًا كليًا، وقدرة على الرؤية والشهود المعنوي، بل وكمال المعرفة، محققًا بذلك الحقيقة الكاملة بموهبة إلهية، وبصدق تام، وقدرة على إيصال الإنسان الطبيعي إلى الحقائق عينيًا.
النظام المعرفي التراكمي يصل إلى حقيقة العلم والوعي التكوينية مباشرة، بلا واسطة نصوص أو مفاهيم، في غاية الشفافية والوضوح. هذا النظام، بما هو تجربة معرفية وشهودية باطنية، يتجاوز قيود الإدراك الاستقرائي والحواس المعروفة والمفاهيم العقلانية، فيكون أقوى وأدق. لذا، يقتضي العقل أن تُعتبر هذه القضايا موثوقة، لتمهيد السبيل لاختبارات استقرائية في مختبرات ملائمة، للمقارنة والتقييم.
النظام الشهودي التراكمي يبلغ الحقيقة التكوينية مباشرة، دون حاجة إلى وساطة النصوص أو المفاهيم، التي تظل في مرتبة أدنى بكثير من الشهود الأصلي. هذا النظام ينقل الواقع، وفي الشؤون العبادية، يساعد على فهم الشريعة بدقة ضمن آليات الاجتهاد الديني. إنه قابل للنقل قلبيًا ومصداقيًا، ويمكن روايته، والاقتداء به، والتسليم به بثقة وإخلاص، استنادًا إلى نصوص تراكمية تعكس مشاهدات القدسيين والإنسان الإلهي، ضمن نظام معرفي متكامل ومنسجم منطقيًا.
الوحي القرآني
يتفوق على سائر المناهج البحث العملي القائم على الأنس بالنص القدسي للقرآن الكريم، الذي يمثل وصفًا وحيانيًا للحقائق. الأنس بالقرآن، بطهارة ظاهرية وباطنية، يمنح وعيًا متكاملًا، ويشكل علاجًا لجميع مشكلات النفس والروح. قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة: ٧٧-٧٩).
الدين الوحياني يستند إلى الوحي الإلهي، وهو، كما يوضح الكتاب، إنشاء إلهي مباشر، موثق بالله، وموهبة نازلة، لا نتيجة جهد بشري أو ارتقاء. الوعي الوحياني يختلف عن التجربة والمكاشفة العرفانية، فلا يمكن اعتبار الوحي مكاشفة أو رؤيا خيالية. المكاشفة تتعلق بالحوادث أو الحقائق؛ فرؤية الحوادث نوع من الاستدراج، وتمنع الإشراف على الحقائق المعنوية والمجردة. أما الكشف عن الحقائق فيحقق الإنسان ويوصله. وإن لم يرتبط بحقيقة، بلغ مقامًا جامعًا.
الوصول إلى المعارف الوحيانية الخاتمة يخضع لنظام انتقائي، لا لجهد بشري. الوحي، إذا تجلى في نصوص قدسية، يُفهم عبر الاجتهاد الديني، مستندًا إلى العقل وتناسب الملكة القدسية، أو يُرى بعقل أو بأنواع رؤية أخرى. الملكة القدسية في الاجتهاد الديني تُحيي النصوص الصامتة، وشبكة الحكمة القدسية، إن مُنحت، تسيطر على النص.
المصدر الأبرز لفهم الوعي وساحاته هو النص القدسي للقرآن الكريم، الذي يُدرك بسير باطني وملكة قدسية، عبر الأنس والطهارة والقرب. الحكماء الفرزانة، الموهوبون بالعقل النوري، يدركون الوحي القرآني، لا الإلهيات أو الفقه الظاهري الذي أهمَل الولاية الباطنية الشيعية. وسيأتي لاحقًا تأثير الظاهريين على جودة العلم والوعي في المجتمع الإسلامي.
القضايا الوحيانية والرسالية هي صيغ نقلية للحقيقة، وأدوات لكشفها عبر الأنس والاجتهاد القدسي والديني. الاجتهاد الديني يستند إلى العدالة (الملكة القدسية أو الولاية الموهوبة)، ويلتزم بالعلم والبحث. التزام العلم الاستقرائي، الذي يؤثر في تحديد موضوع الحكم، وتأكيد دور الإخلاص والحب وضرورة الإرشاد في التعليم المتخصص، هي عناصر مهجورة في نظم التعليم والاجتهاد الديني.
القضايا الوحيانية والرسالية للدين الخاتم، وهي علم موثق ومدد للمعرفة، تنظر إلى حقائق النفس الأمرية والواقع الضروري للبشر، حاكية إياها بكمال، وأحيانًا بنسبية. بعض المعارف الفلسفية والتكوينية، كالبديهيات والقضايا الرياضية، هي حقائق محضة، لا تخضع للنسبية. النسبية ليست وصفًا للحقيقة العينية، بل للعارف. لذا، الخير والشر، والكمال والنقص، أمور نسبية؛ فما هو خير لفرد قد يكون شرًا لآخر. الخير هو الميل الحيوي والفطري لكل ظاهرة، فمن يعلم أي وعي يناسب من، وما الصواب وما الخطأ؟
الوحي غيب في ذاته، ورواية إلهية مباشرة، تنقل من غيب البشر والظواهر إلى العقل والعلم. الغيب نسبي، فالمرتبة العليا غيب بالنسبة للأدنى لمن لا يملك القدرة على رؤيتها. الوحي واسطة تحول الحقائق إلى معانٍ. الظهور والتجلي، في نزوله العلمي وصعوده العملي، له مراتب متناسقة، تُعد غيبًا أو شهودًا بحسب المتلقي. لذا، الغيب نسبي.
