في التجربة والاستقراء كأساس للعلم والوعي
في التجربة والاستقراء كأساس للعلم والوعي
الإدراك الحسي والتجربة
إن أولى المعارف والوعي تنبثق من الإدراك الحسي وتجربة الأشياء. فالتجربة والاستقراء هما وحدة الوعي والمعرفة للإنسان المتجسد في طبيعته البشرية. يقوم الإدراك الحسي على استقصاء المعلومات وتلقيها من خلال الملاحظة، والتجربة، والتكرار، والقياس، والاستدلال التحليلي، وهو ما يُعرف في المنطق بالمنهج الاستقرائي.
يُعدّ الإدراك والوعي، سواء في مرحلة الإدراك الحسي أو في إدراك المفاهيم والمعقولات، مسلكًا عامًا يشترك فيه الجميع. ومع ذلك، فإن منهجيته ودقته تخضعان للتجربة والوصف والتحليل، بحيث يختلف إدراك كل فرد بحسب إمكاناته العقلية وأدواته التجريبية، مما يجعل تجربته فريدةً ومتميزةً عن الآخرين.
تحول نظام الفهم والمعرفة
مع تجاوز نظام الماهية في الأسس المنطقية، يتحول نظام الفهم والوعي والعلم؛ فبدلاً من المقولات الأرسطية ونظرية الكليات الطبيعية، تأخذ العلوم التجريبية، كعلم الأحياء وغيره، مكانةً مركزيةً في تعريف الموضوعات وفهمها، معتمدةً المنهج الاستقرائي. ويُعدّ هذا المنهج، بفضل دوره الأساسي، مدخلاً للمنهج الاستنتاجي.
يرتبط الذهن المادي وجهاز الإدراك البشري بالواقع الخارجي مباشرةً من خلال التجربة والاستقراء، متفاعلاً معه بتجانسٍ وتآلفٍ. ويُدرس الوعي، بوصفه واقعًا عينيًا، باستخدام المنهج التجريبي والمعامل البحثية لفهم طبيعته وخصائصه.
تعميم التجربة ودور الخيال
يتعلم الإنسان من التجربة والاستقراء، فيعمم ما اكتسبه على أشياءَ ومواقفَ جديدةٍ، ويطبقه في اتخاذ القرارات وتفعيل الوظائف البشرية. ويتشكل الوعي من خلال تفاعل الشهود والخيال النشط في الذهن، مع تكاملٍ منسجمٍ بين النظريات السابقة، والحلول، والنماذج، والواقع. وهكذا، يكتسب الوعي عمقًا من خلال إدراك الظواهر وسطحها، ليُنتج أحكامًا ذهنيةً وتفسيراتٍ مفهوميةً.
إن التكامل بين المنهج الاستقرائي والقياسي، واكتشاف المبادئ الكلية من خلال التعميمات الاستقرائية، بما يشمل التخمينات الدقيقة المستندة إلى تحليل تجربةٍ واحدةٍ، إلى جانب المنهج الأصلي القائم على الخيال الخلاق، يُسهم في تطوير جميع المعارف والعلوم.
المنهج الأصلي وعلاقته بالواقع
في المنهج الأصلي، يتم استنباط المبادئ التي تحدد العلاقات بين القضايا والتصديقات المتآلفة والمترابطة، وتُقيَّم مدى تناسق هذه المبادئ مع الواقع الخارجي، مع السعي لتأكيدها تجريبيًا من خلال البيانات. ويمكن للإدراكات الحسية، بوصفها أفعالاً طبيعيةً، أن تُشكل افتراضاتٍ مسبقةً للتفكير، فتؤثر على الذهن عبر التجربة الحسية، وتكون فعالةً في توجيهه.
بعض الإدراكات تنبع من البيانات الغريزية والفسيولوجية، ومن وظائف الأعضاء، وكذلك من العادات والملكات. غير أن العادات والمعارف السطحية قد تؤدي إلى الخداع والمغالطة، فلا تُنتج وعيًا حقيقيًا.