فهم هيكلية الوعي وحقائقه عملية منهجية ذات منطق علمي. معيار الحقيقة هو كشفها الخارجي، الذي يحققه الدين عبر الوحي، والإدراك الشهودي عبر المعرفة، ويتماشى مع العلم التجريبي والمفاهيم الفلسفية. صدق المعرفة ينسجم مع الحقيقة، فإذا تجنبت طبقات الوعي تشويش الجهل، فإن جميع المناهج تروي رواية واحدة، ومنطقيًا، تُنتج قضية صادقة واحدة، لا قضايا متعددة.
الكتاب الحالي: الوعي والإنسان الإلهي
كتاب «الوعي والإنسان الإلهي» يقدم نظامًا منسجمًا يجمع مناهج علمية وفلسفية، يمكن أن يؤسس نظم التعليم والتربية، ويُحدث تحولًا في فهم الاجتهاد الديني، ويجددها في عصر تبادل المعارف وتكامل الإرادات. بعامة، يشكل هذا النظام أسلوب وعي وأفكارًا لحياة ذات معنى.
الكتاب يتتبع الوعي والتعليم بمنهج جامع بين العلم، والفلسفة، والعرفان، والدين، من النشأة إلى الختام. ومع عظمة ساحة العلم والوعي، المرتبطة بالوجود اللامتناهي والله، فإن ما تحقق محدود جدًا، خاصة مع الإيجاز. ومع نسبية الوعي، لا يمكن إلغاء خطأ أي فكر بشري، بما في ذلك هذا الكتاب. لذا، يعتمد تحسينه على نقد المهتمين ودراسة متأنية ومناقشات جماعية.
يستند الكتاب إلى رسالة «ساحة أهل البيت الغيبية»، دُافِع عنها في سبتمبر 2004 في مشهد الرضوية، قرب ضريح الإمام الرضا. تناولت الرسالة مقارنة بين الفلسفة، والعرفان، والدين، وكانت نواة الكتاب الحالي، الذي نُشر عام 2023. تؤكد الرسالة أن الإنسان الإلهي، خاصة أهل البيت، يمتلك ساحات غيبية إلى جانب الطبيعية والنفسانية، مرتبطة بروحهم الإلهية، ويتمتع بوجه رباني مباشر، يبلغ في الخمسة الطيبة مقام الذات الإلهية. هذا الامتداد يمنحهم الشرف والقداسة، فوجههم الخلقي مستغرق في وحدة ربانية، مما يجعلهم أشرف الخلق. الإنسان الإلهي، بمحبوبيته التكوينية، مظهر الحقيقة الكاملة، متمتع بالعصمة والنورانية، ولا يفارق الدنيا إلا بالشهادة.
يتميز الكتاب بشموليته، وتجنب الإفراط في تفسير روايات الولاية، وحل تعقيدات قبول الساحات الغيبية لأهل البيت، وتوضيح الإطار الشيعي للإنسان الكامل، وتنظيم دلالة النصوص المعرفية. هذا يعزز المعرفة ويفتح آفاقًا جديدة لفهم الحقائق الإلهية. لم يُعرف حتى الآن عمل جامع حول الولاية، وما وُجد كان متفرقًا. الكتاب يقدم رؤية شاملة ومتعددة التخصصات للوعي.
يتناول الفصل الأول ماهية الوعي وعقل الإنسان المادي، موضحًا أن الوعي الناتج عن الحواس والخيال والعقل المفهومي له أصل مادي، يشكل مع الدماغ والقلب وأعضاء الجسم نظام الوعي البشري، أو الفيزيائية العقلية. هذه المادة يمكن أن تترقى بالانسجام والإخلاص والحب والمعارف الصحيحة والبحث المنطقي والإرشاد، فتتحول إلى تجرد ووعي قلبي وحكمة إلهية. هذا موضوع الفصل الثاني، الذي يرتقي بالإنسان المادي إلى الإلهي المتجرد.
من أبرز صفات العلم والوعي حقيقته، وتكوين الهوية، وبقاؤه الأبدي. الوعي ليس أمرًا اعتباريًا، بل صفة حقيقية تحفظ العارف في الدنيا والآخرة، وتديم شخصيته ومعرفته، خاصة في القرب من الله. الوعي القلبي أكثر إنتاجية في العوالم الأخرى مقارنة بالدنيا.
تشكلت الرسالة الأساسية لهذا الكتاب في أجواء حرم الإمام الرضا، بإرشاد الأستاذ الدكتور سيد مرتضى حسيني شاهرودي، وبإلهام من آثار الأستاذ آية الله محمد رضا نكونام. كما أتقدم بالشكر للدكتور غلامحسين إبراهيمي ديناني لمشورته. {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحج: ٤١).
صادق خادمي
طهور المعرفة حرية، وحياة الوعي ديمومة
سبتمبر 2004، مشهد الرضوية / سبتمبر 2023، قم المقدسة