الاستقراء والعلاقات الواقعية
يتناول الاستدلال الاستقرائي الظواهر الواقعية الخارجية والتطبيقية، ويعتمد على تعريف ووصف الظواهر تجريبيًا، أو يكون أساسًا للاستدلال الاستنتاجي من خلال اكتشاف العلاقات المتآلفة والمترابطة التي تتسم بالتناسب والتشابه بأعلى درجات الاحتمال. فالعلم والوعي يتشكلان من خلال التفاعلات والتجانس؛ فكلما كانت هذه التفاعلات أقوى، استُخدمت بياناتها في إنتاج الوعي، وكلما ضعفت، انزوت إلى العمق، وأصبحت بعيدةً عن الاستخدام ومخفيةً.
لا يصل العلم الاستقرائي إلى الحقيقة المطلقة، بل يكتفي بالواقعية. فالإدراك والتجربة البشرية تعكسان الواقع، لا الحقيقة، وهناك فرقٌ بينهما. فالواقعيات ليست فقط في متناول التجربة والوعي والذهن المادي، بل إن الذهن السليم يُدرك مظهر كل واقعٍ وخصائصه بحضورٍ مباشرٍ داخل نفسه. ويُعدّ الذهن السليم صورةً مطابقةً للواقع الخارجي، وتكون المطابقة مع الواقع معيارًا ذاتيًا له، إذ يُمثل الذهن جوهر الواقع نفسه. ومع ذلك، فإن المطابقة شرطٌ أساسيٌّ للعلوم والمعارف الملتبسة.
الشريعة والواقعية
تعتمد الشريعة في أحكامها وآثارها العملية على المظهر الخارجي للواقعيات، التي تُنتج ظنًا نوعيًا فحسب. ففي الاجتهاد، تُعطي الشريعة حجيةً للظهور الموثوق، من خلال التنجيز والتعذير التنزيلي، وتُعتمد الإمارات الشرعية التي تُقدم كشفًا ناقصًا عن واقعٍ ناقصٍ، لا كشفًا ضروريًا كاملاً. كما تُعترف بالمبادئ العملية التي لا ترتبط بالواقع مباشرةً، بل تُستخدم لتجنب الحيرة في مقام العمل.
تُجيز الشريعة هذه الإمارات والمبادئ تعبديًا، وتجعلها بديلاً عن الأدلة القطعية، دون أن تستند إلى الحقيقة أو حتى الواقع ذاته، ولا تُكلف بكشفهما أو العمل بهما. بل إنها تُجيز الظن الناشئ عن الظواهر، وتُقرّ العمل بالمظهر الموثوق طالما لم يُقم دليلٌ قطعيٌّ ضده أو يُردعه، حتى في حال توفر العلم والوصول إلى الوعي. وتُعتبر هذه الظواهر كافيةً ومنجزةً وثابتةً ومعذرةً، وتمنع العقاب حتى لو كانت مخالفةً للواقع.
قابلية الإنسان للخطأ
الإنسان، بما هو إنسانٌ يمتلك طبيعةً بشريةً، ليس معصومًا من الخطأ في إبداعه الذهني، بل هو عرضةٌ لاحتمال الخطأ الجزئي والنسبي في وعيه، وتفكيره، وعقله النظري والعملي. فدماغ الإنسان قد يُزيّف الواقعيات، أو يُنتج ذاكرةً وهميةً، كما أن الإدراك والمعرفة الشهودية المباشرة قابلةٌ للخطأ واقعيًا، وإن لم تكن كذلك عقليًا أو ضروريًا. وتتحقق السلامة من الخطأ نسبيًا من خلال الاستدلال البرهاني العقلي، والالتزام بمنطق العلوم، ومنهجيةٍ صلبةٍ، إلى جانب النقاء، والإيمان، وموهبةٍ إلهيةٍ خاصةٍ يُنعم الله بها على بعض الأفراد.
الاستقراء والتجربة العلمية
الاستقراء هو تحقيقٌ تجريبيٌّ يعتمد على دراسة نماذجَ جزئيةٍ لاستخلاص حكمٍ عامٍ. وتكمن حجية التجربة في الثقة الناتجة عن الملاحظة المتكررة وغير العَرَضية. فإذا اقترن التحقيق بالتحليل، والوصف، والتعليل، والاستنباط، والتجربة العلمية، والربط المتناسق والمعني، أدى إلى الثقة، والتعميم، والتخصيص، وتطبيق الحكم. وهذا من قبيل التفكير القياسي في مجال فهم الواقعيات، التي تختلف عن الحقيقة. وبحسب طبيعة الواقعية، تُعدّ التجربة دليلاً وحجةً معتبرةً.
ينشأ الظن والثقة في العلم التجريبي من الربط المعني والموثوق. والتجربة العلمية، المعنية بفهم مظاهر وخصائص الواقعيات، لا يُتوقع منها أكثر من أن تكون دليلاً معتبرًا. فالظن والثقة، في هذا السياق، يعنيان تفضيل جانب الظهور والتحقق، مع احتمال وجود الجانب المقابل أو الخلاف. ولا يمكن للظن أن يكشف الواقعية كليًا وبدون خطأ، كما تقتضي طبيعة الواقعية ذاتها. ومع ذلك، فإن التجارب المؤكدة تمتلك حجيةً ومصداقيةً.
قوة التجارب المتكررة
عندما تُدرس الملاحظات المتكررة بصورةٍ جماعيةٍ، لا فرديةٍ، فإنها لا تُنتج مجرد مجموعة من القيم الصفرية، بل تُفيد ظنًا موثوقًا وثابتًا، يُعتبر دليلاً معتبرًا عند العقلاء وعلمًا واقعيًا بفضل معناه العميق. فالتجارب تُستند إلى قياسٍ ضمنيٍّ يتمثل في أن الحدث أو الإحساس الذي يتكرر باستمرارٍ أو غالبًا نحو غايةٍ معينةٍ يدل على علاقةٍ ضروريةٍ، لا عَرَضيةٍ مطلقةٍ أو نسبيةٍ. وهذا يكفي لفهم الواقعيات، شريطة تجنب الفخ الشائع المتمثل في تزييف أجزاء من الواقعية بدلاً من كليتها، أو الوقوع في مغالطة الاختزال.
لا ينبغي توقع اليقين من التجارب، ولا اعتبار الوعي السطحي عميقًا. فالنقطة المثلى لبداية الوعي والمعرفة هي إدراك المحسوسات والتجارب بمنهجٍ استقرائيٍّ وتجريبيٍّ. ويجب تحويل الوعي المفهومي والذهني إلى إدراكٍ عمليٍّ وقابلٍ للملاحظة في المعامل، ليكون منتجًا.
الاستنتاج والتجربة
المنهج الاستنتاجي، أو الاستدلال القياسي، الذي يكشف مبادئ الوعي عبر الاستدلال المنطقي، لا ينبغي أن يقتصر على وعيٍ غامضٍ أو معرفةٍ مفهوميةٍ باهتةٍ. بل يجب أن يكون وسيلةً للوصول إلى ساحة الحضور، واللجوء إلى التجربة أو الشهود. لذا، ينبغي أن تتحول التعريفات المفهومية، التي تصف المفاهيم بمفاهيم أخرى، إلى تعريفاتٍ عمليةٍ، تُحدد أفضل الطرق لتجربتها أو قياسها.
من لا يستطيع فهم الجسم، والعالم المادي، والطبيعة عمليًا من خلال القياس، والتجربة، والتعلق الوجداني، والتآلف، الذي يُمثل جوهر الارتباط والوصول عبر التفاعل العاطفي، لن يتمكن من إدراك واقعيتها. وهذا يُفضي إلى الذهنية المفرطة، فيتحدث عن معانٍ ومعقولاتٍ غير موجودةٍ، ويفقد العالم المحسوس بإهمال التجربة، فيحل الجهل، والخداع، والمغالطة محل الوعي والمعرفة.
طبيعة الاستقراء والواقعية
نتائج الاستدلال الاستقرائي، الذي يكشف الواقعيات، ليست قطعيةً أبدًا، وهذه خصيصة الواقعيات، ولا يُتوقع منها أكثر من ذلك. لكن كلما أُجري تحقيقٌ أدق باستخدام المنهج العلمي، والأدوات المتقدمة، والتعاون الجماعي، ومشاركة المعرفة حول واقعيةٍ معينةٍ، ازدادت جودة الاستقراء وقوته. ونظرًا للطابع النوعي للواقعيات، وانشغالها بالمظهر السطحي، وتأثرها بالسطحية، وعدم محدوديتها، فإنها تخضع لاحتمالاتٍ متعددةٍ، وتظل بياناتها قابلةً للمراجعة.
إن رفض هذا الارتباط يُؤدي إلى اضطرابٍ شاملٍ من عدم الثقة، وعدم الاستقرار، والتذبذب. ومن جهةٍ أخرى، فإن احتمال الخلاف البسيط في عالم المادة المتغير، الخالي من الثبات، والواقعيات المتقلبة، يُحفز الذهن ليكون أكثر يقظةً وإبداعًا، فيُنتج وعيًا جديدًا.
حجية الواقعية
إن قبول الواقعية يستند إلى أن إنكار وجود الواقعية يستلزم إثبات واقعيةٍ عينيةٍ لا تُنكر (أي نفس فعل الإنكار)، وهي لا تقبل النفي أو البطلان. وبالتالي، فإن إنكار الواقعية يُفضي إلى تناقضٍ يُبطل معناه ذاته.
الواقعيات، إذا كانت عادلةً، تكون متسقةً مع الحقيقة أو صادقةً. أما إذا لم تكن عادلةً، فهي مجرد واقعياتٍ محضةٍ، تتمتع بالتحديد، والخصائص، وقابلية الارتباط، والتشابه، والتناسب. لكن الحقيقة واحدةٌ، قابلةٌ للوصول عبر التعلق الوجداني والوحدة، وتتحقق في إطار المعرفة، والقلب المجرد، والروحانية، والشهود الباطني.
الإدراك والتطبيق العملي
الإدراك والتلقي يعنيان الانتباه إلى الشيء، والارتباط به، والوصول إليه، واكتساب الوعي به، والعمل بمقتضاه. ويُحدد التطبيق العملي بحسب ظروف حياة كل فردٍ، ويخضع لإمكانات بيئته، ويُظهر القدرة على استخدام المعرفة والمهارات في المواقف المختلفة، ويُفضي من خلال تحليل النتائج إلى إنتاج معرفةٍ جديدةٍ.
التطبيق العملي يُعدّ من مكونات المجال المعرفي ومجال التعلم. فالنظريات، إن لم تُترجم إلى تطبيقاتٍ عمليةٍ باستخدام الأدوات والتقنيات المناسبة، تصبح بلا جدوى، ومملةً، ومربكةً.
مكونات المعرفة والتعلم
تتألف المعرفة والعلم من الفهم، والإدراك، والتطبيق العملي، والتحليل، والتفاعل العاطفي الحميم، والارتباط الوجداني، والتقييم، وقياس مدى تحقيق الأهداف بصورةٍ وصفيةٍ. وهذه العناصر تُشكل مكونات المجال المعرفي ومجال التعلم، التي تتكامل لتُنتج وعيًا متكاملاً ومثمرًا.